الشيخ ولد أحمد المدير الناشر لموقع وكالة كيفه للأنباء
كانت النتائج المسجلة في استفتاء ال 20 أغسطس 2017 على مستوى مقاطعة كيفه مفاجئة للسلطة مخيبة لآمالها ، صادمة لقادة المشهد السياسي بهذه المقاطعة الكبيرة ، الهامة سواء كانوا وجهاء أو زعماء قبائل أو أطر متحمسين لإملاءات "المخزن" .
فرغم ما ضخ من مال ومورس من ضغط معنوي ومادي ورغم تنويع أساليب الترغيب والترهيب الممارس من طرف الدولة وحزبها ورسلها الأقوياء مع عمليات التزوير الواسعة والغير مسبوقة فلم تتجاوز نسبة المشاركة في هذا الاستفتاء 39%.
وكان من اللافت في هذا الصدد عجز صناديق قبلية معروفة بحيويتها وكثافة ناخبيها عن بلوغ الحد الأدنى الذي يرضي السلطة ويطفئ ظمأ القبيلة للتفوق في التصفيق على نظيراتها.
وإن الذي حز في قلوب الذين يدفعون الجماهير دوما إلى اختياراتهم ولازال يؤرقهم ويكدر صفو راحتهم لا يتعلق بالموقف السياسي من الدستور دعما أو رفضا على الإطلاق وإنما هو خوفهم من يكون ما حدث مؤشرا على أن سيطرتهم ونفوذهم قد بدأ يتراجع وأن عهدا من الخروج عن طاعتهم قد بزغ فجره.
ويومها حام تفسير المراقبين والمتابعين للشأن المحلي لما وقع حول انشغال الناس في معركة الحياة اليومية ومقارعة الفاقة فضلا عن مقاطعة أحزاب المعارضة والملل السائد لدى المواطنين من انتخابات لم تجلب لهم على مر العقود غير الفقر والحرمان.
لم يعتقد أحد أن ما جرى يومها كان مقدمة لزمن من الرفض وتقييم التجارب والتوقف للتفكير وأخذ العبر والدروس.
إن المتابع لأحاديث الناس في هذه الأيام بمقاطعة كيفه إن لم تكن الولاية بشكا عام يكتشف أن حقبة جديدة تطل برأسها وأن نمطا من الفهم والنقد ومحاسبة النفس بات يتسرب إلى الأنفس ويأخذ طريقه إلى الرأي العام هنا.
في الشارع ، في المكاتب والصالونات وعند صحون بائعات الكسكس والنعناع والحلوى لا يغادر حديث التبرم والسخط من الواقع المر شفاه أحد، وليس من بين المواطنين هنا من لا يقر بأنه لدغ من جحر ألف مرة ،وأن عمره ضاع بأباطيل القبيلة وبألاعيب السلطة وأكاذيب الساسة.
هنا يسري حديث واسع وإن كان خافتا وينتشر شعور ولو أنه خجول بأنه آن الأوان أن يتعقل الناس وأن يراجعوا مواقفهم وأن يستفيدوا من تجارب الماضي.
حوار عفوي ونقاش بريئ يجري داخل النساء والشباب والمثقفين المتواجدين بالمقاطعة مفاده أن لحظة العصيان والتمرد على الواقع السياسي المحكوم بالقبيلة المؤطر من طرف طبقة تافهة ،متهالكة ومضرة قد أزفت.
إن الحراك الذي يتراءى ويباشر عدد كبير من أبناء المقاطعة رسم أهدافه ومراميه هو نتيجة حتمية لمسيرة حافة بالإخفاقات والخسائر تكبدها السكان في كافة أوجه حياتهم عندما استسلموا طيلة عقود لتوجيه القبيلة وأوامر الأطر وحزب "الدولة" .
اليوم يجري التحضير لإطلاق "مبادرة الإصلاح و الإنقاذ بولاية لعصابه" موازاة مع المباردات المتعلقة بشراب المدينة والنداءات التي يطلقها المدونون ومجموعات الفيس و الواتساب.
وبالأمس صدر البيان شديد اللهجة الذي ينبذ "الواسطة" والمصادرة الذي أطلقه مؤخرا من سموا أنفسهم "بأبناء الريف" ،ثم جاء اجتماع مدينة لخذيرات "غير التقليدي" فضلا عن تدفق الكتابات التنويرية، المستنهضة ، الناقدة للواقع ، المنتصرة للجماهير التي يقوم بها مثقفون كبار بمن فيهم أبناء المدينة في المهجر ؛ كل ذلك يعتبر أمورا جديدة تمثل إرهاصات ميلاد لحظة تاريخية جديدة سيكون قرب الانتخابات القادمة بالون اختبار لنضجها وجديتها واشتداد عودها.
إن التجربة المرة التي عاشها السكان مع المنتخبين والأطر وإن مؤامرات الإقطاع وبيعه للجماهير في أسواق النخاسة السياسية دون أي مقابل هي عوامل جعلت المواطن هنا يتبرم من الواقع ويطمح إلى تغييره بعد سنين عجاف لم تجلب له غير الجوع والتخلف والأسى.
واعتقد في هذا الصدد وانطلاقا من الوعي"الشقي" المتزايد بهذه المقاطعة والولاية بشكل عام أن مهمة من يأخذون على عواتقهم تأطير الحراك الحالي لن تكون مستحيلة نظرا للظروف السالفة الذكر الباعثة على العصيان والرفض، وفي ظل الضعف الشديد والعجز الواضح للزعامات التقليدية التي تقود المشهد القبلي مما أدى إلى انفضاض ناسها من حولها وبالتالي سهولة اختراق وكسب تلك الجماهير المتربصة التي بدأت فعلا التحول من "رعية" إلى مواطنين يتوقون للعبور إلى مستقبل أفضل.
لا شك أن أدوات إجهاض ما يتراءى اليوم من مشاهد الصحوة هي كثيرة ومتنوعة عند السلطة وأعوانها ويمكن في أي وقت أن يتحول ذلك الفجر الجميل إلى ليل طويل بهيم ، غير أن حسن تسيير هذه الفرصة الذهبية والإسراع إلى استغلال كل بصيص وبارقة والعمل من طرف النخب المستفيدة من عملية التغيير سواء كانت شبابا أو نساء أو منظمات أو أحزاب أو مبادرات إلى بلورة فهم جيد بضرورة تجاوز التضامنات القبلية والفئوية والنفعية إلى تحقيق مصالح مشتركة بين الجميع ومن أجل الجميع.
ليس هناك ما هو مستحيل وبقليل من التعقل والشجاعة ومراجعة النفس يمكن أن نفسح المجال لرجال خيرين ونساء خيرات فنسند إليهم مهمة تسيير مستقبلنا بغض النظر عن مواقعهم الاجتماعية وانتماءاتهم القبلية وعندها لن يخدعنا هؤلاء ولن يستطيعوا بيعنا وسوف لن يتخلوا عنا فقد أصبحت أصواتنا ذات معنى و قيمة إذ بها نعاقب من أساء وبها نكافئ من أحسن.
لقد جاءت لحظة إلجام نزوات العواطف بنظرات العقول وعندئذ ينطلق قطار التنمية وتنغرز في هذه الربوع المطحونة التي عانت طويلا قيم المواطنة ونستبشر بعهد جديد يضمن لنا التقدم والحرية والعيش الكريم بانسجام ووئام.