ظلَّ السياسيّ هو من يَحتلُّ واجهة الأحداث، وهو من يتولَّى السلطة، في حالة الثورة أو الانقلاب أو الانتخاب، باعتباره «القائد» و «الزعيم»، أو «الكاريزما» الذي يملك الحلَّ لكل المُعْضِلاتِ، وأنَّ الخلاصَ لن يكون إلاَّ على يَدِه.
في الواقع العربي، الذي لم تتخلَّص فيه الثقافة العامة من مفهوم وسلطة وهيمنة الزعيم والقائد، نظراً لأسبابٍ تعود لطبيعة بنية السلطة نفسها، ولطبيعة التكوين الثقافي للإنسان العربي، وما تُرَوِّجُه المدرسة والإعلام، من أفكار ومعلومات، حول «الفرد المُخَلِّص»، وحول أهمية ودور «القائد»، في الحفاظ على وحدة وتماسُك الأمة، وما تُرَوِّجُه السلطة نفسها من ظلال أسطورية على هذا «الزعيم»، لا يزال هذا الوعي منتشراً بشكل واسع، خصوصاً في صفوف الشريحة الواسعة من غير المُتَعَلِّمِين، ممن يتلقَّوْن معارفهم عبر وسائط مختلفة، وأصحاب المصالح، ممن يحرصون على بقاء الوضع على ما هو عليه، وهؤلاء، بشكل خاص، هُم سلطة في قلب السلطة، وزعامة في قلب الزعامة، أو هُم الذين تتغذَّى الزعامة من دَعْمِهِم، سواء أكان دعماً مادياً، أم معنوياً.
إضعاف المثقف، وحَشْرُه في زاوية ضَيِّقَةٍ، باعتباره الشَّاعِرَ الرومانسيَ الحالِمَ، أو الكاتِبَ المشتغل بالأدب، أو المفكر الغارقَ في تجريداته النظرية، أو في يوتبياه التي لا علاقة له بحياة وبواقع الناس، أو الفنان المجنون الذي يختلق الصور والرُّسومات، أو يُضْحِك الناس، ويُرَفِّه عنهم في المسارح وقاعات العرض العمومية، وأنَّ السياسة هي تدبير إداري للشأن العام، ومعرفة بقواعد «القيادة»، وثقافة خاصة لا يمكن أن تكون لها علاقة بالمعرفة ولا بالفن ولا بالثقافة، من بين المهام الكبرى التي تعمل مؤسَّسات مختلفة على ترويجها، واعتبارها قاعدةً عامَّة، تنطبق على كل المثقفين، ممن لا يُجِيدون «فن القيادة» بتعبير سقراط نفسه.
في الصورة التي بدا فيها عدد من المثقفين المصريين، «يُبايِعُون» السيسي على حكم مصر، أو يباركون له، بالأحرى، يمكن اسْتِشْفاف الهزيمة القاسية التي جعلت المثقف تابعاً، لا قرارَ له، وعاجزاً، بالكامل، على أن يكون طرفاً في المنافسة على السلطة. ففي الوقت الذي خرج فيه حمدين صباحي، من اليسار، ومن قاعدة جماهيرية لا علاقةَ لها لا بالجيش ولا بالسلطة، في ما يبدو، وهو واحد من «المثقفين»، أو من له علاقة بالمثقفين، تركه المثقفون يخوض اللُّجَّ لوحده، واستهانوا بقدرته على «الحكم الرشيد»، واختاروا الورقةَ الرابحةَ، التي كانت أولى نتائجها، إعادة وزير الثقافة المُنْدَحِر إبَّان أوْج الثورة، لموقعه الذي لم يرفض العودة له، لأنَّه كان بين المثقفين الذين راهنوا على عودة العسكر للحكم، بالزَّيِّ المدني، طبعاً، لأَّن ما تعلَّمَه هذا المثقف نفسه، هو أن يكتفي من الغنيمة بالإياب.
الجميع نسَوْا الفضاء العام، وتجاهَلُوه، وعادوا لِكَنَف «السلطة»، دون أن يستعيدوا المفاهيم الكبرى التي اعتبرتْ الفضاء العام، كما تقول حنَّا آرنتْ «هو مجال للفردانية والدِّفاع عنها، ومجال للعقل والتفكير أيضاً» ولذلك عادت لتُؤكِّدَ على الفرق بين «جمهورية أفلاطون» و «حاكم يحكم بالسيف والجيش »، فهي ترى أنَّ هذا هو السبب الذي جعل أفلاطون يضع فيلسوفاً [مثقفاً] على رأس جمهوريته، ولم يطلب «حاكماً ماكراً كما فعل مكيافللي، ولا حاكماً يحكم بالسيف والجيش»، لأنَّه جعل من العقل [والفكر] قائِدَ مجالِه السياسي، ويُمارس الضبط باسمه.
في هذا التصوُّر، الذي هو حصيلة عمل وبحث عميقين ودؤوبيْن، يبدو الفرق بين الفِكْريْن، والبنيتين، وما يمكن أن يَحْدُث من فروق، في حالة ما بقيتْ ثقافة الإنسان محكومة بهذه الثنائية الضدية التي، دائماً، تكون فيها الحظوة والسيادة لـ «الزعيم»، أو «القائد»، أو من في يده السيف، لا من يمسك القلم. وهذا ليس هو وضع الدول الديمقراطية، التي لا مكان فيها للسيف، لأن خبرة هذه الدول بقهر وظلم السيف إبَّان الحرب العالمية الثانية، بشكل خاص، جعلتْ مثقفيها يكونون حاضرين لصالح سلطةٍ مَدَنِيَة، هي في نهاية المطاف، سلطة تحكمها مبادئ «الثورة» و تحكمها أُسُس البناء الديمقراطي، ونزاهة الاقتراع.
في هذا نفهم معنى تنازل المثقف العربي عن صوته، وهو تنازُل مشروط بما سيحصُل عليه من غنائم، أو ما يمكن أن يجنيه في ظل سلطةٍ، وحاكم، وقائد، أو مؤسَّسَة، هو يعرف ما تحمله في جيوبها من هدايا، وما يمكن أن تقدمه له من أُعطياتٍ، وهذا ما يحدث في أغلب البلدان العربية، إذا استثنينا، بشكل حصري،تونس، رغم ما حدث من إشارات سلبية تجاه الثقافة والمثقفين، والدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف، في قيادة الأزمة وتدبيرها.
صــلاح بوســريف