انها اشد الحروب ضراوة، لأنها تتسلل بنعومة من خلال مراكز أبحاث ومؤسسات اعلامية وثقافية، ولها ضحايا وأسرى لكن من طراز آخر، ضحاياها من تقتادهم المصطلحات ذات الوميض الفوسفوري من أنوفهم الى واقع آخر، بحيث يجري تهجيرالوعي وبالتالي استلابه وتغريبه، اما أسراها فهم هواة يعيشون على هامش الثقافة وقارعة الواقع، بحيث يجدون انفسهم يفكرون بما يشاء الاخرون لهم ان يفكروا به، والطعم النموذجي لشباك الصيد بالمصطلحات هو التباس دلالاتها، فقد تعبّر عن جزء من الحقيقة او الواقع، لكن هذا التعبير الناقص خطيئة وليس خطأ فقط لأن ما هو حقيقي يستخدم لتمرير ما هو مضاف اليه، بحيث يكون مبتدأ الجملة سواء كانت ثقافية او سياسية في خدمة الخبر المضاد له، ولكي لا نبقى في نطاق التجريد سنتوقف عند سلالة من المصطلحات التي لعبت دورا كبيرا في احراف الوعي او ما يسمى في معاجم البلاغة « الانتحاء « وهو ايضا ما كان يسميه جان بول سارتر فلطحة المصطلحات بحيث تفقد حدودها وتصبح مرنة وطيّعة لكي ترتهن للرغائب والنوايا، واول ما يخطر ببالنا الان وبمناسبة اعلان قطاع غزة منطقة منكوبة بعد العدوان الهولوكوستي عليها هو مصطلح النكبة الذي اقترن بهزيمة العرب الكبرى عام 1948 واحتلال فلسطين، فالنكبة ابنة الطبيعة وليست من افراز التاريخ ولها دلالات تقتصر على البراكين والزلازل والاوبئة والاعاصير، وما حدث في فلسطين قبل اكثر من ستة عقود ليس زلزالا او اندلاع بركان خامد كبركان فيزوف، انه فعل ينتسب الى التاريخ بامتياز دموي، وتسمية ما يفرزه التاريخ نكبة يؤدي بالضرورة الى تغييب الفاعل، ويصبح الفعل مبنيا للمجهول، وفي احسن الاحوال للطبيعة .
والمصطلح الآخر التوأم للنكبة هو الاغتصاب وما جرى في فلسطين ليس مجرد اغتصاب بالتأويل الجنسي لهذا المصطلح ذي الجذور الاجتماعية، ولو قبلنا به فان الحل المقترح للإغتصاب في ثقافتنا الشعبية هو تزويج المغتصب من الضحية لستر الفضيحة، لهذا تصبح معاهدات السلام التي عقدت بين العرب واسرائيل حفلات زواج يجري اشهارها كي لا يكون المواليد من ابناء الزنا !
وهناك قرينة بحثية ذات مقترب انثروبولوجي اثارت انتباهي الى هذا المصطلح، هي الاستطلاع الميداني الذي قام به الدكتور حليم بركات في مخيم زيزياء بعد حرب عام 1967 وكانت معظم اجابات النازحين تصب في عبارة واحدة هي هربنا بعرضنا، فالعرض اخذ مكان الارض، مما يفسر هاجسا مزمنا لدى العربي حول مفهوم الشرف بحيث يختزل الى بُعد واحد وهو البعد الجنسوي وكأن الشرف حكر على هذا المجال المشبع بحمولة موروثة من مجتمعات بقي الوأد هاجعا في لا وعيها وان جرى تحديثه بحيث اخذ انماطا جديدة غير اغماد الطفلة في الرمل او التراب .
٭ ٭ ٭
ولو عدنا الى مصطلح الشرق الأوسط الذي اقترن لأسباب كولونيالية بالشرقين الأدنى والأقصى، لوجدنا انه خلال الصراع العربي الاسرائيلي من اجل التعويم وكأن الصراع اصبح بعد عقود بين دول شرق اوسطية منها دول غير عربية وبين اسرائيل، وكأن هذا التعويم الجيوسياسي مقدمة لاستبعاد دول شمال افريقيا العربية، بحيث اصبحت هذه الطبعة المزورة من الصراع المادة الخام لكتاب شمعون بيريز عن الشرق الاوسط الجديد، وهو يوتوبيا ملفّقة تكوناسرائيل واسطة العقد فيها وبالتالي تدخل الجامعة العربية من الباب وليس من النافذة وليس تسللا من السطح .
وقد يكون مصطلح العولمة الذي اصبح الاكثر تداولا ورواجا في الاطروحات كلها حتى المضاد منها لهذا المصطلح هو الأخطر من حيث دلالاته والافتراق الحاسم بين ظاهره وباطنه، فقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة بدلالات ايجابية في ستينات القرن الماضي خلال الحرب الفيتنامية وكان من استخدمه الكاتب ماكلوهان واراد من خلاله التعبير عن فضيحة تلك الحرب وما اقترفته فيها اميركا من جرائم على صعيد كوني، فما تعولم هو الصورة التي انحازت الى الضحية وبالتالي كانت الشاهد غير المشكوك في صدقه عن الجرائم .
ولو عدنا الى خطاب قديم لروزفلت لوجدنا فيه عبارة تستوقفنا في هذا السياق هي : قدر امريكا ان تؤمرك العالم، وبذلك تكون الامركة هي مضمون العولمة ومحمولها ضمن استراتيجية جديدة تستخدم الاسماء للتضليل وصرف الانتباه، وعلى سبيل المثال قبِل العرب بوعي او بدون وعي تسمية البلدان المحتلة من قوى طاغية بالمستعمرات مثلما قبلوا تسمية الاحتلال ذاته استعمارا، وهي كلمة مشتقة من الاعمار، مقابل ذلك قبلوا بتسمية قرى صغيرة في فلسطين بالتحديد باسم الخِرًب وهي جمع خربة المشتقة جذريا من الخراب .
٭ ٭ ٭
من آخر المبتكرات التي تقحم المصطلحات في السياسة من اجل التعويم او تهريب الوقائع تسمية العدوان السافر الذي مارسته اسرائيل مرارا على قطاع غزة بأنه حرب، بحيث توحي هذه التسمية بالتكافؤ، وكأنها تدور بين دولتين، وبالأدوات العسكرية ذاتها .
وقد تلد المصطلحات الكبرى مصطلحات فرعية تتأسس على الجذر ذاته، كأن يقال وقف اطلاق النار بين دولة نووية تملك آلاف الطائرات والدبابات وكل اسلحة الابادة وبين شعب يقاوم بما تيسّر له من الحجارة حتى الصواريخ التي يصنعها بنفسه .
وحين تستبدل المقاومة مصطلح المستوطنات بالمغتصبات رغم التحفظ على مصطلح اغتصاب فهي على الاقل تحرم تلك الثكنات المدججة من اسم لا علاقة لها به، فالمحتل ليس مُستوطنا فهو نقيض المواطن الاصلي وليس شبيهه !
٭ ٭ ٭
ان هذه السلالة من المصطلحات لا تولد بالصدقة وليست نبتا شيطانيا في المعاجم السياسية والاستراتيجية، وهناك مختبرات تعكف على نحتها وصياغتها لتهجير الوعي واستبدال الواقع وبالتالي قضاياه . ونحن نتورط بها احيانا ظنّا منا بأنها القاسم المشترك او الشيفرة التي تتيح لنا التفاهم وايصال الافكار رغم انها سلاح لا يُستخف به، ويكفي ان نتذكر بأن مصطلح عرب اسرائيل الذي يطلق على فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 استمد شرعيته الملفّقة من التكرار الببغاوي وكان اكثر من مليون ونصف عربي في فلسطين هم من مقتنيات الدولة العبرية او محاصيلها كالجوافة والبطيخ، رغم ان هذه المحاصيل ليست اسرائيلية بدءا من التراب والجذور وما شربته من دماء زارعيها !!!
خيري منصور