جمعتني الظروف ثلاث مرات بالمحامي الرائع ابراهيم ولد ابتي.. وقد كنت قبلها أتابع و أنا أدرجُ مدارجَ الصبا الغرير نشاطاتِه الحقوقية، و ألهج مشدوها بتصريحه الجريء "أخجل من عدالة بلادي"، حتى كان لقائي به كما قال ابن الشجري:
كانت مساءلة الركبان تخبرني عن أحمد ابن سعيد أطيب الخبر
حتى التقينا، فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري.
فقد صدق الخُبر فيه الخَبر، فالتقيت رجلا قمة، لا تأخذه في مُثله ومبادئه لومة لائم.. ضُويق فكانت نفسه الشريفة برحب الفضاء، وهُمّش فكان مجلسه من العلياء صدر النّدي، وجُوّع فلم تأكل حرائره بأثدائهن.
لقائي الأول بولد ابتي كان خاطفا، حتى أنني لأسباب أمنية لم أمكث مع الرجل طويلا، فقد اتصل بي رفيقي جمال ولد اليسع، و أخبرني أنني سأحصل من أحدهم على أوراق بخط الرائد السجين صالح ولد حننه، يوثق فيها أسماء جلاديه في سجن واد الناقة، وطرق التعذيب التي يمارسونها ضدهم.
حصلت على الوثائق بطريقة أشبه في دراميتها بأفلام شون كونري، ثم توجهت لولد ابتي لتسليمه إياها بعد إن مررت على مكاتب صحراء ميديا، و أسررت لصديقي احمد ولد اباه بوجود هذه الوثائق الخطيرة بحوزتي، وبضرورة أن أنسخها و أمسحها و احتفظ بنسختة منها في إيميلي، و أرسل اخرى لبريد جمال.. وهو ما ساعدني فيه ولد اباه برباطة جأش.
للتاريخ، فقد كنت من يستلم بيانات صالح ولد حننه من سجنه، ثم اقوم بمساعدة احمد بإرسالها لشباب ضمير ومقاومة، الذين يتولون توزيعها.. واتذكر ذلك البيان الذي كان عنوانه "بيان من وراء القضبان"، والذي كتب عنوانه باللون الأحمر، وبقيته بخط أزرق جميل، كنا نتعجب، كيف وجد صالح ولد حننه متسعا من الوقت في زنزانته لتنميقه و تحبيره.. عكس وثائق التعذيب فقد كانت بخط سريع، كأن صاحبه كتبه على ظهر جمل أعر.
بعدها بأيام استلمت وثائق باللغة الفرنسية من ولد ابتي، وثّق فيها كل صغيرة وكبيرة عن سجناء فرسان التغيير ، و ما تعرضوا له من تعذيب، وقد ارسلتها بالإيميل لجمال ولد اليسع الذي كان يستعد للحديث في مؤتمر بجنيف عن التعذيب في سجن واد الناقة.
لقد غامر ولد ابتي حينها، في سبيل حقوق فرسان التغيير، الأُلى كان مجرد ذكرهم بخير أو شر جريمة تكفي لأن يغيّب الإنسان وراء الشمس.
لقائي الثاني بولد ابتي، كان حين استلمت منه أياما بعد الانقلاب على ولد الطائع، ملف جرائمه الإنسانية، و طرت بها على متن الخطوط الجوية الموريتانية الى دكار حيث كان في استقبالي جمال ولد اليسع والمصطفى ولد الشافعي، اللذين كانا يتربصان الدوائر بولد الطائع لمحاكمته.
اما أهم المحطات في تاريخي مع ولد ابتي، فقد كانت حين قام نظام الجنرال عزيز بسجني، جراءَ مواقفي المناوئة للانقلاب.. لقد بادر الرجل بالتبرع بالدفاع عني، فسخر لقضيتي ليله ونهاره، و امتطى بساط الريح يطرق المحافل الدولية لتأليب نشطاء العالم الحر للدفاع عني، وكان يزورني يوميا، تقريبا.. و يرفع من معنوياتي، كلما آنس فيها ضعفا، ويشد من عضدي كلما استشعر مني خوراً.. ولكنه لم يكن خلال زيارته للسجن مقتصرا في اهتماماته علي موكله وحده، فقد كان يسألني عن ظروف بقية السجناء، ويتألم لمعاناتهم.. وقد طلب مني مرة أن أوافيه بالأوضاع الإنسانية للسجناء، كيما يتصل بمنظمة سويسرية تهتم بحقوقهم..
كان ولد ابتي إنسانا، ينبض قلبه بالرأفة والرحمة.. مهيبا يوجل صوته الجهوري قلوب الظلمة، و تخطف طلعته الوضاءة ابصار من في عيونهم غشاوة..كان نموذج المقاتل من أجل الإنسان الذي لا يترجل عن صهوة جواده، ولا يضع العصى عن عاتقه، وكأنه موّكل بإسعاد الناس و إسعافهم.
حين تريد عبارة جامعة لأوصاف هذا المناضل القمة، مانعة مما يسِمه به ذوو الترهات، فلن تجد غير عبارة "إنسان".
كانت هذه تجربتي مع رجل، ربما لكل منكم تجربة مختلفة معه، تجسد معنى آخر من معاني السمو و النبل… لم أتطرق لما أعرفه عن ماضي الرجل النضالي، من بداية الثمانيات، حتى الأن، فهو تاريخ تراه المقلة العمياء.. و إنما أردت أن اقتصر على تجربتي الشخصية، التي هي قيض من فيض أمجاده.. و أن أتمنى له النجاح والتوفيق في سباقه لنقابة المحامين، التي أعتقد أنها ستبوء بـ"شين السعد" لو أنها زفت لغيره.
قبعتي لك أيها العملاق في زمن الأقزام، و الشريف في عهد الأطراف، و القمر الذي يفري سُدفة الليل البهيم.. سيتظاهرون لمناوئتك، وستتداعى جموعهم لكسر قناتك، غير أنك الشامخُ، ناطحُ السحاب، ما رست جبال الهملايا.
--
حنفي ولد دهاه
المدير الناشر لصحيفة تقدمي الالكترونية
www.taqadoumy.com