ما من حشرة او طائر او حيوان تشترط لأن تدافع عن سلالتها او حتى جحورها بوليصة تأمين تاريخية، انها تقاوم بالغريزة لهذا انقرض الديناصور العملاق ولم تنقرض، وثمة فهم يتم الان تسويقه للتاريخ لا يقبل به اي كائن، هو التسليم بفائض القوة، وبالتالي الامتثال للواقعية بكل ما تمليه من شروط، والفلاحون العرب خصوصا في فلسطين يحفظون حكايات عن طيور افتدت اعشاشها بأن شاغلت الصيّاد لتكون الهدف البديل عن فراخها، حتى الشجر له دفاعاته سواء بالشوك كثمرة الصبير او الورد، او بالارتفاع عن سطح الأرض، حيث تستطيل الجذوع لاستدراج من يتطفل على العناقيد ومن ثم سقوطه مضرّجا بلعابه بفعل جاذبية الأرض .
هذه الملاحظات تداعت في ذاكرتي لمجرد ان قرأت سطرا واحدا من ملخص التاريخ الذي وضعه ويل ديورانت بمشاركته زوجته، ليقول على مدى اربعة الاف وثلاثمائة وعشرين عاما، اشتملت عليها صفحات التاريخ، فإن مئتين وستين عاما فقط لم تشهد حروبا، لكن السلام خلالها كان نسبيا، وأقرب الى الهدنة التي تعيد فيها الأطراف حساباتها وشحذ اسلحتها، واحصاء خسائرها او غنائمها، من هنا فإن أية ثرثرة عن سلام متخيّل على هذا الكوكب هي اشبه بحقن تخدير تقدّم للمغلوب كي يتأقلم مع الامر الواقع الذي هو في نهاية المطاف هزيمته.
فالدوافع البدائية للعدوان لم تتطور لكن ادواتها هي التي تطوّرت، فما دافع الانسان به عن نفسه وسلالته بالحجر والسيف والمنجنيق هو ذاته الذي يدافع عنه بالصاروخ والقنبلة، وكذلك الغزاة الذين لم يطرأ اي تحديث على شهوتهم للسطو والاخضاع، لكن ما تغيّر وتطور هو أدواتهم وأسلحتهم.
وقد تكون هذه مقاربة باردة لمجزرة الهولوكوست غير مسبوق على هذا النحو من الابادة والتوحش . لكن ما يحدث في قطاع غزة، اقترن منذ الرصاصة الاولى والطفل الذبيح الاول بالقطيعة وكأن القطاع توأم القطيعة، في وقت رمادي يعيشه العربي الذي اجريت له جراحة بتخدير محكم لاستئصال نخاعه، بحيث يتحول من كائن وجودي مشروط بالوعي والهوية الى مجرد امعاء تسعى كالثعابين ومن ملكوت الحرية الى أقبية الضرورة واخيرا من الانسان الى ثديي يتكاثر دون ان يستطيع الدفاع عن سلالته . ولكي لا نكرر الندب الموسمي الذي يتقنه محترفو المآتم بانتظار الوليمة في نهاية العزاء، سنبحث عن مدخل آخر، ومن بوابة موصدة، سمل الصدأ القفل المتدلي عليها وتكسّرت فيه المفاتيح تباعا ..
* * * * * * * *
منذ اربعة عقود على الأقل، بدأت بوكير تلك الجراحة السايكولوجية بمباضع العولمة التي تعني التذويب والتهام الأضعف على طريقة ما قاله فاليري، وهو ان الاسد في النهاية هو قطيع خراف مهضومة، وثمة من قرعوا الأجراس من مثقفين مطرودين عن موائد النظام واللئام، منهم زكريا تامر الذي حذّر مما ستصل اليه النمور بعد اليوم العاشر، فهي حتما ستغدو كالخراف، وتساس بعصا الراعي ثم تتأقلم مع البيئة الجديدة وتقبل الحشائش والاعشاب غذاء لها وتصبح نباتية .
وكان الراحل الماغوط قد أدمى اصابعه وهو يقرع الاجراس، بدءا من مقايضة صقر قريش بشاحنة قمح، حتى تعذيب الدحّام بكل الزجاجات ومن مختلف الاحجام. اما وصية أمل دنقل لأخيه بأن لا يصالح، فقد انتهت الى عناق قنافذ بين القاتل وأرملة القتيل، وما سماه اشياء لا تشترى كالعيون صار معروضا في المزادات السرية والعلنية خلف الواجهات، وأصبحت عيون الناس من الزجاج فلا ترى انعكاساتها في مرايا هي في حقيقتها زنازين !!
وما كان للعربي ان يصبح منزوع النخاع ومجرد رقم اصمّ في استمارات وطلبات توظيف وفواتير وكمبيالات بنوك لولا ان هناك ثقافة ذات اطروحات مضادة تسللت من كل مسامات جسده الى العقل والقلب فكان اول ما فقده هو الذاكرة، لهذا لا يتذكر الان اسم من قتل أباه ومن قصف مدرسته ومن عصر جسده كالبرتقال وباعه. فهو يخجل من اسم امه اذا كان آمنة او فاطمة او عائشة، ويود لو يستطيع تغيير اسمه او كشط لونه «كما فعل مايكل جاكسون» الذي قدّم اردأ اجابة في التاريخ عن سؤال سؤال سارتر في خمسينيات القرن الماضي وهو يكتب عن اورفيوس الاسود من خلال ايميه سيزير وليوبولد سنغور… وهو اذا ولدت اسود فما الذي تفعله بسوادك، هل تجري جراحة لجلدك كي تصبح شبيها بأنغلوساكسوني، او تشهر لونك كما شهره فرانز فانون وايميه سيزير في وجه البياض الاسود ؟ ولو حوّرنا السؤال واصبح ما الذي تفعله بعروبتك اذا كان قدرك ان تولد عربيا: ان الاجابات الان على قارعة الطريق، وفي ضواحي نابلس وغزة وجنين والناصرة. فثمة عربي تأسرل وتعبرن ورطن باسم امه، مقابل عربي آخر اصبح كالشنفرى، وسمم ما تبقى من عظم قدمه ألف عدو بعد موته ….
* * * * * *
كتب برتولد برخت ذات مجزرة … ماذا اقول والدم يسيل في الشوارع…. ونحن بدورنا ماذا نقول، ودمنا يرشح من الشاشات واوراق الصحف ؟؟ وهل فقدنا آخر ما تبقى من خيال بحيث لا نضع انفسنا ولو لدقيقة مكان هؤلاء الذين يحرقون ويذبحون لأنهم هناك فقط، …
كيف لا اخجل من تقبيل حفيدتي وانا اشاهد حفيدة اخرى تُذبح في الشجاعية ؟ المسألة الان ابعد من الاعتذار وأنكى من الانتحار، لأن ما نشعر به هو اننا قطيع لاذ بالفرار حين امسك وحش سادي بأحد افراده … هناك اذن من ينوب عنك في الدفاع عن جسدك وبيتك وحفيدتك، فبماذا تنوب انت عنه … ؟ لو كان العربي الراطن باسم امه من قبيلة غزيّة لقال بأنه رهن ارادتها، وان غزت غزا، وان رشدت رشد، لكن غزّة لا تقبل التصغير بحيث تصبح غزيّة، ومعناها في اعرق اللغات المنيعة !
خيري منصور