وادي عبقر الحداثي

جمعة, 2014-08-15 13:12

ذات شطحة أدبية، انتبه بودلير إلى أن فضاءات الشعر ومكامنه الجمالية المتعارفعليها، قد تم استنفادها واستهلاكها وتقاسمها من قبل سلالة الشعراء عبر التاريخ. إذ لم يبقوا على شيء جميل يمكن الحديث عنه، فقرر أن يستنبط الشعر من خُلاصة ( الشّر). أي من الوعي ذاته الكامن في الشر. كما أكد هذا المعنى في واحدة من قصائده. وهكذا ولدت رائعته ( أزهار الشّر )، حيث استأنف قصيدة النثر التي رأها ( خطرة كالحرية المطلقة ) ليطأ بوعيه وسأمه الأرض التي لم يطأها أحد من قبل. وهذه هي مهمة الشاعر الكبير. أي في تغيير الجو الأخلاقي للأمة من خلال إطلاق طاقة الوحي الدنيوي.
أما والت وايتمان فقد وجد ضالته الشعرية في ( القبح )، لدرجة أنه كان يشك في فخامة العالم. ويرى أن الوجود لا يزال يعد بالمزيد (من التفاهات والعبيد والأقزام والحيوانات والرفض التام ) أكثر مما افترض بينه وبين نفسه. وعلى هذا الأساس اقترح في منجزه الشعري طريقة مبتكرة للإندساس بين الجميل والقبيح، والمهم والتافه. كما دعا في رحلة طيشه الشعري إلى الألفة التامة مع الموجودات بكل استنساباتها الطبيعية، والتنوع والاتصال النفسي والاتحاد الحسّي بكل شيء وكل شخص. ففي ( أوراق العشب ) لم يبشر بامحاء الجمال بقدر ما نادى بتعميمه.
رامبو أيضاً، لم يقتنع بالمضخات الناعمة للشعر. وبعد غارات على سكونية الأشكال التقليدية، اقترح فكرة ( الحواس المشوّشة ) كمصدر للقول الشعري. وعلى هذا الأساس جاءت تنظيراته المربكة للمختبر الإبداعي ولأفق التلقي. كما بدا ذلك على درجة من الوضوح في شعار الرائي الذي رفعه ( على المرء أن يكون رائياً. عليه أن يجعل من نفسه رائياً. فالشاعر يجعل من نفسه رائياً خلال اضطراب عقلي طويل ومترام لكل الحواس. كل أشكال الحب، المعاناة، الجنون. يبحث بنفسه. يستنفد كل سمومه في نفسه. ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر).
ولقياس المسافة بين منابع القصيدة العربية في علاقتها بالشياطين المتخيلين في وادي عبقر، وما صارت عليه مكامن النص الشعري العالمي، لا بد من العودة إلى الوراء للاستشهاد بالطريقة والمختبر الذي تتولد منه قولات الشعر العربي. فقد كان جرير – مثلاً – إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً حيث يشعل سراجه ويعتزل. وربما علا السطح وحده. فاضطجع وغطى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. كما روي – أيضاً – أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر، ركب ناقته وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده.
ولا شك أن ذلك الوعي الصادم لرامبو وبودلير ووايتمان بمنابع الجمال لا يبدو منسجماً مع الذائقة العربية والمشرقية لأسباب موضوعية وتاريخية وثقافية. ولم يكن أيضاً مستساغاً في الأوساط الغربية إلا في مراحل متأخرة. لأننا حسب داريوش ( لم نعش قط داخلياً عالم الصور المهشّمة الذي دفع إليوت إلى إعادة إكتشاف النقطة الثابتة في العالم، فإن قلقنا يضوع بعطر الكآبة البودليرية. إن زهور شرنا ليست متجذرة بما فيه الكفاية لنتعرف فيها من دون فزع على وجه الشيطان بصفته الشكل الأكثر كمالاً للجمال. إن تمردنا ليس جاداً بما فيه الكفاية لنعلن بكل بساطة موت الإله. وجنوننا ليس حاداً بما فيه الكفاية لنسرق، شأن فان غوغ، من الإله نوره كي نعيد خلق العالم بأكاذيب هذياننا).
وهذا الموقف الاستنكاري الحائر لشايغان في كتابه ( ما الثورة الدينية – الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة ) أمام التحولات الدراماتيكية يتوافق مع ما ذهب إليه أوكتافيو باث في كتابه (الشعر ونهايات القرن). حيث أكد على أن والت وايتمان يستعيد ( الطبيعة الأصلية للزمن. ليس عن طريق ماض خرافي، بل من خلال الإنغمار في اللحظة الحاضرة. فما يحدث الآن يحدث دائماً ). ثم يعرّج على مختبر بودلير وشعره الحديث الذي احتفى باللحظة، وما تقاربه الحواس مباشرة فيقول بأن ( مدينة بودلير كانت مشهداً ليلياً عمرانياً تضيء فيه الفوانيس وانعكاساتها -الغامضة مثل الوعي الإنساني- الشوارع الشبيهة بالجراح، واستعراضاتها المؤلفة من البغاء والجريمة واليأس المستوحش المعتزل. ولكن مدينة الشعراء الجدد هي مدينة الحشود والإعلانات المضاءة جزئياً والسيارات والحافلات. مدينة تحول نفسها كل ليلة إلى جنة كهربائية. ولكن هذه المدينة ليست أقل إرعاباً من مدينة بودلير ).
لقد تم التنظير لتلك الموجات الإنزياحية على إيقاع نصوص بصرية وسمعية وكتابية فارطة في تخليها عن القواعد الجمالية المألوفة. فالباحث جيروم ستولينتز، قرأ بعمق التطورات الهائلة التي طرأت على مقولة الجمال وعلى التغيُّرات المتطرفة لمعنى ( القبيح بوصفه مقولة استطيقية ). وذلك في كتابه ( النقد الفني – دراسة جمالية وفلسفية ). وقال بأنه لا يمكن فهم كل تلك الصور المهجوسة ( بتجسيد العنصر الشيطاني وجو المقابر ) إلا بقراءة تشريحية لتاريخ الذوق. فما يسميه بالرعب البهيج يتولد من الأحاسيس المربكة أو ما يشبه استمتاع الشخص بخوفه عندما يرتطم بمشاهد العنف والخراب والتوحُّش، وإن كان ( صاحب هذه التجربة لا يشعر ببهجة خالصة متصلة بل يمتزج بهذه البهجة شيء من النفور والخوف ).
وذلك هو بالتحديد ما يسميه برنارد بوزانكيت ( الجمال العسير ). إذ يحمل المتلقي جريرة العجز عن استقبال الشحنة الجمالية الفائضة بالقبح، وعدم الإستمتاع بالصور المتأتية عنه. بما هو – أي القبح – تعبير وليس مجرد شكل. فالقبح برأيه ( لا مكان له. ولا وجود لما يسمى القبح الميؤس منه. فالكثير مما يسمى قبيحاً هو في حقيقته راجع إلى ضعف المشاهد، فالأشياء لا تبدو قبيحة إلا لأننا نفتقر إلى القدرات اللازمة لتقدير قيمتها الاستطيقية ).
هذا هو المكمن الذي كان من المفروض أن ترتطم به الشعرية العربية في بحثها عن شروط حداثتها، أي أن تتلازم بنيوياً مع صيرورة التحول الكوني نحو هذا النوع من التواصل الشعري بين البشر. بالرهان على استخدام الموضوعات عوضاً عن المشاعر الذاتية والعواطف الداخلية، لتصعيد الإحساس بالواقع، وتوليد القاموس اللغوي الذي بمقدوره تمثيل الموضوع تمثيلاً كافياً. تماماً كما فعل الإنسان الغربي. حيث يقول داريوش شايغان بأنه ( صار مهجوساً بضرورة توسيع تأويلاته لأجل إعادة إكتشاف لغة الفكر الميثي-الشعري المبعدة، واستعادة مستويات ثقافية أخرى ) بينما يوجّه نظيره الشرقي جهوده ( نحو تأويل مختزل مزيل للصبغة الأسطورية، لأجل تحطيم، وأكاد أقول تفكيك، تلك المفاهيم الهجينة التي نحتها بنفسه بفعل تغرّبه اللاواعي، وهذا بردها إلى سياقها بعيداً عن المماثلات الزائفة ).
إن العرفان من وجهة نظره ( ليس طريقة كفيلة بفهم حقيقة العلم كما ستصبح في فجر الفكر الحديث مع بيكون وديكارت وسبينوزا الذين استعاضوا بمناهج المعرفة سواء في فن الإختراع أم في الشك أم في النسق الهندسي عن تجربة الوجود الأصلية ). وهو المنحى الذي يستنبطه هارولد بلوم أيضاً عند الرؤيويين الفرنسيين في كتابه ( قلق التأثر ) حيث يؤكد ذلك من خلال إقرار ديكارت بتلمُّسه للآراء الثقيلة الموجودة عند الشعراء التي يستخلصونها بخيالاتهم. ويُرجع بلوم السبب إلى ( قربهم من لعنات ديكارت، أو جرس الخطر الديكارتي ) واشتغالهم ( بروح مختلفة، بمزاج عال وجادّ، هو مزاج المفارقة الخلاصية ).
بموجب ذلك التماس بين الشاعر ولحظته يقرر والاس ستيفنز أن ( نظرية الشعر هي نظرية الحياة ). وهو ما يعني ضرورة استدخال الشيطاني والجنوني والقبيح في الخطاب الشعري. أو ما يسمى بصحوة الفكر المرضي، الذي يراهن على تحلّل البنى وتفتت الأشكال. حيث يميل الباحث الاستطيقي زولجر إلى القول بأن ( القبيح مضاد إيجابي للجميل إلا أن نعدهما متنافرين تماماً ).
[email protected]
كاتب سعودي

محمد العباس