يلقي الدكتور درسه عليهم: الطلبة والطالبات….. بطبيعة الحال.
مقابل هذا الإلقاء تمكنه الدولة من راتب شهري محترم يمكن التفاوض حول حجمه تحت إشراف النقابات والحكومة.
يجوز أن يعجب أحد الطلاب بما يخرج من فم هذا الدكتور.
يحدث أن يدوي تصفيق في قاعة الدرس مرفوقا بصياح استحسان من نوع:
ـ « أعد أيها الدكتور ! نريد أن نسمعها مرة أخرى ! «
هنا بالضبط يفقد صاحبنا نسبيّته ويقرر أن يتجاوز صوته حدود قاعة الدرس.
مجبرين ندخل معه عصر المعرفة شبه المدرسية عصر « تعلم قبل أن تتكلم» عصر « بادئ ذي بدء» عصر» واحد وراء واحد» عصر «هذا يجي وهذا ما يجيش» عصر « ما هو شاور قبل» … فيصبح الشعب برمته مجرد كمية من التلاميذ المحشورين ـ كيفما أتفق ـ داخل مناديل زرقاء، ممنوع على أي منهم الخروج عن الصف ولو بقدم حذاء !
* * *
في عصر الانفتاح الاقتصادي والإغارة الثقافية لا يجد الدكتور ما يبيعه سوى المعرفة المعروفة أي: تلك التي يتعين معرفتها في سن ما.
لذلك تراه يكلمنا بشروط سن العشرين فيما نحن قد جاوزنا الأربعين والستين أيضا … بل ثمة منا من جاوز المائة وصار يضحك ـ ملئ شدقيه ـ على تبدل المعارف وعلى هشاشة أغلبها أمام خيال الفنون واكتشافات العلوم ومغامرات الإنسان : المدنية منها والعسكرية: الأرضية منها والجوية : الكيمياوية منها والنووية !
لا يكتفي الدكتور بهذا بل يفتح دكانا خاصا ، على حافة إحدى الطرق الرئيسية ، مهمته إعادة تعليم أولائك الذين فشلوا ـ سابقا ـ على يديه عندما كانوا طلابا في القطاع العمومي.
ينشئ شعارا من نوع:
ـ تفتح الجامعة على المحيط
ثم يضيف له صيغة « لا بدّ «.
يصبح الشعار في صيغته الجديدة :
ـ « لا بد أن تتفتح الجامعة على المحيط»
فتكون النتيجة :
« لا بد أن يختلط الدكتور بالطلبة وبالمواطنين معا ويتصدر المنصة والركح»
* * *
يحدث أيضا، بل في غالب الأحيان أن يتجاوز الدكتور مهنته الأصلية، كتقني معرفة نسبيّة، ليصبح كاتبا أو مسؤولا كبيرا فإذا بالنتائج تصبح أكثر خطورة لكونها تتعلّق بمصائر الأفراد والجامعات التي تكوّن سكان البلاد.
ومن أبرز هذه النتائج أنه لا يعود هناك فارق ـ في ذهن الدكتور ـ بين التلميذ والمواطن…حتى وإن كان هذا المواطن دكتورا بدوره في اختصاص آخر !
لقد خبرنا تلعثم الدكتور، أكثر من مرة، في مجالات المواطنة التي يسوؤه فيها أن لا يكون أكثر حظا من بقية المواطنين، وكأن معرفته بالنحو والصرف أو البيولوجيا، أو بتاريخ الشعوب المنقرضة، أو بطريقة إملاء ما حفظه، تخول له امتيازا دستوريا وقانونيا… لتجعل منه مواطنا أرقى من الآخرين!
1 ـ في مجال الكتابة ـ مثلا ـ ناقشنا دكاترة ينتسبون إلى النقد الحديث وإلى ما بعد الحداثة إجمالا في مجال نقد الشعر.
كان اعتراضنا الأساسي على اللغة التي يستعملونها.
فهي لغة تغلب عليها الفخامة وطنين المفردات. لغة استفزازية تتقصّد إيذاء طبلة الأذن حتى لا يصل إلا باهت صداها إلى أنسجة المخ التي تكون في شبه غيبوبة بفعل تشنج الحبال الصوتية الباثّة لتلك اللغة.
هذه اللغة المرضية سماها عبد العزيز بن حمودة « اللغة الميلودرامية»وقد أفرد لها كتابا مهما بعنوان : « المرايا المحدبة» عن سلسلة عالم المعرفة.
