تعودنا أن نسمع عن توازن في القوة أو توازن في الرعب، ولكن الجديد هنا هو أن نسمع عن توازن في الضعف. لم يحدث أن عرفت السلطة والمعارضة ضعفا متزامنا مثل ما هو حاصل الآن، فالسلطة الحاكمة تعيش اليوم أشد لحظات ضعفها، ولم تعد تمتلك من نقاط القوة إلا نقطة واحدة وهي أن معارضتها ضعيفة جدا، والمعارضة تعيش اليوم أشد لحظات ضعفها، ولم تعد تمتلك ـ هي أيضا ـ من نقاط القوة إلا نقطة واحدة تتمثل في ضعف السلطة الحاكمة.
إن هذا التوازن اللافت في الضعف لابد وأن يختل في لحظة ما، ولكننا لا نعرف بالضبط متى ستأتي تلك اللحظة، ولا كيف ستأتي، والشيء الذي يمكن قوله الآن هو أن هناك مظاهر مصاحبة ودالة على هذا التوازن في الضعف بين السلطة والمعارضة.
المعارضة الموريتانية من روح الرفض إلى روح الاستسلام
إن المتأمل في حال المعارضة الموريتانية في الفترة الأخيرة لابد وأنه سيلاحظ بأن هذه المعارضة كانت تمتلك روحا رافضة من قبل استفتاء 5 أغسطس 2017(لنتذكر المسيرات غير المرخصة التي قادها بعض زعماء المعارضة قبيل الاستفتاء)، ولكن هذه المعارضة أصبحت من بعد استفتاء 5 أغسطس تمتلك روحا مستسلمة، ولا أريد أن أقول روحا انهزامية، وتتجسد هذه الروح الاستسلامية في:
1ـ عدم تنظيم أي نشاط احتجاجي معارض للتنديد باختطاف السيناتور محمد ولد غدة، والذي مر على اختطافه ما يزيد على ثلاثة أشهر ونصف، هذا فضلا عن عدم تنظيم أي نشاط آخر للتضامن مع الشيوخ والصحفيين والنقابيين المشمولين في الملف.
2ـ عدم تنظيم أي نشاط احتجاجي للوقوف ضد فرض نتائج الاستفتاء غير الدستوري (إلغاء مجلس الشيوخ؛ العلم الجديد...)
3ـ عدم تنظيم أي نشاط احتجاجي للتعبير عن رفض المحاصرة الإعلامية التي تتعرض لها المعارضة الموريتانية من طرف الإعلام الرسمي، والتي لاشك بأنها قد أصبحت أكثر خطورة من بعد إغلاق القنوات التلفزيونية الخاصة والاستمرار في إغلاقها.
لم تنظم المعارضة الموريتانية أي نشاط احتجاجي من بعد استفتاء 5 أغسطس، ولم تدافع عن مقاطعة الشعب الموريتاني لهذا الاستفتاء، ولما فكرت المعارضة في تنظيم أول نشاط احتجاجي من بعد طول غياب رفضت السلطة الحاكمة أن ترخص لها، الشيء الذي جعل معارضتنا المستسلمة تكتفي بتنظيم مؤتمر صحفي تعلن من خلاله تأجيلها لمهرجان الرفض إلى يوم السادس عشر من الشهر القادم، وربما يتم تأجيل هذا المهرجان مرة أخرى ليكون من ضمن أنشطة العام القادم.
المعارضة تضيع فرصة لن تتكرر أبدا
قد يقول قائل بأنه علينا أن نتفهم واقع المعارضة، فهذه المعارضة محاصرة حصارا شديدا من طرف السلطة، ولذلك فهي تجد صعوبة كبيرة في تنظيم أي نشاط جماهيري، فمثل هذه الأنشطة الجماهيرية تحتاج إلى المال، كما أن من يشارك فيها قد يتم التعامل معه بعنف وتنكيل من طرف الأمن الشيء الذي قد يقلل الحماس لدى البعض.
فعلا هذه التحديات قائمة ومطروحة، ومن هنا كان على المعارضة أن تفكر في أنشطة احتجاجية بديلة لا تحتاج إلى إنفاق أموال ولا تتطلب حشد الجماهير في مكان محدد. من هنا تظهر أهمية رفع علم الاستقلال خلال شهر نوفمبر على أسطح المنازل، فلو أن قادة المعارضة دعوا إلى نشاط من هذا القبيل لاستجاب لهم الكثير من الموريتانيين، والذين كانوا قد عبروا ـ بلغة سياسية فصيحة وصريحة ـ عن رفضهم لتغيير العلم، وذلك من خلال مقاطعتهم الواسعة لاستفتاء 5 أغسطس. ولو أن دعوة من هذا القبيل تم إطلاقها لارتفع علم الاستقلال على كثير من أسطح المنازل (أشير بأنه لا يوجد حتى الآن ما يحرم رفع علم الاستقلال، وقد صدر تعميما بالاستمرار في رفع هذا العلم على المؤسسات العمومية حتى مساء 27 نوفمبر).
