بقلم الدكتور: أحمد ولد المصطف
أحيانا قد يؤدي الانشغال بالسياسة و مطباتها و صراعات أصحابها، المفتوحة و الخفية، إلى نسيان أمور جوهرية، قد لا يختلف عليها العاقلون، مهما كانت مواقفهم و مشاربهم. و للدخول في الموضوع، دون مواربة، من المهم التذكير بأن البلد و منذ حصوله على الاستقلال و حتى الآن تتجاذبه اتجاهات سياسية عديدة تتوزع عادة بين اتجاهين رئيسيين، أحدهما يدعم السلطة القائمة و الآخر مناوئ لها، مع ضرورة الإقرار بوجود طيف عريض من الساكنة لا يهتم بالسياسة و لا تستهويه. حدث ذلك إبان فترة الحكم المدني الأول و الحزب الواحد برئاسة الرئيس الأسبق المرحوم المختار ولد داداه التي دامت زهاء عشرين سنة (من 1958 ، تاريخ حصول على البلد على الاستقلال الذاتي و حتى 1978)، مرورا بفترة حكم بعض القادة العسكريين، و بالأخص فترة حكم المقدم محمد خونا ولد هيداله (1979 ـ 1984 ) و معاوية ولد سيد أحمد الطايع (1984 ـ 2005 ) و المرحوم العقيد اعل ولد محمد فال (2005ـ 2007 ) و الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله (2007 ـ 2008 ) وصولا إلى حكم الرئيس الحالي، محمد ولد عبد العزيز.
فلو رجعنا قليلا إلى الوراء، لأدركنا أنه خلال العقود الستة الماضية من تجربتنا السياسية في الحكم و ممارسته و تأييده تارة و معارضته تارة أخرى، ظلت مواقف الفاعلين السياسيين في مجملها، باستثناء حالات محدودة، تجعل الحفاظ على الوطن و استقلاله و استمرارية مؤسسات الدولة في صلب اهتمامات هؤلاء؛ و حتى في أوقات الأزمات الكبرى، كحرب الصحراء و الانقلابات الناجحة و محاولاتها الفاشلة و الهزات الاجتماعية و الانسدادات السياسية، ظلت مواقف غالبية الموريتانيين منحازة لوطنهم موحدا في ظل دولة تحفظ لهم الأمن و السكينة، كانت إقامتها أهم منجز سياسي حققوه في تاريخهم.
لكن تعاظم المخاطر مع مطلع الألفية الثالثة، كاستفحال التطرف الديني الذي نما و ترعرع في البيئات و المناطق التي تعاني من التخلف الاقتصادي و الجهل و الإقصاء و التهميش و تهريب المخدرات، إضافة إلى أطماع بعض الدول العظمى في استغلال ظاهرة الإرهاب لتحقق مصالحها بشن حروب و السيطرة على بلدان عديدة، جعل من بلدنا الواقع في عين الإعصار، لوجوده في منطقة الساحل التي هي عرضة أكثر من غيرها للأخطار المذكورة، خاصرة رخوة مهددة بهذه المخاطر.
و مع أننا استطعنا، بفضل السياسات العمومية المنتهجة حتى الآن، احتواء خطر الإرهاب العابر للحدود كما استطعنا بفضل نفس السياسات تجنيب وطننا إعصار الربيع العربي الذي جعل بلدانا عربية عديدة في خبر كان، بيد أن المشهد السياسي الوطني، و منذ إعلان الرئيس محمد ولد عبد العزيز سنة 2016 نيته في إجراء استفتاء بهدف إدخال تغييرات دستورية من ضمنها حل مجلس الشيوخ، بدأ يعرف حراكا جديدا هو الانتقال من ثنائية الموالاة و المعارضة المحاورة / المعارضة المقاطعة التي طبعت المشهد السياسي منذ حوار 2011 و حتى تاريخ الإعلان المذكور إلى حالة جديدة اتسمت بظهور تذمر في أوساط بعض عناصر الأغلبية أصبح مفتوحا و تقوده عناصر محسوبة في أغلبها على مجلس الشيوخ السابق. و رغم أن حل هذا المجلس أصبح أمرا واقعا وفق نتائج استفتاء 5 أغسطس 2017 و الإجراءات التنظيمية و التنفيذية التي تلت ذلك، إلا أن التجاذبات الداخلية بين بعض الفاعلين في الأغلبية الرئاسية، كأصداء للتململ و تصاعد الخطابات الخصوصية من شرائحية و قبلية و جهوية داخل الأغلبية الديمغرافية في البلد الناطقة بالحسانية (العربية)، تواصلت في شكل جديد و أصبحت تفرض نفسها على المنتمين للأغلبية، حتى على من كان يأنف التعليق عليها أو الاهتمام بها. غير أن الأخطر في هذه الوضعية أنها تشغل السياسيين و المسؤولين و الرأي العام عن أمور جوهرية تتعلق بتنمية البلد و استقراره و التهيئة السياسية المناسبة للاستحقاقات الانتخابية المقبلة الخاصة بالمجالس الجهوية و الانتخابات البلدية و التشريعية التي أصبحت على الأبواب، إضافة إلى الانتخابات الرئاسية في سنة 2019 .
فبعد تأمل في أسباب حالات عدم الانسجام بين بعض عناصر الأغلبية، و بالأخص التنافس بين بعض من يتقلدون مناصب حكومية و بعض سياسيي التشكيلات الحزبية المنتمية للأغلبية، يمكن التوصل إلى بعض ما قد يفسر جوانب عديدة من هذه الصراعات و كذلك إلى استنتاجات قد تساعد على تجاوزها.
فمن الأسباب التي جعلت البعض يدخل في صراعات مفتوحة مع آخرين من نفس الأسرة السياسية أو من الأغلبية الرئاسية بشكل عام هو التنافس المحموم على بعض المواقع، التي أصبحت، من حيث العرف أو الممارسة السياسية، من نصيب جهة أو شريحة ما. هذا التقليد، و إن كانت له بعض المسوغات التي لا تصمد طبعا أمام حجج من يتشبثون بدمقرطة الوظائف و المهام في ظل نظام جمهوري، أصبح يشكل خطرا جديا على وحدة البلد و تماسك مكوناته و ترتبت عليه نتائج عكسية. فمن ناحية، أصبح سببا مباشرا في صراعات مفتوحة بين بعض الأطر و المسؤولين المحسوبين على الجهة أو الشريحة المستفيدة منه، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى تصفية حسابات و اتخاذ قرارات غير منصفة في حق عناصر محسوبة على هذا الجناح أو ذاك، و من ناحية أخرى تسبب التقليد المذكور في شعور بعض ساكنة المناطق و المكونات الأخرى بأن بعض الوظائف أصبحت حكرا على جهة أو مكونة بعينها، و هو ما يتناقض مع طبيعة النظام الجمهوري نفسه، الذي يفترض فيه أن تكون وظائف الدولة مفتوحة أمام الجميع، لا تفاوت بينهم إلا بحسب المؤهلات و الكفاءات و التجربة و الخبرة، لا أن تكون خاصة بمنطقة أو شريحة أو أثنية. كذلك فإن ظاهرة تراكم الوظائف في نفس المحيط العائلي الضيق أو الممتد و تمكين مثل هذا المحيط من السيطرة على تجمع حضري أو نطاق إداري أو تشكيلة حزبية أو مرفق عمومي يعد هو الآخر من الأسباب التي تذكي الصراعات على المصالح و النفوذ و تقف حجر عثرة أمام جهود مكافحة الفساد. ذلك أن محاربة هذا الداء العضال، الذي لا تزال مجتمعات متقدمة تجد صعوبة في القضاء عليه، أحرى مجتمعنا الذي لا تميز أطياف واسعة منه بين المال العام و الخاص، تتطلب وضع آلية جديدة بحيث تكون من أبرز ملامحها الرجوع إلى ممارسات سليمة كان بعضها قد طبق، و لو جزئيا، في بداية نشأة الدولة الموريتانية، كالفصل بين السياسة و المال، و التعيين على أساس الكفاءة و عدم تعيين مسؤول و مساعده من نفس الجهة أو المحيط الاجتماعي. في هذا السياق، نعتقد أنه من المهم التفكير الجاد، من بين أمور أخرى، في سن قانون تنظيمي جديد يعتمد على ما قيم به في هذا المجال و تحيينه بحيث يحدد ضوابط و شروط جديدة و جادة لتعيين و تحويل و ترقية الموظفين العموميين، ثم بعد ذلك يتم إنشاء هيئة وطنية يعهد إليها بتطبيق هذا القانون.
لقد دفع الكثيرون ثمن هذه التجاذبات و ما أفرزته من تخبط في عدة قطاعات حكومية، كما حصل كثيرون على امتيازات و وظائف بغير حق شرعي و تم في أحايين كثيرة تعطيل القانون و أحكام العدالة و خسرت الدولة و لا تزال تخسر الأموال الطائلة من خزينتها بسبب انعدام الكفاءة في بعض الموظفين الذين تم تعيينهم من هذا الجناح أو ذاك لضعف مؤهلاتهم و عدم وعيهم بالقانون و بالمصلحة العامة، و هو أمر لا يتأتى إلا بالحصول على المناصب باستحقاق و بمستوى تعليمي مناسب و معرفة بالقانون و استقامة و أخلاق.
فإذا كان اختلاس المال العام فعلا يجرمه القانون، فإن تعيين من لا كفاءة لهم لشغل مناصب عمومية ترتبط بحقوق الناس و تدبير الشأن العام و سمعة البلد، يعد جرما أبشع من الأول، إذ كيف لمن ليست له الكفاءة المطلوبة و تم اختياره على معايير عرجاء أن يقوم بتسيير مرفق عمومي تسييرا سليما؟
في الآونة الأخيرة أثير موضوع الشهادات المزورة التي قد يكون تعيين أو اكتتاب بعض الموظفين العموميين تم على أساسها، لكن أليس من المهم أيضا الاهتمام بسيل التعيينات التي لا تخضع لضوابط أو معايير تتماشى مع روح المصلحة العامة؟
كذلك فإن التراجع في الوعي و العودة إلى الماضي بالاحتماء بالقبيلة و الشريحة و الأثنية يعد هو الآخر ظاهرة غير صحية تهدد استمرارية الدولة في الصميم. ألم ينس أصحاب هذا التوجه، و هم أغلبية الآن ـ للأسف ـ بسبب عقود من عدم الإيمان بالدولة و مؤسساتها و تعشيش الفساد في العقول و النفوس، أن العودة إلى القبيلة، في سياق المكونة الناطقة بالعربية وحدها، مؤشر إلى الحنين إلى ماض من الحروب و الفتن التي لا تنتهي و القضاء على كل فكرة أو مشروع سياسي جامع؟
كذلك يتعين استئصال مسلكيات خطيرة أصبحت متفشية فينا على نطاق واسع، و بالأخص لدى كبار المسؤولين، ألا و هي الكذب البواح و الأنانية المقيتة و نزعة الاستئثار بكل شيء و الاستحواذ على كل شاردة و واردة، لدرجة السادية النفسيةpsychologique le sadisme، أي التلذذ بالتفرج على إهانة و إذلال الآخرين. فإذا لم يتم القضاء على مثل هذه الظواهر المنحرفة و واصلنا على نفس المنوال، فعلى الدولة و السلم الأهلي السلام.
و مما يثير العجب و الاستغراب ـ حقا ـ أن نجد من ضمن المفسدين الناهبين للمال العام الغارزين خناجرهم في جسم الدولة و المسرفين في الظلم أناسا من أصول اجتماعية متواضعة، درسوا أيام كان التعليم العمومي سويا، أي منذ أواخر خمسينات و حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عند ما كانت المدرسة العمومية رافعة للرقي الاجتماعي، و تمكنوا من الحصول على شهادات سمحت لهم بالولوج إلى الوظيفة العمومية و تقلد مناصب في مختلف القطاعات، لكن نجد اليوم بعض هؤلاء يلوي عنق القانون ليًّا و يسخر ممن يطالب بتطبيقه و لا يعير لدولة الحق و الإنصاف أي اهتمام. ألا يعرف هؤلاء و من على شاكلتهم من مستضعَفي الأمس، مُسْتَأْسِدي اليوم أنهم أول المستفيدين من الدولة التي يطبق فيها القانون تطبيقا سليما و أول الخاسرين إن هي انهارت ـ لا قدر الله ـ و عدنا إلى ما كان عليه الحال قبل قيامها، حيث لا آمر إلا من كان يأمر أسلافه في زمن اللادولة؟
حتى في مجال السياسة، ظهرت ممارسات غريبة، فالمتعارف عليه أن دعم نظام من قبل أشخاص أو كتل سياسية يعني ـ على الأقل ـ أن يعترف لهؤلاء بموقفهم، سواء أسندت لهم مهام أو مسؤوليات أم لم تسند لهم، لكن أخطر ممارسة سياسية تنخر جسم شعبية الرئيس محمد ولد عبد العزيز تتمثل في اختطاف بعض النافذين لمواقف بعض المجموعات و الأشخاص ممن لهم وزن سياسي، سواء على المستوى الوطني أو المحلي. فنجد هؤلاء النافذين يدعون أنهم من أثر على شخص أو مجموعة أشخاص لينضموا إلى النظام و يصبحوا من مؤيديه، ثم بعد ذلك يوصدون المنافذ أمام هؤلاء المؤيدين، ظنا منهم أن لقاءهم مع الرئيس أو أي مسؤول سام أو حصولهم على حقهم الطبيعي في المشاركة في الرأي و في تسيير البلد يضعف مكانتهم، و أنهم كي يبقوا متحكمين و محافظين على مواقعهم عليهم أن يضعفوا الآخرين و يمارسوا في حقهم أشد أنواع الحصار و المضايقة، مستخدمين كافة الأساليب التي تتيحها لهم مواقعهم المتقدمة. هكذا يظل هؤلاء المؤيدون للرئيس عبر بوابة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية أو عبر أحزاب الأغلبية الأخرى يشعرون بالمرارة و الحيرة من واقعهم. أما المختلسون لمواقفهم السياسية فإنهم يواصلون مناوراتهم الماكرة: إيهام الرئيس بأنهم وراء تأييد فلان أو علان له ثم يقبضون الثمن دون تأخير، و من ناحية أخرى يستمرون ـ في أحسن الأحوال ـ في مماطلة و مخادعة الداعمين للرئيس الذين تربطهم بهم صلة أو علاقة أو يعرفون من تربطهم بهم صلة، أيا كانت طبيعتها.
من جهة أخرى فإن أمامنا اليوم تحديات جمة، في مقدمتها إنقاذ التعليم من الوضعية المتردية التي يوجد فيها، إذ هو المؤشر الفعلي على وجود أي دولة وطنية في العالم الذي نعيش فيه اليوم، فانهياره أقوى دليل و أصدق حجة على ضعف الدولة و فقدانها مبرر وجودها الرئيسي، إذ هو أهم خدمة تقدمها الدولة المستقلة لمواطنيها.
فمع أن بسط الأمن ـ على أهميته ـ يشكل هو الآخر أحد أهم مظاهر سيادة الدول، إلا أنه يبقى بالدرجة الأولى مؤشرا على وجود نظام ما و تمكنه من فرض سلطته على حيز جغرافي معين، سواء كان هذا النظام يحكم دولة وطنية مستقلة أو يمثل قوة احتلال أجنبي أو سلطة تشرف عليها الأمم المتحدة. في هذا الإطار، فإن المتابع لحالة التعليم اليوم في بلدنا يجد، بالإضافة إلى تدني المستويات و التسرب المدرسي و أخذ المدارس الخصوصية بشكل متدرج لدور المدرسة العمومية، أن غالبية أبناء الأغنياء و كبار الموظفين و الطبقة الوسطى و من يحاولون الالتحاق بهم يبعثون بأطفالهم إلى المدارس الخصوصية أو الأجنبية، أما الفقراء و المعدمون فليس لهم من خيار سوى المدرسة العمومية المهجورة من قبل الميسورين، تماما كبعض المستشفيات العمومية التي لا يتعالج فيها في الغالب إلا الفقراء و من لا حيلة لهم.
إن من يقولون بارتفاع الميزانيات العمومية و ارتفاع المبالغ المخصصة لميزانيات الاستثمار و يتحدثون عن نسب النمو الاقتصادي و سياسات "الرفاه و النمو المتسارع" و "محاربة الفساد" و "مكافحة الفقر" عليهم أن يفهموا أن أهم استثمار في البلد هو الاستثمار المخصص لتعليم و تكوين أبناء هذا البلد و صحتهم و سكنهم و تشغيلهم و توفير حياة كريمة لهم، فهل وجهت الاستثمارات فعلا إلى هذه القطاعات الحيوية؟
و بخصوص الحلول المقترحة على المشاكل الرئيسية للبلد و أهم تحديات المرحلة الراهنة، فإنه يتعين اتباع سياسية تعليمية جديدة تشكل قطيعة جدية مع كل التصورات و الاستراتيجيات المتبعة سابقا، لعل من أهم ملامحها:
ـ رفع النسبة المخصصة للتعليم بمختلف مراحله لتصل إلى 35 % من الميزانية العامة للدولة؛
ـ اعتبار المدرس الركن الأساسي في العملية التربوية بحيث يتم تكوينه بشكل جيد و وضعه في ظروف مادية مريحة تمكنه من الاضطلاع بمهمته على أحسن ما يرام باعتباره مكون الأجيال؛
ـ حظر خوصصة التعليم في المرحلة الابتدائية و في السلك الأول من التعليم الثانوي؛
ـ إلزام جميع موظفي الدولة و مسؤوليها بتسجيل أبنائهم في المدرسة العمومية.
أما بخصوص المشاكل الاجتماعية السياسية التي تخص شرائح أو مكونات بعينها، فإن أي توجه رسمي نحو الاعتراف بالقبائل أو الشرائح التقليدية التي توجد في جميع الأثنيات التي تشكل الشعب الموريتاني قد يقود إلى ما لا تحمد عقباه. فإذا اعترفت الدولة بشريحة و تبنت خطابها كليا أو جزئيا، فإن شريحة أخرى ستحذو حذو سابقتها و تطرح نفس المطالب و المظالم. و نفس الشيء يصدق على القبائل و الجهات، فالاستمرار في منح قبيلة حصة ثابتة في التعيينات قد يدفع بقبائل أخرى أو كونفدراليات قبلية إلى المطالبة بنفس الشيء، محتجة بوفرة أعدادها أو انتشارها الجغرافي أو تأثيرها التاريخي، إلى أن نصل إلى حد أن تطالب كل قبيلة بحصتها من التعيينات في كل القطاعات و المؤسسات العمومية و من الثروة و السلطة، و هنا سنكون أمام معضلة قد صنعناها بأنفسنا دون حساب دقيق لمخاطرها على وحدة البلد و تماسكه.
فعلى الدولة أن تواجه مشكل الخصوصيات بالعدل و سن قوانين منصفة و تطبيقها تطبيقا سليما على جميع المواطنين و مساواة الفرص بينهم وفق تلك القوانين، مع تأكيدها على أن الوظائف و المسؤوليات في الدولة لا يمكن منحها على أساس القبيلة أو الشريحة الاجتماعية التقليدية أو الجهة، لأن أي مواطن له الحق في تقلدها بغض النظر عن أصوله الاجتماعية أو مسقط رأسه. في هذا الإطار آن الأوان أن تتخذ الدولة موقفا صريحا من هذه الإشكالات التي تستفحل يوميا و تتخذ في بعض الأحيان منحى تمييزيا واضحا بأن تعلن عدم اعترافها بكافة الشرائح الاجتماعية التقليدية و عدم مسؤوليتها عن التشكل التاريخي لهذه الشرائح الذي يعود إلى عصور ما قبل الدولة و أن ما تعترف به و تتبناه هو مبدأ المواطنة أو الفئات الاجتماعية الموجودة في كل بلد، كفئات النساء و الشباب و الفقراء و المهمشين و ذوي الاحتياجات الخاصة و غيرها من الفئات التي تضم جميع مكونات البلد.
أما بخصوص الجهود المقام بها حاليا لإصلاح حزب الاتحاد من أجل الجمهورية و وضعه على السكة من جديد بصفته قاطرة المشروع السياسي للرئيس المؤسس محمد ولد عبد العزيز، فقد كانت هذه الخطوة مطلوبة و منتظرة منذ أمد بعيد، ذلك أن هذه التشكيلة السياسية الهامة قد جرفتها عواصف و أعاصير التجاذبات و التنافسات التي تم التطرق لها سابقا و أصبحت مرتعا خصبا للانتهازيين الوصوليين و عديمي الكفاءة و الغوغائيين، في حين غيبت الكفاءات و الخبرات و أبعد أصحاب الرأي من القرار. و لتلافي هذه الاختلالات و الانحرافات و كي لا تتكرر نفس الأخطاء، يجب على اللجنة المكلفة بهذا الإصلاح أن تتخذ جملة من الإجراءات من ضمنها:
ـ وضع آلية شفافة و قابلة للاستمرار للتمويل الذاتي للحزب و تسيير ميزانيته؛
ـ منح المزيد من الصلاحيات لنواب الرئيس و للجهاز التنفيذي للحزب لخلق توازن في اتخاذ القرارات الهامة؛
ـ اعتماد معايير موضوعية و عادلة في تعيين أعضاء الهيئات القيادية المركزية و اللامركزية للحزب؛
ـ تنظيم حملة انتساب جديد بشكل يضمن تجديد مختلف هيئات الحزب و يلبي مطالب القواعد الشعبية و يجعل الحزب قادرا على خوض الاستحقاقات القادمة التي أصبح بعضها على الأبواب.
فعلى الجميع موالاة و معارضة، أن يتذكروا أن الوطن الموريتاني ملك لجميع الموريتانيين و مصلحته فوق أي مصلحة شخصية أو حزبية ضيقة، و أن وطنيتنا تتحدد بمواصفات يسهل التحقق منها، بعيدا عن الجدل و الديماغوجيا و رفع الشعارات الجوفاء، و هي بالأساس السعي لتآخي جميع مكوناته و سن قوانين تراعي المصلحة العامة و تطبيقها بعدل و إنصاف و الابتعاد عن أكل المال العام و عدم تشويه صورة الوطن بالدعاية المغرضة و بالتصرفات غير المسؤولة.
و بما أن مجتمعنا قليل العدد و يعرف بعضنا بعضا، علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا و مع الآخرين، فمن أحسن إلى الوطن بخدمته و تأدية ما عليه من واجبات معروف، و من أساء إليه أو أضر به بنهب المال العام أو سوء التسيير أو المحسوبية و الزبونية و الصراع العبثي على النفوذ معروف أيضا.
يتعين علينا كذلك الوقوف صفا واحدا في وجه العابثين بمصالح الدولة و الوطن و اللوبيات المتصارعة على النفوذ حتى لا يضيع وطننا الغالي في مهب تجاذبات بعض الطامحين للاستمرار في مهام حكومية أو وظائف إدارية أو مواقع حزبية يشغلونها أو تقلد مسؤوليات جديدة يتوفر الكثير من الموريتانيين الآخرين، من مختلف مناطق البلاد و مكوناتها، على مقومات و مؤهلات تمكنهم من تقلدها و النجاح فيها.
أخيرا فإنه رغم النواقص و الإخفاقات في بعض القطاعات الحيوية و المصيرية و التي تم التطرق لها سابقا، فقد تم تحقيق إنجازات معتبرة في البلد في شتى المجالات، من ضمنها الحالة المدنية التي أصبحت نموذجا تسعى بعض الدول الإفريقية إلى الاقتداء به و الاستفادة من تجربتنا بهذا الخصوص، كذلك طورت منظموتنا العسكرية و الأمنية و تحسنت صورتنا على المستوى الدولي بفعل الدبلوماسية الفعالة التي تم انتهاجها من قبل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزبز.
و يمكن القول أن ما أنجز في البلد منذ وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز للسلطة كان سيكون أعم منفعة على البلد لو لم تنفجر الصراعات بين المجموعات المتنفذة داخل النظام و تحاول إشغال الرئيس بتجاذباتها و أحابيلها و مكايداتها. أمام هذه الوضعية المتفاقمة و غير المقبولة، ليس أمام رئيس الجمهورية من خيار لفرض هيبة الدولة و حسن سير مؤسساتها و لمواصلة مشروعه السياسي أيضا إلا أن يتخذ، وفق الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، موقفا مدروسا و حاسما ليثبت لهؤلاء المتصارعين على النفوذ، قبل غيرهم، و بقرارات و إجراءات ملموسة، أنه القبطان الفعلي لسفينة الوطن.