خريف 2000عدت من فلسطين(رام الله) بمجموعة من الكتب،وقد شدّني أحدها كثيرا هو كتاب»أزهار فلسطين»،وقد قدّم له محمود درويش بلغته النثريّة الشعريّة المذهلة. أفتح هذا الكتاب ،عندما يستحوذ اليأس عليّ وأنا أرى هذا الواقع العربي القلق، وأقول إنّ اليأس من كلّ شيء قد يكون مفتاح الأمل في كلّ شيء..إنّ برد اليأس هو من برد اليقين أيضا. وأقول إنّ كلّ زهرة في هذا الكتاب حديقة تحتفظ بسريرتها الحميميّة. بل هي جزيرة خضراء في زحمة هذا الصراع القاسي. لكأنّي أراها الآن من مشبّك،وأقول لعلّ الفردوس صُنع ليظلّ مسيّجا؛ لا يسكنه أحد. غير أنّ فلسطين ليست الفردوس المفقود؛ ولن تكون صورة من الأندلس.
عبرت إلى رام الله مرّتين: أواخر شهر سبتمبر2000 مع نفر من الشعراء العرب في ملتقى فلسطين الشعري الأوّل، وأواخر ديسمبر 2013 وحدي بدعوة من متحف محمود درويش.
وفي المرّتين قطعت الطريق من عمّان إلى جسر الملك حسين فأريحا فرام الله. استشعرت أنّني كنت أخرج من سجن، ولكن دون أن أذوق طعم الحرّيّة؛ وأظنّ أنّ هذا هو الشعور الذي ظلّ يلازمني في الرحلتيْن كلتيهما.
لا أحبّ أن أعود هاهنا، إلى تفاصيل الرحلتين؛ فقد فعلت ذلك في سياق آخر. إنّما أقتصرعلى علاقتنا الاستثنائيّة ـ نحن العربَ البعيدِينَ عن جبهة الحرب ـ بفلسطين. والحقّ أنّ اللحظة الفلسطينيّة، هي منذ احتلال فلسطين وقيام دولة إسرائيل،لحظة استثائيّة في تاريخ العرب وفي وجدانهم. أقول هذا حتى عندما يتهيّأ لنا في لحظات اليأس أنّ الحلم الفلسطينيّ لايزال حلما مبتورا؛ ونحن نرى هول الدمار في غزّة، أو نرى من رام الله المستوطنات وهي مدن قائمة على التلال والهضاب مسوّرةً بجدار الفصل العنصري وبالأسلاك الشائكة؛ تطوّق القرى والمدن الفلسطينيّة بما فيها القدس؛ فنتساءل:أيّ سلام سيستتبّ في ظلّها؟ بل كيف لحلّ الدولتين أن يتحقّق؟
ومع ذلك فإنّ الحلم الصهيوني حلم مبتور؛ ماهيّته جغرافيا لاهوتيّة تجعل من إسرائيل في المنظور الصهيوني دولة الصعود والعودة والتجمّع وإعادة التكوين.
وهذا طرح زائف،لا سند له من تاريخ فلسطين؛ حتى وإن قدّمه الإسرائيليّون، في سياق من أسطورتين متلازمتين نافقتين هما: أسطورتا التفوّق والمؤامرة اللتان تقدّمان لنا باعتبارهما قدرا لا يمكن ردّه، وكأنه ذلك القدر الاغريقي الغاشم الذي يترصّد فريسته حتى قبل أن تولد؛ فهو ينسج خيوط مصيرها في زمن سديم، ويظلّ يتتبعها حتى يجهز عليها في اللحظة المناسبة. .
كان لدى كثير أو قليل منّا، منذ عودة بعض الفلسطينيّين إلى جزء من أرضهم،حلم بإقامة دولة فلسطينيّة على حدود ما قبل 1967. ولكن يبدو أنّه يتبدّد؛ خاصّة أنّ الأغلبيّة من الإسرائيليّين لا تزال تطرح المسألة من حيث هي حقيقة مطلقة. فلا جبل صهيون حتى بالنسبة إلى المسيحيّ،مملكة من هذا العالم. وهو تأكيدا لا يعني فلسطين. والجغرافيا اللاهوتيّة على ما يقرّره بول ريكور في نصّ قديم له، مرحلة ألغاها تاريخ الأنبياء اليهود الروحي. وعليه فإنّ الماهية المؤسّسة للوجود الإسرائيلي، ليست الماهية المؤسّسة لوجود المسلم أو المسيحي،واعتبار إسرائيل نفسَها امتدادا لإسرائيل الذاكرة إنما سنده المخيال الديني وليس التاريخ في كلّ الأحوال. أمّا الحلم الفلسطينيّ فهو على العكس من ذلك، إنّما يعضد ماهيّتَه التاريخُ والجغرافيا. ومنهما تستمدّ المقاومة الفلسطينيّة شرعيّتها..
سلام هي فلسطين إذ تقول وجودها تقول وجودنا الخاصّ حصرا. نحبّ وهي التي تحبّ. وكلّما ارتجف منّا الجسد لهذه الصورة أو ذاك المشهد، كانت هي التي ترتجف تحت جلدنا صوتا ومعنى؛ فإذا حبّة الشهوة تنغلق على طرف اللسان لحظة تنغلق فلسطين في الجسد. وهي التي تنبسط إذْ ينبسط ، وتنقبض إذْ ينقبض.
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي