من سلبيات نظام العاشر يوليو 1978 أنه خلق انفلاتا اجتماعيا وأخلاقيا أفرز طبقة سياسية طفيلية اتسمت في معظمها بضعف المستوى الثقافي، وجهل خصائص المجتمع ومبادئ علم السياسة، وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، واستخدام جميع الوسائل والطرق في التحصيل.
وقد أدى استحواذ هذه الطبقة في الماضي على الشأن العام إلى ما ظهر من فساد وخراب وبغي في البلاد، ولا تزال فلولها الراسبة تعمل جاهدة على إجهاض إصلاحات حركة أغسطس وعرقلة وكبح جميع محاولات النهوض والإصلاح رغم توفر شروطها.
وهم يتبعون في سلوكهم نهج التقية والعمل في الخفاء، ويجندون امتدادات وأذرعا وشرايين تابعة لهم في مختلف المجالات، وينشطون خصوصا في حقلي الفعل السياسي الوطني: الموالاة والمعارضة؛ فيسعون إلى اختراقهما وتهجينهما وترويضهما على الهزل والعجز والعمى والجمود حتى لا تريان الواقع بأعينهما كما هو؛ بل كما يتصورونه هم وكما يرونه بـ"عين سخط" لا ترى من بعيد ولا من قريب ولا تميز بين "الذئب وحبيب". وهذا ما ترك ندوبه في معظم سياساتنا ومواقفنا من القضايا الوطنية والدولية الكبرى ومن النظام الوطني والإصلاحات الوطنية والاستحقاقات الديمقراطية.
ولسنا هنا بحاجة إلى ذكر مختلف الهنات السياسية التي واكبت مسيرتنا الإصلاحية الظافرة منذ سنة 2005 فأهدرت الكثير من الطاقات، وحاولت باستمرار حرف وعرقلة الركب وسد دروب الحرية والتقدم في وجهه، وإنما يكفي التوقف قليلا عند فتنة "المأمورية الثالثة" المزعومة.
لقد أعلن الرئيس محمد ولد عبد العزيز مرارا وتكرارا على رؤوس الأشهاد كلما دعا إلى الحوار وجَمْعِ كلمة الوطن وتوطيد الديمقراطية أنه لن يترشح بتاتا لمأمورية ثالثة؛ احتراما منه للدستور وبِرًّا بقسمه. وكان على الفاعلين السياسيين، معارضة وموالاة، أن يغتنموا هذه الفرصة الثمينة فيستفيدوا منها ويفيدوا الوطن.
ولكن قرناءهم من تلك الفلول منعوهم من ذلك. لقد وسوسوا للمعارضة التي لهم فيها يد طولى بحكم تجربتهم ومكانتهم في النظام البائد وفي المجتمع وإمكانياتهم المادية، أن الرجل غير جاد ومراوغ ومخادع! وبذلك منعوها من اتخاذ موقف وطني إيجابي وبَنَّاء وزينوا لها الانكفاء والشذوذ عن الوحدة الوطنية. وحين حصحص الحق ولم يبق لديهم ما يقولونه قفزوا في حركة بهلوانية يصدقون ما كانوا يكذبونه، ويدعون أنه ثمرة من ثمرات النضال، ويطلقون التصريحات النارية بأن نظام ولد عبد العزيز سيزول - أحب أم كره- بقوة الدستور والشعب، وكأنهم هم الدستور وهم الشعب!
أما الموالاة فقد اكتسى عملهم فيها شكلا آخر حين هبوا يبشرون بمأمورية ثالثة لا يريدها أحد؛ وخاصة الرجل الذي ليس لديه وقت يضيعه في المهازل وهو يحدو ويعبئ حزبه وشعبه للعبور إلى معركة الاستحقاقات وتثبيت المسار وحماية المكاسب وإنجاح مهمة التناوب السلمي على السلطة التي هي جوهر الديمقراطية.
إنهم يظنون أنه من طينة أولئك الذين غرروا بهم وضللوهم واستغلوهم في مآربهم حتى الثمالة، فلما احترقوا وانعزلوا عن شعبهم أطاحوا بهم وبدؤوا رحلة بحث جديدة عن هبل جديد! ولكن هيهات!
وعلى الرغم من اختلاف شكلي العملين فإنهما يصبان في منحى واحد هو تخريب الحقل السياسي الوطني، وبذر الشقاق والريبة والكراهية بين الفاعلين السياسيين، والحيلولة دون وحدة كلمتهم والتقاء إراداتهم على خدمة وبلوغ هدف التناوب السلمي على السلطة الذي يقترب ميقاته.
لكن، أما آن للفاعلين السياسيين بطيفيهم: ذلك الراغب في التغيير نحو الأفضل - إن وجد- ومن حقه أن يوجد، ويجب أن يوجد وأن يضع خطا فاصلا وواضحا بينه مع غيره؛ والذي يعمل من أجل النكوص والمنفعة؛ وهو موجود وفاعل، وله الحق في الوجود والعمل السلمي في نظام ديمقراطي.. أن يدركوا أن النظام الوطني والاجتماعي الذي أقامه الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد وجد فيه الشعب نفسه فتبناه رغم نواقصه. وبذلك فهو منفصل عن شخص الرئيس محمد ولد عبد العزيز ومتصل به في آن. وعلى هذا الأساس فهو لن يزول بمجرد تخلي مؤسسه وبانيه طواعية عن كرسي الرئاسة. وذلك لأسباب جوهرية ثلاثة هي:
- ارتباط الشعب بذلك النظام وتمسكه به ودفاعه المستميت عنه.
- تشبث الرجل وصحبه وحزبه بما حققوه من مكاسب لوطنهم وشعبهم، وعدم استعدادهم للتنازل عن تلك المكاسب لحظة واحدة. - ما يمثله نظام ولد عبد العزيز في المنطقة من استقلال وسيادة وحياد، وما لعبه من دور إيجابي في محاربة الإرهاب والتطرف والفقر؛ فصار بذلك نموذجا وقدوة في المنطقة، ومنارة يهتدي بها ويحميها أحرارها وشركاؤها.
فتنازُلُ الرئيس محمد ولد عبد العزيز إذن عن كرسي الرئاسة طواعية لا يعني بحال من الأحوال الجلوس عليه تلقائيا من طرف غير، اللهم إلا إذا زكت ذلك الغير صناديق الاقتراع والتف حوله الشعب!