يعد كتاب « الحياة الاجتماعية في موسوعة الأغاني للأصفهاني دراسة تاريخية نقدية» للباحثة الشابة شيرين العدوي ، والصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة بمثابة دعوة للمؤرخين والباحثين الذين يصرون على تقديم التاريخ في القوالب القديمة الجامدة أن يدركوا أنهم يطرحون نوعاً من «البضاعة» في سوق لا يريدها ، وعليهم أن يسهموا في تقديم «بضاعتهم» في الشكل الذي يناسب العصر ، وبالأسلوب الذي يفضله «المستهلك» مع الاحتفاظ بأصول البحث العلمي قاعدة لكل هذه المحاولات ..
وهو ما نجحت فيه الباحثة شيرين العدوى بطلاقة وقدمت قراءة جديدة لكتاب الأغاني تعد إضافة حقيقية للتاريخ الاجتماعي والثقافي بكل ما تتضمنه الدراسة من إيحاء ودلالة وصدق لجزئيات الواقع الحياتي المجتمعي العربي في ظل اغتراب العلم التاريخي وتجاهله وتهميشه لبعض الشرائح والجماعات الشعبية.وتقف موسوعة « الأغاني « لأبي الفرج الأصفهاني على رأس مصادر تراثنا العربي التي تقدم للمؤرخين صوراً أكثر مصداقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية ابتداء من العصر الجاهلي حتى منتصف القرن الرابع الهجري ، ولكن الشهرة الأدبية لهذه الموسوعة طغت على ما سواها ، فأصبحت في أذهان الكثيرين بمصادر الأدب الأساسية في تراثنا العربي والإسلامي.
كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني من كتب التراث العربي المهمة ، وهو كتاب تحتفي به المكتبة العربية أيما احتفاء ؛ ولعل هذا الاحتفاء يرجع إلى ضياع كثير من الكتب التراثية التي كان لكتاب الأغاني فضل النقل عنها أو الرواية عن مؤلفيها ، فكان الكتاب حافظَا لتراث أمة.
ومن هنا انبرت أقلام المؤلفين والمحققين تصنف ، وترتب ، وتختصر ، وتحقق في محاولة منها للحفاظ على هذا الكنز حتى لا تضيع صورة من صور الحياة العربية التي اقترب منها أبو الفرج ونقلها عبر صفحات كتابه.
وإذا كان الكتاب وضع – في الأصل – على أساس المائة الصوت المختارة التي كان هارون الرشيد قد أمر إبراهيم الموصلي بانتخابها مع إسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء ثم راجعها إسحاق بن إبراهيم وهذبها من بعدهم ؛ فقد عنى أبو الفرج بألحان هذه الأصوات ،وكذلك بأصحابها ؛ فأفرد لكل صوت قائله ، وعنى بسيرة حياته نسباً ، ونشأة ، وعصراً معرجاً فى أحايين كثيرة من عصر المغني إلى عصر الشاعر ، وفي بعض الأحيان يمتد في استطراده إلى أكثر من عصر وأكثر من بيئة.
وقد قصد أبو الفرج إلى ذلك قصداً ، حتى لا يمل قارئه ، وإن كان قد أتعب باحثيه بصنيعه هذا في تتبع تلك العصور ، ومحاولة الفصل بينها. وخلال هذا التَّطْوَاف سجل أبو الفرج كثيراً من مظاهر الحياة الاجتماعية لتلك العصور ، مما يبرز قيمة الكتاب من الناحية الاجتماعية.
والواقع أن كثيراً من الباحثين والدارسين قد نوّهوا بقيمة الكتاب من حيث ما يحويه من «أغان» ، وهو ما ينص عليه عنوانه «الأغاني» ، ومن حيث ما يحويه من «أشعار» و»أخبار» تضعه في المصادر الأصلية لأية دراسة أدبية . يضاف إلى هذا الإشادة بقيمته «التاريخية» ، و»الاجتماعية» . وتتجلى هذه الإشادة مثلاً في قول ابن خلدون : «… ولعمري إنه ديوان العرب ، وجامع أشتات المحاسن التى سلفت لهم فى كل فن من فنون الشعر والتاريخ وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب فى ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها ، وأنّى له به».
ويذكر بعض الباحثين أن قيمة هذا الكتاب تعود إلى ما يشتمل عليه من «المعلومات الأدبية والتاريخية والجغرافية والفنية . وهذا ما يجعل الكتاب غزير المادة ، وثيقة لتاريخ الأدب العربي في الجاهلية ، والقرون الإسلامية الثلاثة الأولى» ؛ ومن هنا فإنه «كتاب لا يعْدله كتاب آخر في أحوال العرب الاجتماعية والأدبية».وقد تصدت لهذه المهمة الباحثة الموهوبة شيرين العدوي فعكفت على هذه الموسوعة بمجلداتها التي تجاوزت العشرين تغوص في أعماقها تمحيصاً وتدقيقا بحثا وراء الجماعات الشعبية وطريقة حياتهم وطقوسهم في أفراحهم وأتراحهم لإلقاء المزيد من الضوء على ما في « الأغاني» من صور الحياة الاجتماعية لتمتعنا متعة فنية لا حدود لها ، أبرز بوادر هذه المتعة كانت ماثلة في أن الباحثة كاتبة أديبة بالدرجة الأولى قبل أن تكون باحثة في علم التاريخ لديها حس رهيف بإبداع القريحة الشعبية التي أنتجت هاتيك الروائع الغنية الفولكلورية والأدبية ولديها ذائقة فنية عالية أضافت إلى عقليتها البحثية العلمية الدقيقة رصيداً هائلا من القيمة الوجدانية فحققت درجة من التوازن بين لغة العلم ولغة المجاز الأدبي ، فإذا المجاز يخدم العلم ، وإذا العلم يستنير بالمجاز ، نفس التوازن المدهش في دقته أحدثته في منهجها العلمي الذي كتبت به هذه الدراسة التاريخية في ثلاثة أبواب يصلح كل واحد منها أن يكون موضوعاً لكتاب علمي قائم بذاته ، فالحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي كما تصورها موسوعة « الأغاني « تصلح موضوعا لكتاب جديد مستقل ، وكذلك الحياة الاجتماعية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي ، ثم الحياة الاجتماعية في العصر العباسي حتى وفاة الأصفهاني في قرابة منتصف القرن الرابع الهجري . ولعل هذا يكشف عن مدى الجهد الذي بذلته الكاتبة في سبيل إنجاز هذا العمل الذي يؤكد على « الطابع الشعبي والفني « في كتاب الأغاني الذي اهتم الأصفهاني برصد الجوانب العارضة في حياة الطبقات الدنيا والمتوسطة كأدوات الزينة ، وأنواع الطعام والحلوى ، واستحداث أزياء جديدة ، وشيوع مجالس الغناء والطرب ، بل كان حاضر الذهن في تنبهه إلى رصد بدايات هذه المستحدثات الصغيرة ذات العلائق الاجتماعية إذ كثيرا ما كان ينبه قراءه بمقولة :»..أول من ..« وهذا دليل قاطع على وعيه بالتطور ، فضلا عن أنه يسر للباحثين تعقب هذه المستحدثات الصغيرة ، ووضعها في دوافع وجودها ، وملابسات استمرارها ، وأسباب التوسع فيها ، ثم استقرارها أو اضمحلالها بما يشكل في النهاية بصيرة عارفة بقانون العادات والتقاليد ، ومصادر التأثير والتأثر وأسبابه منذ أن تخلى التاريخ عن مكانه التقليدي في قصور الحكام والأباطرة والسلاطين والملوك والخلفاء ، ونزل يسعى وراء الحقيقة في الشوارع والطرقات والأسواق . بين جموع الفلاحين والطبقات الشعبية والفئات المهمشة والمغمورين وجماعات المثقفين والفنانين والشعراء وبدا علم التاريخ يدرس أحوال صناع التاريخ الحقيقيين في المصانع والحقول والمدارس والجامعات ، وأماكن العبادة ونوادي الأدب وقاعات الفنون ..وتمثلت النتيجة في تلك الفروع الكثيرة التي تفرع إليها مسار الدراسات التاريخية وهذا التطور الذي ألم بعلم التاريخ ـ وكان مثالا في ذهن الكاتبة ـ هو الذي جعل للفن لا سيما الأغاني بوصفه من مصادر المعرفة التاريخية قيمة كبيرة لدى المؤرخ الذي يعكف على إعادة بناء الماضي متسلحاً بمنهجهه الاستردادي.
فإذا كان مفهوم « التاريخ» قد اتسع ليشمل مسيرة البشر الحضارية ، فإن مصادر المؤرخ ، التي تساعده على إعادة تصوير الماضي قد تنوعت بحيث تشمل كافة ما أنجزه الإنسان ، أو فكر فيه ، أو تطلع إليه بأمل ، منذ بدأ سعيه على وجه الأرض وفي أشكال الإبداع الفني المتنوعة « من فنون القول شعراً ، ورواية ، وقصة ، ومسرح ..وما إلى ذلك ، إلى فنون الشكل من عمارة ونحت ، وتصوير ..وغيرها « يجد المؤرخ مادة تاريخية خصبة تساعد المؤرخ على أن يكشف عن روح العصر ووجدانه ، ويساعده على الاقتراب أكثر من هدفه الذي هو إعادة بناء صورة الماضي . الدراسة رغم تخصصها الدقيق إلا أنها تضمن المتعة الفنية حتى لغير المتخصصين .
عمرو عبد العزيز منير