صحيح أن الاستعمار الفرنسي هو من هيأ أذهان الموريتانيين المشتتة بين الانتجاع و سطوة النفوذ باتجاهيه العسكري السلطوي و المعرفي العقدي. كما وجه عمدا هذا الاهتمام بالسياسة إلى حيز الحكم غاية أولى و هدفا أوحد يأتي من بعده تسيير البلاد و العباد في دائرة المزاج و التصورات الفردية أو هي إن توسعت شملت بطانة بذاتها و تشعباتها. و إن للمستعمر الفرنسي - القادم يومها من قارته التي خرجت منذ قرون خلت من أسر العقول الراكدة و الأراضي المظلمة و الغابات الكثيفة و الفيافي الموحشة و الآفاق الضيقة – يمتلك من التوازن النفسي و من وسائل الإغراء المادية ما يسهل مهمة احتواء الغرباء المتخلفين و يمكن من تهذيب سلوكهم المضطرب حتى تقريبهم إلى روح المدنية و الحداثة مع الحفاظ على ضمان تبعيتهم في طويل الأزمان و الآباد. و بالفعل فقد تأسست أحزاب حملت، في الظاهر و المعلن و في فحوى الخطاب و الفلسفة توجهات لتبرير الحضور تراوحت بين تيارات الفكر:
· القومي في الحيز الجغرافي المحدود،
· و القومي الأرحب مساحة و أبعد آفاقا،
· و النهضوي الحداثي في الشكل محاكاة للغرب،
· و المساير للطرح الاستعماري قلبا و قالبا.
و لم يكن لكل هذه التوجهات التي خرجت فجأة بدون سابق قناعات أو تمهيد و عارية من أي ثوابت أو أبعاد أو منطلقات باستثناء ما يكون من إشارات خافتة و بعيدة تصل باهتة من تخوم الخلفيات الفطرية القابعة في الأعماق، إلا أن هيأت لتقييد الإرادات و استبعاد إمكانية تشكل أي وعي مستقبلي - و ذاك قصد الاستعمار في المدى البعيد - يرسو بذاته على ثوابت و مبادئ و قيم لو أنها وجدت قد تصقل مع ترسيخها قناعات ثابتة و تضع على السكة مشروع الدولة المكتملة و المتكاملة الأركان و القوية البنيان.
حقائق لم يتسن إدراكها للمنهمكين و المتعاطين بنهم، في تلك الحقبة التي غيرت ناموس التعامل و التعاطي مع مجريات الحياة، مع السياسة و الناطقين في خضمها باسم شعب لم يكن يمتلك يومها وسائل التزكية لأي كان أو بالأحرى تفويضه للعمل نيابة عنه في هذا المضمار الذي ينشد التشاور بين جميع الأطراف و الإجماع على القواسم المشتركة في حلقة مترابطة الأوصال.
و كان الاستقلال قد جاء في بداية الستينيات خالي الوفاض إلا من خشبة مسرح تمكن من القيام باستبدال شكل الفوضى التي كانت سائدة بأخرى أكثر هدوء و نضجا و أقوم قيلا، فتلاشت و بفعل الاستعمار مرة أخرى كل تلك الأحزاب و كأنها لم تكن في يوم واقعا معيشا ليتربع منفردا حزب الشعب الموريتاني على عرش الحضور و العمل السياسيين.
إنها فترة الخمسينات و الستينات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945 حيث كان الاتحاد السوفييتي، بفأسه و منجله المطبوعين على خلفية حمراء، من صناع الانتصار فيها على النازية الألمانية و الفاشية الإيطالية و اليابانية تحت راية تعبق بالفكر الشيوعي البولشفي اللينيني المركسي الذي أسس للديمقراطية الاجتماعية أو الديمقراطية الشعبية. و جدير بالذكر أن هذه الديمقراطية التي وصلت إلينا رياحها بعيد الاستقلال مع الطلائع الأولى لحركات التمرد على الجمود و الظلامية و ظلم الإقطاعية و سلطة الأقوى، تقوم على العمل من أجل رفع مستوى المواطنين من الناحية المادية، أي تحقيق المساواة في الثروة بين أفراد المجتمع ، في حين أن الديمقراطية التقليدية السائدة في الغرب و التي استنسخت منها أحزابنا ترمي فقط إلى تحقق المساواة السياسية بين الأفراد لشأن قيادة البلد .
و لما لم يكن الحزب الواحد قد استطاع أن يُسكِت هذا الدخيل على أجندته الرامية إلى الاستمرار بقيادة البلد دون منازع، فإن دخول الحركات القومية الضيقة و الإسلامية الخارجة هي الأخرى على النمط ألمعتقدي السائد على الخط، و سنوات الجفاف الماحقة و حرب الصحراء الضروس، و الانقلابات العسكرية المتكررة، فقد نفذ الفكر الشيوعي بما مثله من ثورة غير مسبوقة على كل أنماط الأحكام و القيود التي كانت تكبل العديد من الشعوب ليؤثر تأثيرا بالغا في العقول و النفوس بما يطالب به من قسطاس بين الأفراد و الشعوب في إطار عدالة اجتماعية تلغي الأنظمة الطبقية و تكرس مبدأ المساواة و الندية في الحقوق و الواجبات. و هو التأثير البالغ الذي غير خارطة تعاطي فئات المجتمع مع بعضها حتى برزت حركات تحررية ضد النظام الطبقي الجائر الذي لم يغير الاستعمار الفرنسي كثيرا في جوهره.
و رغم نبذ الرأسمالية لهذه الديمقراطية الاجتماعية التي قطعت الطريق منذ ظهورها على المحتكرين للثروات و النفوذ و الجاه و السلطة، إلا أن الديمقراطيات السياسية المتبعة في الدول المطبقة لها بدأت بعد التقدم الصناعي والتطور الاجتماعي تنهج اتجاهاً اجتماعياً مقتبسة منها، حيث نصّت دساتير هذه الدول الحديثة، ومنها فرنسا، على العديد من الحقوق الاجتماعية للأفراد، ككفالة العمل في الدولة، ومدة العمل، وشروطه، في ضوء صحة العامل ومستواه الاجتماعي، ونصت على أجر العامل، وأنه يجب أن تكفل له معيشة محددة لا تنـزل عن حد أدنى معين، وكذلك كفالة حق الانضمام للنقابات، وحق التعليم والثقافة بمختلف أنواعها، وتمكينهم من ذلك بجعل التعليم مجاناً، وخلاصة القول إن دول الديمقراطيات التقليدية اتجهت أخيراً إلى تضمين دساتيرها نصوصاً كثيرة تتمثل فيها مظاهر الديمقراطية الاجتماعية. و هي لم تفعل إلا بعد أن تبينت وجوب أن تكون الديمقراطية نابعة من المجتمع و مستندة إلى متطلباته و اشتراطاته. و بذلك فإن البرامج السياسية في الديمقراطيات التقليدية لم تصمد بعد اندثار الشيوعية بسبب شططها و تجاوزها للجوانب الروحية عند الإنسان و ما انبنى عليها من القيم الأخلاقية و التوازنات النفسية، إلا لأنها لم تترد في دمج كل الخطوط و القيم السياسية ذات الوقع الاجتماعي و النفع الارتدادي و التي شكلت ذات يوم وجه الديمقراطية الاجتماعية.
و مما لا شك فيه أن ما تعانيه أحزابنا، من انسداد الرؤيا السياسية الثاقبة وضعف في الخطاب الموجه و البرنامج العملي و ضبابية في الفلسفة المصاحبة، يعود بالأساس إلى جملة من العوامل التي من أهمها غياب تلك التوجهات المرتبطة في كل أوجهها بالديمقراطية الاجتماعية التي صححت مسار التعاطي السياسي منذ ظهورها و أعادت تشكل مرتكزات الديمقراطية السياسية و نظرتها ثم آلياتها إلى الحكم و سياسته من جميع الجوانب.
و لو أنه خلال منتصف العقد الأول من عهد الاستقلال في بداية الستينات و حقبة السبعينات من القرن المنصرم عاشت موريتانيا في ظل الحزب الواحد إلا أنه وجد منافسة شديدة من تيار حركة "الكادحين" المحظورة ذات النزعة الشيوعية المحضة التي استطاعت أن تفتح الباب أمام نظرة جديدة إلى السياسة تولدت أمام الشعب المغيب و أشركت قواعده العريضة في الاهتمام بمقاصدها و لعب أدوار محورية فيها. و لو لم تكن الشيوعية في بعض أطروحاتها الجريئة و ذات النزعة المادية المطلقة قد تجاسرت على الأديان و المعتقدات و التي جزمت بأنها عدوة لعقل الإنسان و تقيده من منظورها عن تحقيق كل أحلامه، لكانت اليوم مكونا رئيسا لكل أشكال الديمقراطيات و لظلت مساهما أساسيا في نضالات الإنسان من أجل الانعتاق والتقدم. و لكن جرت رياح توازن الإنسان بين المادي و الروحي بما لم تشته سفن الشيوعية و تجردها المطلق الذي آل بها إلى التقهقر و الفشل رغم الإرث المتميز الذي تركته من الدعائم و القيم السياسية حيث أصبحت جزء لا يتجزأ من المنظومة الديمقراطية العالمية. و لا سبيل مذ دخلت هذه القيم و شكلت منطلقات للعمل من أجل العدالة و الحرية و الحوار و البناء، لحضور أي حزب أو حراك سياسي و تأثيره ميدانيا في حكم البلد و تسيير شؤونه إلا بالانخراط في منظومة الديمقراطية الاجتماعية التي تمس بنتائجها العملية عموم الشعب و تلامس طموحاته.