عن هذه المرايا يقول عبد العزيز بن حمودة، وهو دكتور شاء أن يثور على لغة زملائه الحداثيين الذين أضاف لهم إعجاب طلبتهم بهم مزيدا من الغرور، يقول:
« تقوم المرايا المحدبة بتكبير كل ما يوجد أمامها وتزيفه حسب زاوية انعكاسه فوق سطح المرآة. قد تقوم المرآة بتضخيم الرأس أو الساقين أو منطقة الوسط والقلب. ولكنها ـ بصرف النظر عن زاوية الانعكاس ـ تبالغ في حقيقة الشيء وتزيف حجمه الطبيعي. (…) هذه المرايا وقف أمامها الحداثيون جميعا دون استثناء الأصوليون منهم والناقلون لفترة كانت كافية لإقناعهم بأن صورهم في المرايا المحدبة هي حقائقهم ! «
حين اعترضنا على هذه اللغة المرتبكة فيها هي تدعي التماسك، ونبهنا غلى جهل أصحابها بطبيعة النص الشعري وبجرح الروح الشاعرة، استنجدوا علينا بدكاترة آخرين، من مشرق العروبة ومغربها، ثم زادوا فاستنصروا علينا ببعض الصحفيين الجوالين الذين يتطيرون ـ بطبيعتهم ـ من كلمة « الشاعر» و «الكاتب» و «المبدع»… خصوصا إذا لم يكن مدينا لهم بشيء طيلة حياته كلها.
كدنا نجيف في الطرقات مثل الأرانب والكلاب… نتيجة لهذا الموقف ـ وصارت المهرجانات الشعرية والندوات الخاصة بالشعر تعقد ـ هذا وهذاك ـ دون حضور الشعر والشعراء الذين سيعوضهم هؤلاء الدكاترة النقاد ومن سايرهم من أنصاف المتأدبين والمتأدبات.
لم يكتف هؤلاء الدكاترة بذلك بل شرعوا بكتابة الشعر وثمة منهم من نشر مجموعته الشعرية بعد.
ـ يتعين القضاء ـ نهائيا ـ على الشعراء !: هكذا كانوا يرددون بصوت عال !
ـ « لا فائدة من الشعراء الأحياء. لنعول على الأموات حتى نتجنب المشاكل»
كان الاعتراض الوحيد على الشعراء أنهم يرفضون الانضباط، مثل التلاميذ، لكل دال تليها نقطة (د.) …وكأنهم ممنوع عليهم أن يكونوا مواطنين في العصر الحديث ! !
2ـ أما في مجال المسؤوليات الكبيرة، فقد نال بعض الدكاترة شرف تحملها دون أن ينالهم شرف الاعتراف الكلي بأنهم نجحوا في بعضها وأخفقوا في أغلبها. ولعل سر هذا الإخفاق يعود أساسا إلى أنهم فضلوا ـ في تعاملهم مع المسألة الإبداعية ـ ترك الإداريين والرقباء والمقررين ومجالس التأديب أحرارا في تصرفهم مع المبدعين
وهكذا تم استنساخ التّراتب المدرسي والإداري في عمل هؤلاء الدكاترة الذين كفوا عن اعتبار النقد جوهرا للفكر والكتابة والمواطنة منذ اليوم الأول لتحمل المسؤولية!
من كثرة البطالة المدنية والتاريخية صاروا يكتفون بتضييف الكتاب إلى إيجابيين وإلى سلبيين … ثم يوكلون أمر المتابعة إلى أعوانهم الذين لم يطالعوا كتابا واحدا طيلة حياتهم !
و من ألطاف الله أن مساعي بعض الدكاترة من أجل أن يتم إسناد أعداد شبيهة بالأعداد المدرسية يتم بحسبها تصنيف المواطن إلى
1ـ مواطن ضعيف
2ـ مواطن متوسط
3ـ مواطن قريب من الحسن
4ـ مواطن حسن
5ـ مواطن حسن جدا
من ألطاف الله أن هذه المساعي باءت بالفشل ولم تجد من يسمعها . وإن كانت المواطنة تتم على أساس من هذا ـ بالفعل ـ رغم عدم التصريح بالطريقة !
* * *
ما يتعين التنبيه إليه، وتسطيره بالقلم الأحمر، (ما دمنا في المصطلحات المدرسية) هو أن هذه الطريقة المخيفة في تقييم الأفراد والجامعات ، لا يختص بها إلا بعض الدكاترة الحداثيين الذين ناضلوا ـ نظريا ـ من أجل الديمقراطية والاختلاف ..وهذا مربط الفرس ومقصد القول وبيت القصيد إذا بقي للقصيد من بيت!
أما الدكاترة الكلاسكيون والأصوليون فإن طموحهم أقل من ذلك بكثير وهو أن يؤمن الطلبة والمواطنون بجلالة علومهم ورفعة مراتبهم وسماحة عمائمهم وتلك مسألة أخرى
٭ أديب تونسي
أولاد أحمد