أثــــــر الفراشـــــــة

أربعاء, 2014-08-06 19:23

هل كان محمود درويش مطلعا على ما حققته نظرية «الشواش» من إنجاز على المستوى التقني كي يستعير عنوانها في إحدى قصائده يومياته، أم كان الأمر مجرد تساوق ومعاصرة أم أنه لم يكن هذا ولا ذاك؟ ما يدفعني الى هذا التطبيق هو توافق التساوقات العلمية والفنية، هما وجه واحد للحركة الإنسانية، فما يحدث في عالم العلوم يحدث مشابه له في الفكر والفنون الأخرى.
إنه النزعة النفسية تهفو دوما نحو الخارج كي تُسقط على شكل فكر وفن. وإن كنت هنا أتجاوز الحد، وأتجاهل المبدأ الحضاري للإنتاج الإنساني – فما يحدث في المجال العلمي يكاد أن يكون في هذا العصر شأنا غربيا لا شوائب فيه، يحدث مثله في الأدب، ولا يحق لنا المقارنة والمساوقة بين الشعر الشرقي – ممثلا هنا بمحمود درويش- وعلوم أو فنون الغرب، من باب أن التاريخ الحديث للعلم والفن هو تاريخ غربي بامتياز – فإن هذا التجاوز أراه مبررا من مبدأ الفرادة ومن شيوع العولمة وكانت بعد ذلك كله الحضارة أو المدنية الغربية تعيش نهاياتها وثمة إرسالات لانتقالها الى أنحية أخرى.
لعلني تأملت عنوان اليوميات، أثر الفراشة، وجماله الدلالي الذي يوحي بالخفة والرومانسية والأنثوية وبعض المقاصد الفلسفية ترمى فيه، والأستقراطية التي اعتدناها في قصائد درويش. 
«أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول / هو جاذبية غامض / يستدرج المعنى، ويرحل/ حين يتضح السبيل / هو خفة الأبدي في اليومي/ أشواق إلى أعلى/ وإشراق جميل..» من خلال تحليل هذه القصيدة وإعادة ترجمتها مرة أخرى يتبين أن هذا الأثر لا علاقة له «بجناح الفراشة الفوضوي» الذي بنيت عليه نظرية الشواش والتي تعتبر إحدى النظريات الكبرى في العلوم الحديثة مع النظرية النسبية ونظرية الكم. القصيدة هنا تشير إلى دلالة الفراشة إشارتها إلى دلالة الحلم، هنا طابع ميتافيزيقي حُلمي «خفة الأبدي في اليومي» فهي ليست الفراشة الواقعية التي تحدثت عنها النظرية بل هي فراشة الشعر التي تعيش كل العصور منذ امرىء القيس وحتى يومنا هذا، فراشة الحب وليست فراشة الفوضى والتوقع. إذن هناك احتمال واسع أن العنوان جاء عن استعارة ولم يأت عن تساوق. 
لعلها السذاجة ما دفعتني إلى افتتاح المقالة بفكرة القصيدة أو عنوانها، وعرضها على مبدأ التساوقات، لكنني لست المتجاهل كي أفعل ذلك، فنظرية الشواش – أثر الفراشة – في المعنى الورائي منها هي نظرية الزوايا المهملة والهامشية والتي لا أحد يلتفت إليها، تسبب لاحقا تغيرات كبرى تكون من تأثيرات تلك الهوامش الهمال، وكما يشار دوما في القص الشعبي والفلكلور إلى تلك الأسباب الصغيرة التي تقف وراء الأحداث الجسام:
«بسبب مسمار، سقطت حدوة حصان
وبسبب حدوة، تعثر حصان
وبسبب حصان، سقط فارس
وبسبب فارس، خُسرت معركة
وبسبب معركة، فُقِدت مملكة»
من هنا يتبين أن الأمر الصغير الهامش أو الحادث البعيد حين يكون داخل الجملة الوجودية، يؤثر ويتأثر، وهذه الفكرة تقلب رأسا على عقب مفاهيم كثيرة منها الزعم القائل إن التقدم والإنتاج المعاصر هما غربيان بامتياز خالص لا شوائب فيه. لا يد فيه لأي شرق أو شرق أدنى، كله غربي الطابع، مستقل محرك مهيمن، مع ان العالم الآن يظهر لنا، للوهلة الأولى، في وجوهه المختلفة، كأنه وجه أمريكا المتمدد.
تأكيد واضح ومباشر أن ما يجعل العالم يتحرك ويمور ليس فقط الحدث المباشر المرئي بل ربما يكون للحدث الصغير الذي يبدو لعين مراقب تافها لا يأخذ بالبال ويكون بعيدا.. صرخة بل كلمة واهية في صحراء، هنا أو هناك، هو أيضا ما يدخل في الحساب وقد يكون من ناحية أخرى له عميق الأثر بما يجري. وهذا ما قالته قصيدة الأمريكي بيلي كولين «أثر الفراشة» 1999 . إلا أن القصيدة في الواقع لا تقول بقدر ما تبعث شرارة، وتحمـّل الوجدان طبيعة. أثر الفراشة في المخزون الأدبي ليس ما تقوله نظرية الفوضى «الشواش» بل هو ما تفعله القصيدة النائية والموقف الصامت في غمار الصير الثقافي المائر على السطح. تبرز هنا طبيعة أخرى للعوالم التي تعمل بمنأى عن المركز، صامتة ساكنة بعض الشئ، لا يحس لها تأثير، لكن العلوم الحديثة والباطنيات الشرقية أشارت إلى ذلك مرارا، مما يدل أن تركيب الوجود مازال مخفيا متواريا عنا، لا نعلم عنه الكثير ولا ندري كيف يعمل. 
تأتي الثورة من التغيرات غير الملحوظة في المعطيات الأولية (أثر جناح الفراشة)، من تلك الكسور العشرية التي لا تراها العين كي تتضخم مع مرور الزمن وتصبح ثقلا أساسيا في الحدث، تحوله وربما تقلبه رأسا على عقب. لكن ما علاقة كل ذلك بالأدب، ماعلاقة كل ذلك بالشعر الذي هو نبع الأدب؟ على اعتبار أنه مهمل اجتفاه الناس فأصبح غريبا ميتا. السواد الأعظم لا يقرأ ومن يقرأ لا يفعل ذلك بجدية، وهناك ظاهرة غريبة بعض الشيء وهي أن عدد الذين يكتبون يفوق عدد الذين يقرأون، حتى الكتاب لا يقرأون كفيّة وبانتشار النت والفيس بوك صار الأغلب يكتب، يقول، كأنما الذي يسمع اختفى واصبح الجميع يتكلم، ومَن يسمع من؟
بالعودة إلى قصيدة درويش نجد الخروج من هذا المأزق الذي يبعث على الإحباط والقنوط واللا تقوى بكل ما تعنيه كلمة لا تقوى من معنى. في القصيدة قبس من نور ونافذة مفتوحة على العالم الخفي غير النمطي. في مكان ما بعيد أثر يشتعل بهداوة ورفق ويخلق نوعا من الأمل، وتعنيه القصيدة كما يلي:
«هو جاذبية غامض/ يستدرج المعنى، ويرحل/ حين يتضح السبيل، هو خفة الأبدي في اليومي»
هذه الفراشة، أثرها الذي تتكلم عنه القصيدة، ليس هو الأثر الفيزيائي الذي تقوله نظرية الشواش بل هو أثر الكلمة، كلمة الشعر، ربما كلمة الحب/ الثورة.
«أشواق إلى أعلى / وإشراق جميل»
هذا الأثر يستدرج المعنى ( والذي كان ضائعا تائها) ثم بعد ذلك يرحل إذ يتضح السبيل. هذا هو الأبدي غير المرئي في اليومي، الإلهي في الإنساني. قصيدة لاهوت وأنسنة وهي عن حق قصيدة ثورة رومانسية ظلت عالقة في وجدان الشاعر الأمير. 
[email protected]

حسين سليمان