لم يَعد حال نادي آرسنال وجماهيره يَسر عدوا ولا حبيبا، ولا حتى أكثر الكارهين للنادي توقع أو انتظر وصوله لهذه الحالة التي يُرثى لها، لدرجة إدمانه الخروج المُبكر من جُل البطولات التي يُشارك فيها، كما حدث في بداية العام الجديد بخروجه المُخزي من الدور الثالث لأعرق مسابقة كرة قدم في العالم «كأس الاتحاد الإنكليزي»، على يد نوتنغهام فورست الناشط في دوري التشامبيونشب (درجة أولى)، ناهيك عن الكارثة الحقيقية، بالابتعاد عن المنافسة على لقب البريميرليغ منذ 2004.
هل نتذكر؟
في أغسطس 1996 قررت إدارة آرسنال إقالة المدرب بروس ريوش وتعيين ستيوارت هيوستن بشكل مؤقت، لحين الانتهاء من المفاضلة بين الفرنسي آرسين فينغر، صاحب اللقطة الأشهر في عقد التسعينات، عندما أهداه الرئيس الحالي لجمهورية ليبيريا جورج وياه، جائزة الكرة الذهبية، في حضور أباطرة مدربي العالم آنذاك، في مقدمتهم مدربه في ميلان كابيلو، والآخر خبير الكرة الشاملة الراحل يوهان كرويف، الذي أحدث طفرة غير مسبوقة في تاريخ برشلونة، لكن في النهاية وقع الاختيار على كشاف النجوم، وتحملت الإدارة موجة السخرية من القرار، الذي اعتبرته وسائل الإعلام البريطانية «مقامرة غير محسوبة»، كونه في تلك الفترة كان يقود فريق ناغويا الياباني، وما أدراك ما اليابان في حقبة التسعينات. بدون مبالغة كانت تُعرف بوطن الكابتن ماجد!
مشجع النادي قبل وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، أصيب بصدمة عندما استيقظ على خبر تعيين فينغر مدربا للفريق بدلاً من الأسطورة يوهان كرويف، لكن مع الوقت، أظهر الرجل الفرنسي أن تجربته في بلد التكنولوجيا والروبوت لم تؤثر عليه كمدرب، أو بمعنى أدق، ما زال على مستوى المدربين الجيدين في أوروبا، وعلى دراية بأحدث الأفكار والخطط التدريبية، بجانب هذا توفيقه في بناء جيل رائع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قوامه الرئيسي بالعطر الفرنسي الخالص من نوعية القائد باتريك فييرا والثلاثي المُدمر تييري هنري، وروبير بيريس وسيلفان ويلتورد، مع العبقري الهولندي دينيس بيركامب وبقية القائمة التي سطرت التاريخ، بتحقيق اللقب بدون التعرض ولو لهزيمة واحدة موسم 2003-2004.
بعيدا عن الفارق الشاسع في المواهب التي كان يتعاقد معها فينغر في أول 10 سنوات مقارنة باختياراته في العقد الأخير (باستثناءات تُعد على أصابع اليد الواحدة)، فهناك أزمة حقيقية يُعاني منها الفريق في العشرية الأخيرة، تكمن في غياب شخصية «القائد» الحقيقي في وسط الملعب أو الهجوم، بدليل أن الفريق لم ينهار بعد رحيل قائد الجيل الذهبي فييرا، بل حدث العكس تماما، وكان قاب قوسين أو أدنى من معانقة الكأس ذات الأذنين للمرة الأولى في تاريخه في الموسم التالي، لولا السيناريو الكارثي لنهائي «سان دوني»، الذي أُجبر فيه فينغر على لعب أكثر من 70 دقيقة كاملة بعشرة لاعبين بعد طرد الحارس ينز ليمان في الدقيقة 18، ليأتي العقاب باستقبال هدفين في آخر 10 دقائق، ردا على فرصة الغزال الأسمر، التي أهدرها بغرابة شديدة. الشاهد، أنه منذ رحيل هنري وانتهاء الجيل الذهبي، التي تزامنت مع سنوات التقشف بسبب ديون الملعب الجديد، لم يستعد الفريق نفس الهيبة ولا الشخصية المُخيفة، حتى زيارات آرسنال لملاعب الفرق التي تُكافح من أجل البقاء، لم تَعد مُرعبة كما كانت في عصر الغزال، والدليل سقوطه في آخر مباراتين خارج القواعد أمام نوتنغهام فورست وبورنموث في سبعة أيام! لكن إذا نظرنا إلى صاحب الشأن، سنجد أنه يعيش في عالم مواز تماما لعالمنا، لأنه الوحيد الذي يعتقد أن أزمته الحقيقية مع الحكام، رغم أنه لو قرأ رواية «المرآة»، سيكتشف الحقيقة الواضحة كصقيع يناير.
