مرة أخرى أجدني مشتت الذهن ولا أعرف عن أي موضوع أكتب، فهل أكتب عن الجفاف، أم عن إضراب الأطباء، أم عن الانفلات الأمني، أم عن عطش المدن والقرى، أم عن البطالة وحرق الشهادات، أم عن مرور 300 يوم على سجن ولد غدة دون محاكمة، أم أترك ذلك كله وأكتب عن الرقم 137 الذي أصبح يشكل عقدة بالنسبة لنا في هذه البلاد، فنحن نحتل الرتبة 137 من حيث جودة التعليم، ونحتلها من حيث البنية والتحتية وجودة الطرق التي كانت قد شكلت العنوان الأبرز ل"القفزات النوعية" ول"الإنجازات غير المسبوقة" في هذا العهد !!
هكذا وجدنا أنفسنا بعد مأموريتين رئاسيتين نعيش في فترة فاضحة سقطت فيها الأساطير والألقاب.
سقوط الأساطير
كثيرة هي الأساطير التي سقطت في نهاية المأموريتين الرئاسيتين، ومن الأساطير التي سقطت، وتبين للناس زيفها :
ـ أسطورة البنية التحتية أسقطها تصنيف البلاد ـ مع نهاية المأموريتين ـ ضمن الدول الأسوأ طرقا.
ـ أسطورة توفير الأمن أسقطها الانفلات الأمني والجرائم البشعة وعمليات السطو المتكررة على البنوك في ضحى النهار.
ـ أسطورة محاربة الفساد أسقطتها ملفات فساد عديدة لا تحصى ولا تعد، وأسقطتها عمليات النهب الفظيعة التي أدت إلى موت الشركة الوطنية للتصدير والاستيراد، والشركة الوطنية لصيانة الطرق، هذا فضلا عن دخول مؤسسات وطنية أخرى في غرف الإنعاش كما هو الحال بالنسبة للمطبعة الوطنية.
ـ أسطورة محاربة الفقر أسقطتها معاناة الناس وازدياد نسب الفقر والتخلي عن المنمين في عام القحط هذا.. لقد أصبح فقراء هذه البلاد وأغنياؤها إن كان قد بقي في هذه البلاد أغنياء خارج الدائرة الضيقة للنظام، لقد أصبح الموريتانيون بأغنيائهم وفقرائهم ينفقون على "الحكومة الفقيرة" ويعيلون عليها من خلال ما تفرضه عليهم وزارة الجباية من ضرائب وإتاوات.
ـ أسطورة توزيع المتاح من العدالة أسقطتها ملفات عديدة وأسقطها مرور 300 يوم على سجن السيناتور ولد غدة دون أي محاكمة..
ـ أسطورة موريتانيا دولة غير علمانية أسقطها الحكم المخفف على المسيء..
ـ أسطورة الاهتمام بالعلم أسقطتها إضرابات الطلاب المتكررة واعتصاماتهم المتعددة ..
ـ أسطورة الاهتمام بالشباب أسقطها تفشي البطالة وعمليات حرق الشهادات المتكررة..
ـ أسطورة تصحيح المسار الديمقراطي أسقطها انتساب الحزب الحاكم وتشكيل لجنة الأقارب والأصهار وحل مجلس الشيوخ وفرض نتائج استفتاء غير دستوري قاطعه الشعب الموريتاني .
ـ أسطورة النمو المتسارع والرفاه المشترك التي جاء بها "العبد الفقير"، صحاب الوزارتين، ومصلح الحزب الحاكم فهي ساقطة، ساقطة، ولا حظ في هذا الرفاه الموعود إلا لمن يصل دخله إلى 25 مليون أوقية قديمة..عن أي نمو متسارع يمكن أن نتحدث، ونحن نعيش في دولة يلفها من مشرقها إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها : الجوع والعطش والفقر. في يوم الخميس هذا ( 07 ـ 06 ـ 2018) تم تنظيم ثلاث وقفات احتجاجية أمام القصر الرئاسي لا تطالب بسلع أو بخدمات كمالية، وإنما تطالب فقط بتوفير الماء في لعيون وتجكجة وكيفة.
سقوط الألقاب !
من الألقاب التي أطلقت على الرئيس محمد ولد عبد العزيز خلال فترة حكمه :
ـ "رئيس الفقراء" : لا أعرف لمن تعود الملكية الفكرية لهذا اللقب
ـ "رئيس العمل الإسلامي" : أعتقد أن أول من أطلقها هو إمام المسجد الجامع
ـ "الرئيس المؤسس" : الملكية الفكرية للرئيس الحالي للحزب الحاكم، والذي كان قد قال بأن الرئيس ولد عبد العزيز "هو اللِّي أطمع من جوع وآمن من خوف".
ـ "رئيس الإسلام" : أعتقد أن هذا اللقب تم إطلاقه من طرف الوزير السابق للتوجيه الإسلامي
ـ "رئيس الأجيال القادمة" : هذا اللقب لم يطلق بهذا الشكل ولكنه يمكن أن يصاغ من مداخلة للنائب الخليل ولد الطيب.
"رئيس العلوم" : الملكية الفكرية لوزير التهذيب الوطني
كل هذه الألقاب الرئاسية قد سقطت في أكثر من مناسبة، ونحن اليوم لا نحلم برئيس للفقراء، ولا برئيس محارب للفساد، ولا برئيس للعلوم، ولا برئيس مؤسس ..نحن نحلم فقط برئيس، مجرد رئيس، يتصرف كما يتصرف رؤساء العالم الذين لم يحملوا أي لقب خلال فترة رئاستهم.
أذكر أنه في العام 2011 وبمناسبة إطلاق المرحلة الثانية من مشروع غرس مليون شجرة (لم يعد هناك من يتحدث عن المليون شجرة)، أذكر أن الرئيس يومها انتقد وزير البيئة علنا وانتقد وزارته بشدة واتهمها بالفساد وبإفساد مشروع غرس الأشجار بأكياسها البلاستيكية..هذا الوزير الذي تعرض للنقد علنا وأمام الإعلام من طرف الرئيس ولد عبد العزيز يعد هو الوزير الذي قضى المدة الأطول في وزارته دون إقالة ودون تحويل إلى وزارة أخرى.
فبأي منطق يحتفظ هذا الوزير الذي انتقده الرئيس علنا بوزارته كل هذه المدة؟ هذا السؤال أجابني عليه ذات مرة أحد الموظفين الكبار في نظام ولد عبد العزيز ..لقد قال لي في إجابته بأن مشكلة الرئيس محمد ولد عبد العزيز تكمن في أنه لم يقتنع حتى الآن بأنه رئيس، فهو ما يزال يتصرف كضابط عسكري، فالضابط العسكري قد يوبخ جنديا وينتقده علنا، ولا حرج في ذلك، ولكنه لا يفكر أبدا في إقالة ذلك الجندي أو في تسريحه من الجيش إلا في حالات خاصة جدا ومحدودة جدا..هكذا يتصرف الضابط مع جنوده، وهكذا يتصرف الرئيس مع وزراء حكومته ومع كبار موظفيه، ولذا فلم يكن مستغربا أن وزير البيئة هو الوزير الأطول بقاء في وزارته، وذلك على الرغم من أنه كان قد تعرض علنا ودون غيره من الوزراء لأشد أنواع النقد من طرف الرئيس. أما في الاجتماعات المغلقة فأن كل الوزراء يتعرضون لأقسى أنواع النقد من طرف الرئيس.
فعلا، إن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يتصرف في كثير من الأحيان بعقلية الضابط العسكري لا بعقلية الرئيس، ولذا فتجدونه يتصرف دائما مع أي مجموعة من العمال تدخل في إضراب على أنها مجموعة من الخصوم والأعداء وأنه يجب رفض الحوار معها، ويجب أن يتم التعامل معها بقسوة وبحزم حتى تهزم وتستسلم دون قيد أو شرط فترفع الراية البيضاء تعبيرا عن استسلامها، وإذا ما فرضت ظروف ما أن يتم التحاور معها، فإنه في هذا الحالة يجب مخادعتها، ويجب عدم الوفاء لها بالوعود والتعهدات، ولعلكم تذكرون ما حصل مع عمال اسنيم ومع راتب شهر وعد به الرئيس، ولعلكم تذكرون أيضا ما حصل مع حراس ازويرات الذين جاؤوا من مدينة ازويرات سيرا على الأقدام، واعتصموا عند مشارف العاصمة لشهر ونصف ومع ذلك فلم يرق لهم قلب الرئيس، وظل يعتبرهم أعداء يجب سحقهم، ولما أحرجوه بطول اعتصامهم، قرر أن يخدعهم من خلال اتفاق لم يتم تنفيذ أي بند منه، وذلك على الرغم من أنه تم برعاية رئيس مجلس الفتوى والمظالم.
إن عقلية العسكري، لا عقلية الرئيس، هي التي يتعامل بها اليوم محمد ولد عبد العزيز مع إضراب الأطباء، فهو يرفض الحوار معهم، ويعتبرهم أعداء يجب أن يتم التعامل معهم بحزم وبشراسة إلى أن يستسلموا ويرفعوا الراية البيضاء.
لو كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز يتصرف كالرؤساء لحاور الأطباء في أول يوم، ولأخذ إضراباتهم المؤقتة على مأخذ الجد من قبل الدخول في إضرابهم المفتوح، ولاستجاب لما يمكن أن يستجاب له من مطالبهم المشروعة. ولكن المشكلة أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يتصرف بعقلية العسكري الذي يجب أن يسحق خصومه وأعداءه، ولهذا تصرف بهذا الأسلوب الغريب مع إضراب الأطباء. ما فات الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو أن عقلية العسكري لن تهزم الأطباء الذين أظهروا طول نفس وتماسكا لافتا..إن الذي سيهزم في هذه المرة هو عقلية الضابط العسكري لا الأطباء الضربين.
يبقى أن أقول لأصحاب الملكية الفكرية لألقاب الرئيس : خذوا ألقابكم إننا لا نريد رئيسا للعلوم ولا رئيسا للفقراء ولا رئيسا مؤسسا ولا رئيسا للعمل الإسلامي..إننا نريد فقط مجرد رئيس، يفكر كما يفكر أبسط رئيس في العالم، ويتصرف كما يتصرف أبسط رئيس في العالم..
إننا نريد رئيسا لا يعتبر شعبه أعداء، ولا يتصرف مع هذا الشعب بعقلية الضابط الذي يخوض معركة مع العدو ..معركة لابد أن تنتهي بمنتصر ومهزوم.
رمضان كريم..
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل