الرجوع إلى الحق
(الفتوى في المملكة العربية السعودية نموذجا)
بسم الله الر حمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم,
وبعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة مولاه، محمد الأمين الشاه، إمام مسجد الخيف بمقاطعة تيارت في مدينة نواكشوط، عفا الله عنه ونصره وعافاه:
إنه ما من شك في أن هذه الملة المحمدية قد بنيت على التيسير، والتخفيف ورفع الحرج عن العباد، فبهذا نطقت نصوص القرآن آيات بينات, وعليه نص الصحيح من السنة: ففي ختام آيات الصيام من سورة البقرة يقول جل في علاه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)
وفي ختام آيات المحرمات من النساء يقول سبحانه وتعالى (يريد الله ليخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)
وفي الحج (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج).
وفي القرآن آيات كثيرة تنكر الغلو في الدين وتحريم ما أحل الله، والقول على الله بغير علم وهو كذلك في السنة الصحيحة، فنبينا صلوات الله عليه وسلامه يقول كما في الصحيح (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)
ويقول صلوات الله وسلامه عليه (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)
وفي الصحيح كذلك (هلك المتنطعون)
وما خير صلوات الله وسلامه عليه بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
هذا هو الإسلام الحق وتلك هي روحه، وذاك هو مقصده ومنهجه، دين يسر وتيسير ووحدة وتوحيد, دين سلم وسلام وحكمة وإحكام, لكن جماعة من المحسوبين على الفقه والعلم، قد ابتعدوا عن روح الإسلام وأصله وأصوله، فاتبعوا سبلا أو مذاهب فقهية قوامها الاعتماد على الفروع ونبذ الأصول، والاستدلال والاحتجاج بغير دليل ولا حجة داحضة مقبولة، فأسسوا مدونات من الأقوال والتفريعات التي لا تستند إلى أصل من كتاب ولا سنة.
وانطلق الفروعيون والآرائيون عبر فجاج الأرض, في حملة واسعة ومركزة هدفها سد الأبواب وإغلاق المنافذ والنوافذ، بدعوى الاحتياط وسد الذرائع عدوا بغير علم، إذ ما كل ذريعة يجب سدها في الدين, يحرمون ويصادرون انطلاقا من أدلة واهية لا أزمة لها ولا خطم, بل هي مما عملته أيديهم.
وشيئا فشيئا خيم ظلام التقليد، وادلهم ليل الجهل المركب والتعصب الشديد، فطفقوا يقيدون بأقوالهم وآرائهم الفاسدة مطلق النصوص، يخصصون بأهوائهم ومقايساتهم السقيمة عموم النصوص.
وتنافس أصحاب المذاهب والفروعيون في التضييق والتعسير والتعصب المقيت, حتى أصبح الإسلام منظومة قمعية وأجهزة ومدونات عقابية، هدفها الأول إرهاب المسلم وتشكيكه في عقيدته وسلوكه وأخلاقه بل وإخراجه من الملة، فالمسلم عندهم يعيش في حالة من الرعب الشديد، يمشي في الحياة وجلا ترتعد فرائصه ملتفتا ذات اليمين وذات الشمال, ففي كل قول يقوله وفي كل فعل شراك منصوبة، وحبال ممدودة وأسلاك شائكة ومتاريس تتربص به ريب المنون لتوقعه في الردة والشرك، وتسمه بالزندقة والفسوق والمروق، فله في كل بسمة أو ترنيمة سفاهة وتضليل, وله في كل همسة أو ضحكة مساءلة وتجهيل, وفي كل خطوة يخطوها يتوقع انفجار عبوة ناسفة أو لغم، في شكل فتوى متطرفة غير مؤصلة ولا أصيلة.
إنه يتحرك في دوائر وخانات ودهاليز لا متناهية من المنع والتحريم والكراهة, خائفا يترقب جبينه يتصبب عرقا من الوجل, والحيرة و الإرهاق والخجل.
ثم هو محاط بدائرة سميكة, وجدر عالية صلبة من الكراهة والبغضاء, إنه عدو الكل والكل له أعداء, فعليه - والحالة هذه - أن يواجه الكل بالعنف والإرهاب, وأن يقابل الكل بالحزن والاكتئاب.
وهكذا أصبح الدين عمامة وعباءة قصيرة وذقنا طويلا أصفر، تحتكره جماعات نصبت نفسها حماة ورعاة للدين والملة، مدثرة بدثار القدسية متسترة بستائر الفقه، مسلحة بمناهج وأساليب العصر الكنسي ومحاكم التفتيش, واحتيال كهنوت المدراس, وعقليات العصر البدائي الحجري، وانكماش وتخلف وتقوقع المجتمع الغجري ...
وفي ظل وضعية كهذه ظهر الغلو والتعصب المميت: فمن جهة تضاعفت موجات الإلحاد والمروق والانسلاخ من الملة، ومن جهة أخرى برز التشدد، والتخندق والإقصاء والفهم السطحي الأبله، فعادت الحرورية والأزرقية منتصرة خفاقة البنود, رهيبة كسابق عهدها فتكا وقتلا وإفسادا في الأرض, فهوت الأمة إلى الحضيض راسبة في قيعان الضحالة والوحل, ودب إليها الوهن فتداعى إليها الأعداء كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتشكلت ضدها الأحلاف والمعاهدات والتحالفات, فصارت ريشة في مهب الريح, وكيف لا؟ وقد وجد الأعداء ذريعة للهجوم والتشهير والشيطنة ونفث السموم؟
كيف لا؟ وقد وجدوا أسبابا للحصار وسبيلا إلى الغزو والاجتياح؟ فصرنا كعنز السوء الدالة على حتفها بظلفها.
تلك هي مأساتنا وطامتنا الكبرى ومصيبتنا الجلى:
نقول هذا الكلام ونحن نتابع باهتمام بالغ- وما قولي كذا- بل نتطلع في سرور وابتهاج وحبور إلى ما يحدث في المملكة العربية السعودية, من مراجعة لفتاوى كانت مؤسسة ومنطلقة من أدلة غير صحيحة, سدا لذرائع ومراعاة لأحوطيات واحترازيات أملاها واقع معين وسياق زمني خاص.
والمملكة العربية السعودية قلب العالم الإسلامي النابض, ووجهته وقبلته ومثاله المحتذى فبدونها لم تكن الأمة ولن تكون, فبأمن واستقرار وازدهار العربية السعودية تستقر وتزدهر الأمة...
وما من شك في أن هذه المراجعة مندرجة في سياق الرجوع إلى الحق والانحياز إلى الدليل, ثم هي تمسك بنهج السلف وعمل القرون المزكاة, فالحق أحق أن يتبع, فكم قد رجع الفاروق عن اجتهاد رأى الصواب في غيره, وكذلك كان عثمان وعلي, بل كل الصحابة هكذا يفعلون.
وقد أفتى أبو هريرة رجلا في مسألة, فلما تولى الرجل تبين له أن الأمر ليس كذلك فانطلق باحثا عن السائل ولما لم يجده, ذهب إلى السوق متجولا في الطرقات ومناديا بأعلى صوته: إن أبا هريرة قد أفتى بكذا وإنه قد أخطأ.
وناظر الإمام أبو يوسف الإمام مالك ابن أنس في مسألة مقدار الصاع, ولما ظهرت حجة مالك، أعلن أبو يوسف على الملأ رجوعه إلى رأي مالك وقال: لو أن أبا حنيفة رأى ما رأيت لرجع كما رجعت, ورجوع الشافعي عن كثير من أقواله وفتاواه شهير معلوم.
هذا هو ديدن أهل النهى والحجا في كل زمان وفي كل مكان.
أقول والحق أقول: لقد أصاب أهل الفتوى في المملكة وأحسنوا - أحسن الله إليهم - برجوعهم إلى الحق المبين, وتخليهم عن أحوطيات لا تستند إلى دليل، فعلى سبيل المثال:
1- لا يستند تحريم الغناء بإطلاق إلى أصل صحيح، وإنما يحرم الغناء إذا صاحبه محرم أو أدى إلى حرام، فالفقيه المنصف المتجرد من القبليات والجاهز من الأحكام الباحث عن الدليل، لن يجد في الباب نصا قطعي الدلالة والثبوت، فكل أحاديث المحرمين للغناء بإطلاق ضعفها أجلاء الأئمة والمحققون من العلماء:
- قال القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه الأحكام: هذه الأحاديث – يعني أحاديث التحريم – لا يصح منها شيء بحال .
