محمدو ولد البخاري عابدين 36224642
سبق وأن تعرضت لما هو منتظر من المجالس الجهوية كنظام لا مركزي جديد، وهو النهوض الحقيقي بولاياتنا ومدننا الداخلية التي نسميها مدنا مجازا بينما هي في الحقيقة لا تزال حواضر أو قرى بلا تخطيط ولا معالم ولا عمران، خصوصا أن الدولة خلال السنوات الأخيرة قامت عن هذه المجالس الجهوية الجديدة بالأهم، ولا زالت مواصلة في ذلك كفك العزلة وإطلاق المشروعات المائية الهيكلية، ومباشرة الربط الكهربائي بين مناطق البلاد، وتزويد عواصم الولايات بالمستشفيات الكبيرة المجهزة، وبناء المؤسسات التربوية، والقيام بالإستصلاحات الزراعية العديدة.. والمطلوب اليوم هو العمل على استثمار هذه البنى التحتية المكتملة وتلك التي لا زالت قيد الإنشاء، وتلك التي سينجزها كل مجلس جهوي بكل ولاية في النهوض بهذه الولايات، بما يراعي خلق فرص العمل وتسهيل وسائل العيش في هذه المناطق من خلال تخفيض تكاليف خدمات الماء والكهرباء، وزيادة العرض من خدمات الصحة والتعليم كما وكيفا لتشجيع هجرة عكسية من المركز إلى الداخل، وجعل هذه المناطق جاذبة لأهلها على الأقل بعد أن كانت طاردة لهم، ولإعادة قدر من التوازن السكاني الذي شهد خلال العقود الأخيرة اختلالا كبيرا بفعل سوء الحكامة والتخطيط وبالتالي تمركز المتوفر من الخدمات، على قلته،
في العاصمة التي لا تستطيع هى الأخرى التقاط أنفساها ولا الاعتناء بنفسها لتتطور وتتعصرن في الوقت الذي تقع تحت ضغط الهجرات المكثفة من الأرياف، ويتفاقم الضغط على خدماتها وتضطر للتمدد اللا حضري واللا متناهي ، فلا تستطيع أم ترضع فوق طاقتها من الرضع مثلا، ولا تجد فترة كافية لاستعادة قواها ما بين الولادات إيجاد الفرصة ولا الوقت للاعتناء بنفسها وصحتها، وكذلك هو الحال بالنسبة للعاصمة اليوم التي مهما قيم به فيها من خدمات ومنشآت عصرنة وتطوير، لن يكون له أثر أو قيمة في ظل التوافد السنوي لأفواج الهجرات من الأرياف لمواطنين باحثين عن وسائل عمل وعيش لا يمكن منعهم من ممارستها في العاصمة لحاجتهم إليها، وفي نفس الوقت تتعارض أنشطتهم ووسائل كسبهم تلك مع أي عصرنة أو تطوير. وكما قلت سابقا لا نريد من هذه المجالس مثلا، بعد خمس سنوات، أن تقدم لنا حصيلة هزيلة كتلك التي كانت تقدمها البلديات من قبيل ترميم مستوصف هنا، وإنشاء حظيرة لتطعيم الحيوانات هنا، وبناء ثلاثة حجرات مدرسية هناك..! بل يُنتظر منها أن تتغير واجهة مناطقنا الداخلية بشكل لا تخطئه عين زائرها، وبما يخدم سكانها ويثبتهم في مناطقهم بنفس الخدمات التي كانوا يهاجرون للبحث عنها في مدننا الساحلية أو أحسن وأرخص منها، تغير يغير أنماط ووسائل العيش التقليدية في هذه المناطق عن طريق تثمينها وعصرنتها وزيادة مردوديتها وعائداتها على ممارسيها وعلى الإقتصاد الوطني ككل.. مع التسلح في العمل بالمقاربة الذهبية الثلاثية المعروفة التي لا نجاح لأي عمل بدونها، وهي منهجية العمل، ووسائل العمل، ومتابعة وتقييم العمل. فعمل بلا منهجية تخبط وارتجال، وعمل بلا وسائل عبث، وعمل بلا متابعة وتقييم هدر للموارد والوقت والجهود وعودة حتمية لنقطة الصفر..