إن مثل هذا النشاط الاحتجاجي كان سيضع السلطة في حرج شديد، فهي إن تركت المواطنين يرفعون علم الاستقلال فسيظهر مدى الرفض الشعبي للعلم الجديد ولنتائج الاستفتاء، وإن قررت قمع المواطنين الرافعين لعلم الاستقلال فستجد بأنها بحاجة إلى قمع وسجن عشرات الآلاف من الموريتانيين.
إن الدعوة لرفع علم الاستقلال كان يمكن أن تشكل بداية لعصيان مدني، وهي كانت ستشكل ردة فعل مناسبة لمستوى القمع الذي أظهرته السلطة من بعد الاستفتاء (اعتقال شيخ والمتابعة القضائية لشيوخ آخرين؛ منع الترخيص لمسيرات وتظاهرات المعارضة؛ القمع الوحشي وتعرية بعض متظاهري النصرة؛ إغلاق القنوات الخاصة...).
لقد رفعت السلطة من مستوى القمع ومن مستوى الاعتداء على الحريات العامة، وكان على المعارضة أن تقابله بزيادة مستوى الاحتجاج كالمطالبة برفع علم الاستقلال بدلا من الخنوع والاستسلام والدعوة إلى مؤتمر صحفي عاجل لتهنئة الجيش وللإعلان عن تأجيل أول نشاط احتجاجي تتم برمجته من بعد طول غياب.
إلى ماذا ستؤدي الروح الاستسلامية للمعارضة الموريتانية؟
من أخطر الأمور التي يمكن أن تؤدي إليها هذه الروح الاستسلامية للمعارضة الموريتانية هو أنها قد تشجع الرئيس على التفكير من جديد في مأمورية ثالثة، فالمعارضة التي قبلت بنتائج الاستفتاء غير الدستوري، لن يكون بإمكانها أن ترفض تشريع مأمورية ثالثة عن طريق الجمعية الوطنية، فتشريع مثل هذه المأمورية سيكون دستوريا من الناحية الشكلية، وذلك بعد أن يصوت عليه ثلثا أعضاء الجمعية الوطنية في ظل غياب مجلس الشيوخ الذي لم تم إلغاؤه من خلال استفتاء 5 أغسطس. إن قبول المعارضة بالأمر الواقع، وقبولها الضمني لاستفتاء 5 أغسطس، ولما ترتب عليه من نتائج كتغيير العلم وإلغاء مجلس الشيوخ، إن قبولها بكل ذلك سيجعلها مجبرة على القبول بمأمورية ثالثة إن شرعتها الجمعية الوطنية. وعموما فإن تشريع مأمورية ثالثة سيكون أكثر دستورية ـ على الأقل من الناحية الشكلية ـ من إلغاء مجلس الشيوخ وتغيير العلم الذي قبلت به المعارضة عمليا.
هل هناك تفكير جدي في مأمورية ثالثة؟
في اعتقادي بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لم يحسم حتى الآن أمره، فهو يرى ـ ولأسباب موضوعية ـ بأنه لا يستطيع أن يخرج من السلطة من بعد انتهاء مأموريته الثانية، وهو يعلم أيضا بأن البقاء فيها من بعد اكتمال المأمورية الثانية هو أمر أكثر استحالة. إنه الآن في حالة ارتباك شديد، ويراقب عن كثب الأوضاع وتفاعلاتها، وعلى ضوء تلك التفاعلات سيتخذ قراره النهائي، ومن المؤكد بأن الروح الاستسلامية التي ظهرت بها المعارضة الموريتانية من بعد استفتاء 5 أغسطس ستشجعه أكثر إلى التفكير بمأمورية ثالثة. في المقابل فإن هناك عاملا آخر ظهر في الفترة الأخيرة سيصعب من تمرير مأمورية ثالثة، والتي يحتاج تمريرها إلى مستوى من القبول الخارجي والداخلي. وفي هذا الإطار فقد حاول الرئيس في الفترة الأخيرة أن يكسب ود الطرفين (الداخلي والخارجي) من خلال تمرير صفقة ذكية عن طريق ملف كاتب المقال المسيء. لقد حاول الرئيس أن يكسب تعاطفا شعبيا على المستوى الداخلي من خلال تعديل المادة 306، وأن يكسب في نفس الوقت تعاطفا خارجيا من خلال إطلاق سراح كاتب المقال المسيء. هذه الخطة الذكية التي حاول الرئيس أن يكسب من خلالها ود الطرفين أفشلتها جماهير النصرة بإفشال النشاط الجماهيري الذي تم تنظيمه من بعد تعديل المادة 306 والذي كان برعاية رابطة العلماء؛ ورابطة الأئمة؛ ورابطة الحفاظ؛ ومنتدى العلماء، وكان الهدف منه نصرة ولد عبد العزيز من خلال تثمين تعديل المادة 306، وبعث الروح من جديد في شعار "رئيس العمل الإسلامي".