- وكذا قال الغزالي.
- وابن النحوي في العمدة.
- وقال ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد.
- وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل وموضوع.
- وقال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله و لا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي (الأغاني) و إنما هي ظواهر و عمومات يستأنس بها لا أدلة قطعية.
- وبه قال الونشريسي
- وقال الشوكاني في نيل الأوطار (و في الباب أحاديث كثيرة و قد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك مصنفات و لكنه ضعفها جميعا بعض أهل العلم)
وله رسالة قيمة عنوانها يبين عن محتواها (إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع)
وكنت (محمد الأمين الشاه) في السنة الماضية قد كتبت رسالة بعنوان (التشكيك في إطلاق تحريم الاستماع إلى مزيك) فثارت ثورة الزاحفين على رصيف الفقه، ورموني بسهام التجريح والنقد الصريح، فكانوا كذبابة تطن في أذن فيل, أو بعوضة تعض التماثيل, إذ زادهم من المعرفة قليل, وحظهم من العلم هزيل, وبضاعتهم من الفقه مزجاة، لكني فقأت أعينهم بالأدلة الساطعة, وحلقت ذقونهم بمواسي البراهين والحجج الدامغة, فغلبوا وانقلبوا خاسرين.
وإنه ليسعدني اليوم أن يقوم سماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله - وهو من هو- علما وفهما ومكانة وسعة اطلاع, ليعلن على الملأ ضعف أدلة المحرمين بإطلاق, وهو بذلك يصيب شاكلة الحق ويضع الأمور في نصابها, ويعيد العربة إلى سكتها ويدخلها من بابها.
2- لا يوجد نص ولا إجماع ولا قياس جلي، يمنع المرأة من قيادة السيارات, فقيادة السيارة هي مثل غسل الصحون والجلوس في المطبخ, وكنس الغرف وفتح التلفاز والحاسوب وإغلاق النوافذ...
3- لا يوجد دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع يلزم المرأة بستر وجهها، إذ دلت النصوص الصريحة الصحيحة على أن وجه المرأة وكفيها هو من ظاهر الزينة,
ومن قال غير ذلك يكون كمن مهب ريح سده بجناح, وقابل بالمصباح ضوء صباح.
4- لا يوجد دليل على تحريم الاختلاط بإطلاق، فالرجال والنساء يختلطون في أقدس وأطهر مكان على الأرض: عند الكعبة وفي عرفة وفي الصفا والمروة والجمرات .... فتحريم الاختلاط بإطلاق غير صحيح، وإنما يحرم الاختلاط إذا صاحبه محرم أو قاد إلى حرام.
5- لا يوجد في الإسلام أزياء خاصة بالمسلم و لا بالمسلمة, فالمسلم يلبس ما شاء من لباس لكن بضوابطه الشرعية.
6- لا يحتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى هيئة أو وزارة أو جماعة، إذ هو واجب عيني على كل مسلم، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه يقول (من رأى منكم منكرا فليغيره) و(من) هي من صيغ العموم.
وقد أظهرت التجارب السابقة أن هذه الهيئات قد أعطت صورة سيئة عن الدين، بل قد جنح بعضها إلى التجاوز والصيد في المياه العكرة، فمضى يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير, فحلها أو مراجعة مهامها هو الصواب بعينه.
لذلك نقول باختصار شديد وبكل سرور وابتهاج: إنما يجري في المملكة العربية السعودية من مراجعة لبعض الفتاوى, هو رجوع إلى الحق المبين.
فعسى أن يفيق أصحابنا الموريتانيون من غيبوبتهم ويستيقظوا من سباتهم, ويخرجوا من غيابة الجب, ليدخلوا الزمن الحقيقي, متسلحين بالفقه الصحيح الصريح تاركين الاستدلال بأقوال الفقهاء وضرب الأصول بالفروع, والكيل بمكيالين والمتاجرة بالدين.. فقد تعب الناس هنا من تعصبهم وتعسيرهم, وضعف مستوياتهم وإسفافهم وجشعهم وضحالة تفكيرهم.
نواكشوط فاتح إبريل 2018 محمد الأمين الشاه