وحبذا لم تم إقرار تشجيع نوع من التنافس بين المجالس الجهوية من حيث الحصيلة والأداء والإتقان والإبداع التنموي كما هو الحال بين إدارات الأقاليم في بلدان أخرى. مدركا وواعيا حداثة نشأة هذه المجالس وأن أولوياتها الحالية لا زالت وضع الهياكل وتلمس الطريق.. إلا أن هناك جانب تنموي آخر قد لا تنتبه المجالس الجهوية إلى دوره وأثره في التنمية، وفي التحسين من ظروف حياة الناس وصحتهم وملاءمة محيطهم للعيش والإنتاج، أو تعتبره ثانويا أو ترفا أو هو من اختصاص جهات أخرى، ألا وهو الاهتمام بالتشجير المكثف وخلق المساحات الخضراء، حتى مع استسلام السلطات دوما لعدم وعي أو اهتمام السكان بهذا الجانب واعتباره ليس من أولوياتهم، إذ ليس من المتوقع أن يكون هذا الجانب على رأس اهتمامات الناس باعتبارهم مجتمعا صحراويا لا زالت معارك السلطات دائرة معه حول توعيته بأهمية الأشجار ومخاطر قطعها، مع غياب التربية البيئية في أوساطه، فإذا كانت التربية البيئية تبدأ من المدرسة فإن أطفال المدارس عندنا يخرجون من البيت الخالي غالبا من أي وجود للأشجار، ويعبرون الشارع الخالي هو الآخر من التشجير، ويصلون إلى ساحة المدرسة ليجدوها ساحة جرداء متربة قاحلة، وبالتالي فمن الطبيعي أن يتربوا على عقلية أنه هكذا يجب أن يكون الحال..! كما أن مستوى وعي الناس بأهمية الأشجار ينحصر غالبا في جانبها الجمالي أو كونها وسيلة لتثبيت الرمال فحسب، وصحيح أن الأشجار تعمل على تثبيت الرمال والحد من انجراف التربة، وأنها أيضا تضفي منظرا جماليا مريحا للنفس، وهما وظيفتان مهمتان من وظائف الأشجار وأهميتها، ولكن للأشجار فوق ذلك مزايا وفوائد عظيمة أخرى أثبتها العلم ورسختها التجارب، وتتمثل تلك المزايا العظيمة في النقاط التالية :
1ـ من خلال عملية التمثيل الضوئي تقوم الأشجار بإطلاق الأكسجين النقي في الجو وامتصاص ثاني وأول أوكسيد الكربون منه وما لذلك من أهمية عظمى في الحد من تلوث الهواء، فالشجرة هي الكائن الحي الوحيد الذي لا يُلوث محيطه لأنها خُلقت لتنقيته وتوازنه.
2 ـ من خلال عملية النتح والبخر التي تطلق خلالها الأشجار بخار الماء في الهواء فإنها بذلك تلطف الجو وتخفض من درجات الحرارة المرتفعة، وقد أثبتت الدراسات أن درجات الحرارة تنخفض أربع درجات مئوية بين الأشجار الكثيفة مقارنة بمعدلها في مكان مكشوف، وما أحوجنا لهذه الميزة في مناطقنا التي تشهد أرتفاعا قاتلا أحيانا خلال فصل الصيف.
3 ـ الأشجار الكثيفة توفر الظل وما لذلك من أهمية في الحد من تأثير حرارة الجو أيضا وتمكين الناس من ممارسة أنشطتهم اليومية بنشاط وحيوية أكثر..
4 ـ تعمل الأشجار كمصدات رياح وما لذلك من أهمية في التخفيف من شدة الرياح العاتية، وفي حجب الأتربة والغبار وبالتالي جعل المحيط أكثر صحة ونقاء، وقد أثبتت الدراسات أن مستوى الغبار الموجود في الهواء المحيط بالشجرة يقل بنسبة 75% عنه في الأماكن الجرداء.
5 ـ تعمل الأ شجار الكثيفة على الحد من ضوضاء وضجيج المدن من خلال اعتراضها للموجات الصوتية.
6 ـ تشعر الخضرة والأشجار الناس بالسعادة وتخفف من الضغط النفسي والتوتر والإكتئاب، وبالتالي تساهم في تحسين مستوى الحياة بشكل عام، حتى أنه من السهل عليك التمييز من حيث المظهر بين شخص يعيش في منطقة خضراء مُشجرة وشخص آخر يعيش في منطقة جرداء مكشوفة..
7 ـ وللأشجار والمسطحات الخضراء دورها الثابت علميا في جلب الأمطار من خلال تكثف بخار الماء المنطلق منها خلال عمليات التنفس والنتح في صورة سُحب وغيوم.
وهكذا نجد أن الأشجار هي جزء مما قال الله تعالى فيه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )، كما لا يخفى ما أولاه الشرع للشجرة من خلال مساواتها مع النفس البشرية والنهي عن قطعها خلال الغزوات ( لا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرا... الحديث )، ومن خلال الحث في الحديث الشريف أيضا على غرس الأشجار حتى خلال لحظات نهاية الدنيا وقيام الساعة ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ). فالمطلوب إذن هو تبني المجالس الجهوية لهذا الجانب وإدراجه في أولوية أجنداتها التنموية كبرنامج تنموي لا يقل أهمية عن البرامج الأخرى، بل إنه مكمل وضروري لكل برنامج تنموي مستدام، ولكن حذاري من العشوائية والإرتجال في هذا المجال، إذ لابد أن تكون سياسة التشجير على أسس علمية آخذة في الاعتبار أن لكل منطقة من مناطق بلدنا خصوصيتها الإيكولوجية، فهناك مدن واقعة في مناطق صحراوية صخرية، ومدن واقعة في مناطق صحراوية رملية، ومدن أخرى واقعة في مناطق شبه رطبة، وأخرى واقعة في مناطق ساحلية.. ولكل منطقة من هذه المناطق طبيعتها ونوعية الأشجار الملائمة لها والقابلة للنمو والاستدامة فيها. ولكي نتجنب العشوائية والارتجال ونبذل جهودا وننفق وقتا وموارد في غرس أشجار قد تنمو في بداية الأمر ثم ما يلبث أن يظهر أنها غير متأقلمة مع البيئة المحلية وغير قابلة للاستدامة فيها، يجب اختيار الأشجار التي ثبت بالتجربة قدرتها على التأقلم الجيد والمستدام مع البيئات حسب كل منطقة، وقد لاحظنا أثر الارتجالية في تشجير بعض شوارع العاصمة بنوعية أشجار بدأ بعض نوعياتها يموت وبعضها الآخر يعاني ولا ينمو بالسرعة والكثافة المطلوبين.
