مَن يعرفني عن قرب يعرف أنّي مولعٌ بكرة القدم حدّ العشق،، ويعرفُ أنّي في المرحلتَين الإعداديّة والثانويّة في روصو، كنتُ أقضي في الملعب من الوقت أكثر مما أقضي في القسم. وأعطي لكرة القدم من الجهد والاهتمام أكثر مما أعطي لمطالعة الدروس.
لقد أحبَبتُ كرة القدم وعشقتها ومارستها وترقّيت في الهرَم الرياضي المدرسي إلى مستوى "مهاجم متقدِّم" (avant-centre) في الفريق (ب b) للثانوية في زمن كانت ثانوية روصو قلعة رياضيّة سامقة ومصدر إشعاع ثقافي عظيم. وسعدت وتشرفت بالمشاركة في مباريات عديدة، وخاصة في مبارايات بين فريقنا ونظيره من ثانويّة "غاستون برجيه" (Gaston Berger) بمدينة "كولخ" السينغاليّة. ومن خلال معاشرتي لهذه اللعبة حصلت على دروس مهمّة تساعد في النّهوض بالممارسة السياسيّة؛ دروسٌ ودَدت اليوم أن أضعَها بين يدي متابعي هذه الصفحة الأعزاء.
إنّ المتتبّع لمباريات كرة القدم والمتصفّح لقواعد هذه اللعبة يَجد أنّها تنطوي على جُلّ ما تحتاجه الممارسة السياسيّة النّاضِجَة من وضوح، وشفافيّة، وبساطة، وسلاسة، وعدم استخدام للعنف، أو تسبّب فيه. كما يجدها ترتَكِزُ على العمل الجماعي، والجهد المشترك لأعضاء الفريق، ومراعاة معايير الكفاءة وحسن الأداء، وجَعل الرّجل المناسب في المكان المناسب، والمراقبة، والمحسابة، و التجديد والتطوير الدّائمين، وتداوُل الكرة سلميا بين اللاّعبين، وتداوُل التّتويج والفَوز بين الفِرَق والدّول ... كلّ خطإ فيها محسوب. وتضع كلّ من هم في الميدان تحت رقابة الحكّام، والجمهور، والمعلقين، والمتابِعين، بالإضافَة إلى الرّقابة بالصورة والصوت عبر جهاز الفديو.. حبَذا لو تحوّلت السياسة فينا إلى رياضة،،، وتحوّلت ساحتها إلى ملعب يتبارى فيه الفريقان: فريق الموالاة و فريق المعارضة.
وحبَذا لو استَلهَم رؤساؤنا وقادة أحزابنا دروسا من كرة القدم لجِهَة التخطيط، ورسم الأهداف، والمثابرة والصبر، والتطوير المستمر، وتداوُل الكرة بين اللاّعبين، وتداوُل التّتويج والانتصارات بين الدول والفِرَق المتنافسة. إنّ السياسة لا تختلف كثيرا عن كرة القدم في كونها سِباقا ومنافَسَة ومعركة وصراعا. وهي كالسياسة لا تخلو من مراوغة ومناورة وخداع ضمن ما تسمح به قوانين اللعبة فقط، ولا تقبل الخشونة، والعنف والإساءة، والتسلل والغِش.. وتُعاقِب على الأخطاء بالضربات الحرّة وضربات الجزاء، والطرد، والغرامات الماليّة، إلخ.
وممّا استَوقفني بشكل خاص في كرة القدم هو تراجع الفرديّة فيها والأنانيّة لصالح العمل الجماعي وتكامل الجهود داخل الفريق. وتراجع المحسوبية والشخصنة في اختيار اللاّعبين، وردّ الاعتبار لقِيّم الكفاءة والقدرة والجاهِزِيّة والبحث المستَمر عن القدرات والطاقات البديلة في عمليّة تجديد دائمة تجعل إبعادَ لاعبين سابقين واكتتاب لاعبين جدد أمرا عادِيّا تماما.
لا ضَيرَ في عزل نجم من نجوم كرة القدم أو إخراجه أثناء مباراة واستبداله. إنّ كلّ اللاّعبين المتميّزين يتقبّلون قرارات العزل والاعتِزال بروح رياضية دون منّ أو أذى، و دون إضفاء أيّة هالة دعائيّة على ما قدّموه من جهد، وبدون القول بأنّ الفريق سيضيع بمجرّد مغادرتهم الملعب. فحياتهم في الملاعب علّمتهم أنّ خروجهم وإتاحة الفرصة لمن يأتي بعدهم عنصر قوّة في بنيان فريقهم، وأنّ كرة القدم تمثّل التناوب السلمي في المَواقع والأدوار بأجمَل وأرقى صوّره.
ولهذه الأسباب، فإنّي أتطلّع إلى اليوم الذي أرى فيه الموريتانيّين يُمارسون السياسة بروح وعقلية كرة القدم...مُستفيدينَ ممّا تقدّمه هذه اللعبة من دروس حتى يتأكّدوا جميعا من أنّ الدّولة والأحزاب والمنظّمات والشعوب، لا يمكن أنْ تلعبَ دورها من خلال الشخصنة والاستحواذ، والادّعاء بامتلاك الحقيقة، وتقديس الفرد، وتكريس مبدأ التّأبيد، وتقريب أهل الثّقة، وإقصاء أهل الخبرة؛ كما لا يُمكنها أن تتقدّم وتتطوّر دون ردّ الاعتبار لقيّم المراقبة، والمساءلة، والالتزام بالقواعد والمرجعيّات والقوانين.
ولأجل ذلك، أدعوكم جميعا لمتابعة ما تيسّر من مباريات كرة القدم قبل وأثناء "المونديال" القادم في روسيا بعُمق، وتأمّل، وتمعّن... وانتَبِهوا إلى تداوُل الكرة بين اللاّعبين، وتداوُل التّتْويج والفوز بين الدوّل والفِرق، وتساوي الفرص بين المتنافسين، واحترام القواعد والقوانين برشاقة، ونبذ العنف والفرديّة والأنانيّة، والتمسك بالعمل الجماعي والتّضامن و روح الفريق الواحد. وانظروا كيف يؤدّي الحكم دوره، و المدرّب، والجمهور، والصحفِيّون... وسَوف تعلمون لماذا أحِبُّ كرة القدم!؟