ماذا تقول الرواية؟
على المستوى الشخصي، أكاد أُصدق ما يدور في عقلي الباطن، أن فينغر ليس مُجرد مدرب بصلاحيات مدير تنفيذي له حق التصرف في قطاع كرة القدم بأكمله، بل شريك مع مجموعة رجال الأعمال المستحوذين على حصة النادي! هذا الرجل قبل 2013 احتاج تسع سنوات كاملة ليُعيد النادي إلى مناص التتويج، بفوزه بشق الأنفس على هال 3-2 في نهائي كأس الاتحاد، وإلى الآن أصبح أقصى طموحه احتلال أحد المراكز المؤهلة لدوري الأبطال، وهذا بطبيعة الحال لم يحدث فجأة أو من قبيل الصدفة، بل نتيجة تخبط إداري متراكم على مدار سنوات، فمدرب آرسنال بنفسه، دائما يتفوق على الجميع في إبراز جودة لاعبي برشلونة وريال مدريد وباريس سان جيرمان وبقية فرق الصفوة الأوروبية، بدون أن يُلاحظ أن مثل هذه التصريحات قد تؤثر على معنويات لاعبيه، لأن تفسيرها الوحيد أنه لا يملك مثل هذه الجودة، والمُثير للشفقة أنه بنفسه دائما يتحدث عن ضرورة تحلي فريقه بالروح القتالية، لكن على أرض الواقع، أجمع المُقربون منه أنه يتعامل بمنتهى اللطف مع لاعبيه، ولا يعرف نغمة التعنيف في غرفة الملابس.
انقلبت النعمة نقمة!
صديقي المُقرب جدا على المستوى المهني والشخصي، أرجع سبب مسؤولية انهيار آرسنال لسياسة فينغر وقناعته القديمة بالإضافة لرؤيته غير الحكيمة في التعاقدات في السنوات الأخيرة، وبحسب تعبيره لم يُطّور من أفكاره ليُواكب العصر كما فعل الاسكتلندي أليكس فيرغسون، الذي لم يمر معه اليونايتد بكبوات حقيقية إلا في سنوات قليلة، هنا تذكرت الفرص الذهبية التي فوتها شيخ مدربي البريميرليغ، بداية بصرف النظر عن فكرة ضم ليونيل ميسي، لعدم قدرة النادي على لتأمين مسكن للطفل الأرجنتيني الفقير جدًا آنذاك، وقبلها بفترة قليلة، كان من الممكن أن يُدشن السلطان زلاتان إبراهيموفيتش أسطورته كلاعب عبر بوابة «هايبري»، لولا اصرار فينغر على خضوعه لفترة معايشة، وهو ما اعتبره زلاتان إهانة واضحة لموهبته. مر في شريط ذكرياتي تصريحه التاريخي عن كريستيانو رونالدو، ومُصطلح أنه ما زال يتألم لأنه ترك الموهوب البرتغالي يذهب إلى «مسرح الأحلام»، ليتحول إلى كابوس لكل خصوم اليونايتد، ومعه تشكيلة فريق الأحلام التي رسمتها قبل عامين لأبرز الوجوه التي رفضها آرسنال وندم عليها بعد سنوات، كان منها أسماء أخرى من نوعية لويس سواريز وفينسنت كومباني وفاران وكانتي ومبابي وآخرين، في مراحل متفاوتة شهدت خروجا جماعيا لكل لاعب يبرز تقريبا كل صيف، أبرزهم إيمانويل أديبايور وكولو توريه وسمير نصري وسيسك فابريغاس وروبن فان بيرسي، بدون أن يتعاقد مع بديل بنفس الكفاءة، باستثناء ما حدث في صفقتي مسعود أوزيل وأليكسيس سانشيز، وهما من نوعية الصفقات الإعلامية الضخمة التي يحتاجها النادي من حين لآخر. وباستثناء فترة توهج فان بيرسي في آخر ثلاثة مواسم قضاها مع الفريق، لم تتعاقد الإدارة على بديل، وعندما تذكر أنه بحاجة لمهاجم قادر على تسجيل أكثر من 20 هدفا في الموسم، أنفق 53 مليون يورو لشراء لاكازيت! هذا ليس تقليلاً من شأن الأخير، لكنه تعامل كالديكتاور الذي يتخذ القرار المناسب بعد فوات الأوان، في الواقع هو سار عكس عقارب الزمن، ففي الوقت الذي تصارعت فيه الأندية لخطف المدافعين، وخصوصا الأظهرة كما فعل غوارديولا بضخ أكثر من 100 مليون جنيه إسترليني، لشراء الثلاثي كايل ووكر ودانيلو وبنجامين ميندي، ذهب فينغر للمركز الذي يحتاجه منذ رحيل روبن هود في صيف 2012! بالإضافة إلى ذلك أهدر كل وقته في محاولات يائسة لإقناع سانشيز بالبقاء، رغم أن كل الشواهد تُظهر أنه يريد عكس ذلك، والأمر ذاته للمتمرد الآخر أوزيل، الذي يُدبر في الخفاء لهروب ماكر بعد انتهاء عقده مع نهاية الموسم، ولا ننسى أن بير ميرتساكر سيعتزل بانتهاء الموسم، وهناك كتيبة من اللاعبين ستدخل موسمها الأخير بعد أشهر قليلة منهم آرون رامزي وأوليفييه جيرو وداني ويلبيك، مع تقدم بيتر تشيك وكوسيلني في السن.
المُتهم الأول
عندما نجحت الإدارة في إخماد ثورة الغضب غير المسبوقة المطالبة بتنحي الرجل المُسيطر على منصبه لعقدين، بتجديد عقده لمنتصف 2019، فقط لأنه أنقذ الموسم بالفوز بكأس إنكلترا، وفي الموسم ذاته خرج من دوري الأبطال بفضيحة تاريخية بالخسارة من بايرن ميونيخ 10-2 في مجموع مباراتي دور الـ16، وأيضا فشل في احتلال أحد المراكز المؤهلة لدوري الأبطال، وقبلها ودّع كأس المحترفين بسقوط مدو أمام ساوثهامبتون 0-2 في قلب ملعب «الإمارات» في ربع النهائي، كان الاعتقاد السائد أن الإدارة فعلت ذلك للحفاظ على شخصية الفريق، بحجة تفادي الانهيار الذي حدث لليونايتد بعد تقاعد فيرغسون. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل هناك اختلاف بين وضع يونايتد في أسوأ مواسمه بعد حقبة مدربه الأسطوري وبين وضع آرسنال في الوقت الحالي؟ فبعد انكساره أمام فريق يعيش على أطلال الماضي القديم كفورست 2/4، لن تكون هناك مفاجأة عندما يأتي أحد الفرق المتأهلة لدوري الأبطال أو الفرق المتوسطة لشرق أوروبا، أن تُقصي المدفعجية من الدوري الأوروبي، وبعد الرحيل شبه المؤكد لأليكسيس سانشيز، لنا أن نتخيل موقف فينغر في صراعه على خطف المركز الرابع، أمام منافسين في منتهى القوة والشراسة كليفربول وتشلسي وتوتنهام ومانشستر يونايتد الذي يبحث عن تعزيز صفوفه بصفقات رنانة، فهل سيبدأ المدرب الفرنسي في تغيير قناعاته ويبدأ في إظهار قوته الشرائية بإتمام صفقات من الوزن الثقيل، عكس الانطباع المأخوذ عن آرسنال كمنافس ثان على الصفقات؟ وإلا ستكون نهاية موسمه أسوأ من الموسم الماضي الذي أنهاه في المركز الخامس، وربما أسوأ من المواسم التي تجرع فيها هزائم نكراء كخسارته الشهيرة من مانشستر يونايتد 8-2 ومن السيتي 6-3، والمفارقة أنه خسر في بداية الموسم 4-0 من ليفربول… ترى ماذا يُخبئ القدر للجماهير المغلوبة على أمرها؟ وما أكثر عشاق المدفعجية سواء في المنطقة العربية أوفي الجزء الأحمر من شمال لندن.
«القدس العربي»: عادل منصور