هل يمكن عمليا تمرير مأمورية ثالثة؟
من الصعب جدا أن يتم تمرير مأمورية ثالثة، فنظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد بلغ من الضعف مستوى سيجعله غير قادر على إكمال مأموريته الثانية إلا بشق الأنفس، ولذلك فإنه لن يكون قادرا على فرض مأمورية ثالثة، ولن تكون المعارضة ـ إذا لم تغير من حالها ـ هي من سيحول دون ذلك، فالمعارضة تعاني هي أيضا من ضعف شديد سيجعلها غير قادرة على الوقوف في وجه النظام، ولا في أن تكون بديلا له في العام 2019.
إن المعارضة بنسختها الحالية لن يكون بإمكانها أن تكون بديلا للنظام القائم، إن لم تغير من نهجها ومن أساليبها. وبالعودة إلى الماضي القريب فسنجد بأن المعارضة لم يكن لديها أي دور يذكر في الأحداث الهامة التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة، فهذه المعارضة كانت غائبة عن احتجاجات قانون السير، وعن احتجاجات النصرة، وعن احتجاجات التعليم الأخيرة والتي شهدتها بعض المدن في الداخل. أما على الصعيد السياسي، فإن أهم إنجاز سياسي تحقق في الفترة الأخيرة فقد كان إسقاط الشيوخ للتعديلات الدستورية، وهذا قد حصل من خلال المساهمة الفعالة لشيوخ محسوبين على الحزب الحاكم.
إن هذه المعارضة التي لم تستطع أن تصنع الأحداث، ولا أن تكون فاعلا قويا في الأحداث الهامة التي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة، لن يكون بمقدورها أن تكسب رهان 2019 إذا لم تبدأ ومن الآن في مراجعة أساليب نضالها.
من سيكسب رهان 2019؟
في ظل هذا الضعف الواضح الذي تعاني منه السلطة والمعارضة على حد سواء، وهو الضعف الذي سيجعل الرئيس غير قادر على البقاء من بعد اكتمال مأموريته الثانية، والمعارضة غير قادرة على أن تكون بديلا له من بعد اكتمال تلك المأمورية، في ظل توازن الضعف هذا فإنه سيكون من المهم طرح السؤال : من سيكسب الرهان في العام 2019؟
إن البحث عن إجابة لهذا السؤال الشائك قد يقودنا إلى بعض نماذج التغيير التي حدثت في بعض الدول الإفريقية في السنوات الأخيرة، والتي كانت من أهمها التجربة البوركينابية، فالرئيس البوركنابي الحالي "روش مارك كريستيان كابوري" كان من أركان نظام الدكتاتور "أبليز كامباورى"، وكان قد شغل في العام 1994 منصب رئيس وزراء، وتولى من بعد ذلك رئاسة البرلمان لعشر سنوات، ولكنه استقال في مطلع العام 2014، وابتعد بذلك عن نظام "أبليز كامباوري"، لينتخب من بعد ذلك بعامين تقريبا رئيسا لبوركينافاسو.
إن مثل هذا السيناريو قد يحصل في بلادنا، ولكنه يحتاج لشيء من الجرأة والشجاعة، لم تتوفر حتى الآن لدي أي شخصية من أركان النظام القائم، وتبقى الحالة الوحيدة التي يمكن الإشارة إليها في هذا المجال هي الخطوة التي اتخذها بعض الشيوخ المحسوبين على الموالاة، وعلى رأسهم رئيس خلية أزمة الشيوخ الرئيس الحالي للمجلس.
وباستثناء ما حدث في مجلس الشيوخ، وعلى الرغم من اقترابنا من العام 2019، فإن المخاطرة في صفوف أركان النظام ما تزال شبه معدومة، وهو الشيء الذي سيصعب من استنساخ النموذج البوركينابي.
سيناريوهات أخرى مقلقة
في ظل ضعف المعارضة والسلطة، وفي ظل غياب أي مجازفة في أركان النظام فإن كل ذلك سيفتح المجال أمام احتمالات أخرى للتغيير غير الآمن، كحدوث انقلاب، أو تفجر احتجاجات واسعة لا يمكن السيطرة عليها، الشيء الذي يعني ـ لا قدر الله ـ أن البلاد ستكون على موعد مع حالة من عدم الاستقرار لا أحد يستطيع أن يتكهن بمآلاتها.
ختاما
إن فشل السلطة القائمة وضعفها، وعجز المعارضة عن القيام بدورها في التعبير عن الغضب الشعبي العارم وفشلها في إدارة هذا الغضب وتسييره من أجل إحداث تغيير آمن، إن كل ذلك قد أحدث توازنا في الضعف قد يؤدي إن هو استمر على حاله إلى انفجار الأوضاع، وإلى دخول البلاد في حالة من عدم الاستقرار، وما احتجاجات المصحف وقانون السير والنصرة والتعليم إلا مقدمات في ذلك الاتجاه.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل