تصادفت وفاة الشاعر والأديب المصري الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، مع يوم إصابة الزعيم ورئيس الوزراء المصري سعد زغلول في محاولة لاغتياله عام 1924، فانشغل الناس بحادثة إصابة سعد زغلول عن تشييع جنازة المنفلوطي وتقديم التعازي فيه، فنظم أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة رائعة في ذلك الموقف يقول في مطلها:
اخترتَ يوم الهولِ يوم وداعِ *** ونعاكَ في عصفِ الرياحِ الناعي
هتفَ النعاةُ ضُحىً فأوصَدَ دونهم *** جُرحُ الرئيسِ منافِذَ الأسماعِ
من ماتَ في فزع القيامةِ لم يَجِدْ *** قدمًا تُشَيَّعُ أو حفاوةَ ساعي
ما ضرَّ لو صَبَرتْ ركابُك ساعةً *** كيفَ الوقوفُ إذا أهابَ الداعي؟
خلَّ الجنائزَ عنك، لا تحفل بها *** ليس الغرورُ لميِتٍ بِمتاعِ
سرْ في لواء العبقرية، وانتظمْ *** شتىَّ المواكبِ فيه والأَتباعِ
واصعدْ سماءَ الذكر من أسبابها *** وانهضْ بفضلٍ كالنهار مُذاعِ
إلى آخر القصيدة..
وعندنا هنا في موريتانيا استقبل الوزير الأول الموريتاني صباح أمس في مكتبه وفدا من جماعة الدعوة والتبليغ وتناول اللقاء، حسب وكالة الأنباء الموريتانية، أحوال الأمة وسبل إصلاحها، واتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من خلال الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أطلع الوفد الوزير الأول على نتائج الاجتماع السنوي للقدماء لسنة 2017، وما حققه من نجاح في زيادة عدد الجماعات الخارجة للدعوة إلى الله داخل الوطن وخارجه.
وقبل الأمس أسدل الستار على الاجتماع السنوي لهذه الجماعة بمركز الدعاة في مقاطعة عرفات، بحضور الآلاف من أتباعها وغيرهم من الراغبين في استغلال هذه الفرصة، وحضور ما يعرف عند الجماعة ب " البيان " المقدم بعد بعض الصلوات المفروضة، والمتضمن وعظا وإرشادا وترغيبا في ما عند الله تعالى، إلى غير ذلك من الحلقات الدعوية والزيارات المنظمة للجيران في الأحياء ودعوة الرجال بها خاصة لحضور صلاة الجماعة، وحضور حلقات الذكر التي هي رياض الجنة.. ثم الاختتام بالدعاء الذي يحرص كل من علم بموعده على حضوره، حيث لا يترك الداعية الداعي خيرا من خيري الدنيا والآخرة إلا و دعا به للمسلمين، ولا شرا من شرور الدنيا والآخرة إلا استعاذ بالله منه للمسلمين، وذلك وسط تأمين آلاف الحضور الذين لم تجمعهم سياسية ولا جاه ولا مال..
هذه الجماعة، التي مهما كانت المواقف منها أو من نشأتها أو أهدافها، فإن المتفق عليه هو اتصاف أتباعها بالبساطة والتواضع، والابتعاد عن الشحناء والجدال، وحب الخير للمسلمين والحرص على ما يجمعهم، والابتعاد عن ما يفرقهم سواء كان سياسة أو مذاهب أو اجتهادات، على الأقل في ما ظهر لنا منهم والسرائر يتولاها الله.. هدفهم ومنهجهم ورسالتهم، كما يقولون، هي العمل على إصلاح المجتمع من القاعدة حيث يقولون إنه عندما يصلح المجتمع سيصلح الحكام، تقول لهم هذا صعب وبطيء النتائج.. فيقولون لك هذا هو منهج الأنبياء، الدعوة إلى الله والصبر عليها والله هو المستعان على ذلك وهو في النهاية الهادي إلى سواء السبيل..
وقد خرجت صحبة هذه الجماعة قبل سنوات، وأقر أن غاية خروجي معها في البدء كانت بهدف الاطلاع على ما عندها لكي أحكم علي ما أراه منها لا ما أسمعه عنها، فمكثت معها ثلاثة أيام كانت كلها صلاة في الجماعة وتزكية للنفوس ودعوة وتواضع لله ولمخلوقاته، أما الكتب فكانت كاتبان فقط، كتاب الله وكتاب " رياض الصالحين "، وكل ما كان يدور خلال تلك الأيام الثلاثة هو محاولة للتأسي بما فيهما، لا تنظير ولا نظريات ولا اجتهادات، كما أشهد أمام الله أنه كان معي أشخاص جاؤوا وهم لا يعرفون الفاتحة ولا سورة من القرآن يؤدون بهما صلاتهم، وحتى إذا كانوا يحفظونهما فبطريقة غير صحيحة، بل ولا حتى حد أدنى لديهم مما تصح به الصلاة من طهارة وفرائض وأركان، وقد خرجوا بعد تلك الأيام وهو يحفظون الفاتحة والسور بشكل صحيح، ويعرفون ما تصح به صلاتهم من أحكام وهذا في حد ذاته عمل عظيم، ومعروف ما أسدته هذه الجماعة لشرائح واسعة من المجتمع كانت في ظلمات الجهل بالله وبأدنى أحكام تأدية العبادات، وهداية أخرى كانت في صدود كبير. ويكفي هذه الجماعة أنها لم تفت قط بإهدار دم امرئ، ولم تشترك في إزهاق روحه، والحديث واضح وصريح ( لا يزال العبد في فسحة من دينه لم يصب دما حراما ).
خلال مؤتمر من أحد المؤتمرات السنوية لهذه الجماعة هنا في نواكشوط سنة 2011، حرص بعض قادتها على لقاء رئيس الجمهورية بالقصر الرئاسي، وقد نقل أحد حضور اللقاء من أعضاء الجماعة الموريتانيين، أنهم مازحوا الرئيس خلال هذا اللقاء ودعوه للخروج معهم كعادتهم، وأنه وعدهم بذلك عندما تتسنى له الفرصة، وأنه قال لهم إنه دائما في لقاءاته مع المسؤولين الغربيين، الذين يضعون كل الحركات الموصوفة بالإسلامية في خانة واحدة، يبين لهم الفرق بين جماعة الدعوة والتبليغ ومنهجها القائم على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين بقية الحركات الأخرى المعتنقة للفكر المتشدد، وأنهم قالوا له إن ذلك يكفيهم من خروجه معهم..
وفي نفس السنة سمعنا تسجيلا للداعية الشيخ محمد ولد سيدي يحي يقول فيه إنه على أهل موريتانيا أن يحمدوا الله على هذا العهد الذي تفتح فيه الأبواب والمنابر للدعوة إلى الله دون مضايقة للدعاة، والحرية الممنوحة لهم في تأدية رسالتهم فهذه، يقول، نعمة من أكبر النعم نرجوا من الله تعالى دوامها وتوفيق القائمين على البلد في الثبات عليها.
تزامن مؤتمر جماعة الدعوة والتبليغ هذه السنة مع مناسبة أخرى لفصيل آخر يقول إنه يتخذ من الإسلام مرجعية وله نشاطه الدعوي وإن بمنهجية تختلف، ولكن لقاء الجماعة كان مختلفا رغم الاهتمام الأكبر بالمناسبة الأخرى، فلا صخبا سياسيا إذ لا سياسة، ولا صخبا إعلاميا كذلك، ليس لأن الأمر لا يستحق، وإنما لأن أهل الأمر لا يرغبون في الأضواء وتلك، لعمري، ميزة من ميزات كل عمل هو لله. والعلم عند الله سبحانه وهو وحده، وليس العباد، من يُراقب ويتقبل ويُحاسب ويُجازي وُيعاقب..
مجمدو ولد البخاري عابدين