كذلك فإن نوعية الأشجار التي تلائمنا وتحقق لنا النتائج التي نريدها منها كبلد صحراوي جاف يشهد عواصف رملية معظم أشهر السنة وارتفاعا لدرجات الحرارة صيفا، هي تلك الأنواع من الأشجار كثيفة وسريعة النمو، ولدينا اليوم أشجار وإن كانت مستوردة إلا أنها أثبتت تأقلمها واستدامتها كأشجار الطرفاء و" التاماريكس " جيدة التأقلم والتحمل للجفاف والملوحة معا، ولا شك أن هناك أصناف ونوعيات أخرى لها نفس الخصائص هي ما يجب الاعتماد عليها. علما أنه ينبغي الفصل بين طبيعة التشجير داخل المدن الذي يراد منه الخلط بين الجانب الجمالي وتوفير الظل وتلطيف الجو، وبين التشجير في محيط المدن المراد به حمايتها من العواصف الرملية وزحف الرمال، وعموما يمكن التخطيط الجيد من اختيار أنواع الأشجار للتشجير داخل المدن باستخدام أشجار تخلط بين جمالها وكثافة نموها، بحيث إذا سرت في الشارع في يوم حار مشمس تسير وظل شجرة يعطيك لظل شجرة أخرى.. مع الإقلاع عن تقليم الأشجار نهائيا إلا ما هو ضروري منه لتقوية نموها، ذلك أن بيئتنا تختلف عن البيئات في البلدان أخرى ذات المناخات المعتدلة أو الباردة التي يكون التشجير فيها من أجل الزينة فقط وليس من أجل تلطيف الجو وتوفير الظل..
أما التشجير في محيط المدن فتناسبه أنواع أخرى من الأشجار قد تشترك مع أنواع الأشجار داخل المدن من حيث التأقلم وقوة وكثافة النمو ولكن قد لا يُشترط فيها تناسق وجمال الشكل إذا تعذر، وسيكون التشجير في محيط المدن أكثر فائدة إذا تم تخطيطه على شكل مربعات وترك مساحات فارغة تشكل وسطا ملائما للزراعة يتم منحها لمواطنين من سكان المدن لاستغلالها في زراعة الخضروات لتوفير دخل لهم وتموين تلك المدخل بحاجتها يوميا من الخضروات، وهو ما سيمنح أيضا جانبا جماليا لمدخل مدننا التي يدخلها الداخل إليها اليوم عابرا مساحات جرداء إلا من الأخبية والمساكن العشوائية خلافا لما هو مألوف في مدن أخرى يدخلها الزائر قاطعا عدة كيلومترات وسط المزارع والأشجار..
ولا شيء أكثر إلحاحا من تشجير كل المؤسسات التربوية كجزء أساسي ومحسوس من التربية البيئية للأجيال، وقد حرصت على إرفاق هذا الكلام بصورتين لخدمة النص، إحداهما لأحد أحياء مدينة نواكشوط، والأخرى لمدينة النعمة بالحوض الشرقي لإظهار مدى الحاجة الملحة لهذا البرنامج ولو من باب المظهر فقط أحرى الجوانب والمزايا العظيمة البيئية والصحية الأخرى للأشجار ! ولا أستثني طبعا من هذا الموضوع جهة نواكشوط التي عليها إدراج هذا الجانب في سياساتها المستقبلية، وتعي أنه يمثل جانبا أساسيا من أي برامج لتحسين أوجه وظروف الحياة لسكان العاصمة، وتعي أيضا أن كل برامجها لعصرنة المدينة من تبليط شوارع ورصف أرصفة سيظل مكلف الصيانة والنظافة مع التراكم اليومي للأتربة الناتج عن العواصف الرملية التي تشهدها العاصمة معظم أشهر السنة بسبب غياب التشجير المكثف داخلها وخارجها، وتعي أيضا ما يمثله تراكم الأتربة من خطر على شبكة صرف مياه الأمطار المنجزة حديثا من خلال سد الأتربة لفتحاتها والتراكم في أنابيبها، وهنا على الجهة أن تتبنى سياسة تشجير مكثفة ومُخططة داخل العاصمة من خلال إلزامية شجرة أو اثنتين لكل باب، وسياسة أخرى للتشجير خارجها باستئناف العمل فى برنامج الحزام الأخضر لحماية مدينة نواكشوط ليصبح برنامجا استراتيجيا متواصلا.