من خلال متابعتي للمشهد السياسي، ومن خلال أمثلة عديدة جمعتها خلال السنوات الأخيرة، فإنه يمكنني أن أصنف أولئك الذين يرفعون من مستوى نقد الأنظمة الحاكمة إلى أن يوصلوه إلى مستوى السب والشتم، والذين هم في العادة يبالغون في الصراخ عندما ينتقدون الأنظمة، يمكنني أن أصنف أولئك إلى خمسة أصناف:
الصنف الأول : يتعلق بقوم يصرخون كثيرا للفت انتباه النظام الحاكم، وذلك من قبل أن يوالوه مقابل وظيفة أو امتياز خاص من أي نوع . تحضرني الآن أمثلة عديدة. الصراخ في هذه الحالة هو من أجل تهيئة الظروف المناسبة لعملية تحول سياسي بمستوى 180 درجة.
الصنف الثاني : المنتمي لهذا الصنف يصرخ كثيرا استجابة لأوامر مخابراتية وأمنية، وهذا الصنف تسمح له السلطات بأن يقول كل شيء حتى ينال ثقة أكبر عدد ممكن من المعارضين الطيبين. هذا الصنف يكلف عادة بلعب أدوار مخابراتية في اللحظات الحاسمة من العمل المعارض، كما أنه يعمل على بث الشقاق والخلاف بين المعارضين الصادقين، وإلى التشكيك في معارضتهم. تحضرني الآن بعض الأمثلة.
الصنف الثالث: أهل هذا الصنف هم قوم صادقون في معارضتهم، ولكنهم يعارضون بتطرف، وقد يوصلهم تطرفهم إلى الصراخ بأعلى الأصوات وبأشدها حدة، وهم لا شك صادقون في تلك الحدة، ولكن مشكلة هؤلاء أن كثيرا منهم يتسلل إليه الإحباط واليأس بشكل مبكر وذلك بسبب أنه لم يجد لمعارضته المتطرفة ولحدته أي أثر مباشر على أرض الواقع، الشيء الذي يجعله ينسحب من الميدان، لا إلى النظام الحاكم فهو أشرف وأنبل من ذلك، وإنما ينسحب من الاهتمام بالشأن العام، والأخطر أن طائفة من هؤلاء تبدأ بزرع اليأس والإحباط في نفوس المعارضين بحجة أنه لا أمل في هذا الشعب، ولا أمل في تغيير الأوضاع في هذه البلاد. تحضرني هنا بعض الأمثلة.
الصنف الرابع: المنتسب لهذا الصنف يبالغ في السب والشتم ويتلفظ بما لا يطاق سماعه، ولكنه عند أول اختبار تجده يبالغ في مدح النظام الذي كان ينتقده منذ أيام بأبشع الأوصاف. هذا الصنف يعد كارثة حقيقية، وهو يرتكب أخطاء مزدوجة، فهو مخطئ عندما يبالغ في السب والشتم، وهو مخطئ أيضا عندما يبالغ في التصفيق والتطبيل.
الصنف الخامس: وهذا هو الصنف الأخير، ويتعلق بقلة قليلة جدا من المعارضين الذين يمتلكون قدرات خارقة تمكنهم من أن يعارضوا بحدة وبشراسة وبتطرف من أول يوم، وأن يستمروا بتلك الحدة وبذلك التطرف لسنوات عديدة..هذا الصنف أهله قلة قليلة جدا، وهي وإن كانت موجودة في بلادنا، إلا أنها يمكن أن تعد بأصابع اليدين والأرجل.
هذه التصنيفات عرضتها هنا لأطلب في ختامها من المعارضين الصادقين والمتحمسين أن لا يستمعوا لما يبثه عملاء المخابرات من شكوك هنا أو هناك، وأن لا ينبهروا بؤلئك الذين يبالغون في الصراخ ولكنهم سرعان ما يدخلون في صمت مطبق. على كل معارض أن يقوم قدراته الخاصة، فإن رآها خارقة فليعارض بحدة وبشراسة وليستمر في ذلك، وإن رأى أن قدراته عادية ولا تمكنه من المعارضة الشرسة، فليضبط معارضته على المقياس الذي يطيقه، والذي يمكنه أن يستمر عليه لسنوات دون أن يتزحزح قيد أنملة، فمقارعة الأنظمة لابد لها من طول النفس، ولا شيء يضر بالمعارضين أكثر من قصر نفسهم النضالي.
صحيح أن هناك مواسم يطلب فيها الرفع من مستوى المعارضة ومن حدتها، وقد أظلنا زمان موسم من تلك المواسم، ولكن هذه المواسم تبقى في النهاية مجرد مواسم محدودة. حتى في الأمور التعبدية فإنه علينا أن نمارسها بطريقة تمكننا من المداومة والاستمرار عليها، ولا يعني ذلك بأنه لا توجد مواسم تعبدية تتطلب منا أن نشمر وأن نشد المئزر.
قاسم مشترك آخر بين الممارسة السياسية والتعبد: هذه الأصناف التي عددتها، والتي نعلم بأن بعضها يشتغل مع المخابرات التحتانية أو الفوقانية لا يمكننا أن نطردها من المعارضة، وذلك لأن المنتسبين إليها يشاركون في الاحتجاجات والمسيرات وفي كل أنشطة المعارضة، وهم ينتقدون النظام الحاكم بشكل أكثر حدة من انتقاد المعارضين الحقيقيين والمخلصين..إن هذه الطائفة من المعارضين تتشابه تماما مع المنافقين الذين لا يمكن طردهم من الإسلام، فهم يصلون مع المصلين، ويتظاهرون بكل مظاهر الإسلام.
وإذا كان جزاء هؤلاء المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار، فجزاء أولئك المخابرين أنهم في الدرك الأسفل من الخيانة والنذالة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل