لا أحد يماري في العلاقات التاريخية والبشرية العميقة بين المغرب والجزائر. فقبل وضع الاستعمار الحدود بين البلدين ظلت العلاقات وطيدة بين الشعبين. ورغم خضوع الجزائر للحكم العثماني، بقيت الأواصر تربط بينهما على المستويات كافة: رحلات تجارية، علمية، مصاهرة.. لكن الاستعمار الفرنسي فصَّل الحدود بين البلدين حسب رغبته الوهمية في كون الجزائر «محافظة» أبدية لفرنسا، فلم يراع الوجود البشري الموحد والذي أمسى موزعا بين خارطتين. ومع ذلك ظلت العلاقات قائمة ومتواشجة.
لكن حصول الجزائر على استقلالها، واصطفافها إلى جانب «الجمهوريات الثورية» العربية، في الستينيات دفعها إلى اتخاذ موقف عدائي ضد «الملكية الرجعية»، وكان احتضانها للمعارضة المغربية كافيا لتعميق الشرخ بين البلدين. وجاءت حرب الرمال لتعمقه حتى أنه سيزداد اتساعا بعد المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية من إسبانيا، حيث دافعت الجزائر عن «تقرير المصير» غير مراعية المطالب المغربية الشعبية العادلة. وصرحت بعدائها للموقف المغربي، باحتضان الانفصاليين، ودعمته بطرد أزيد من 4500 مغربي، مجردة إياهم من كل أشيائهم وحقوقهم، ولعل من أهمها، ألفتهم مع الفضاء الجزائري الذي فتح الآلاف من الأطفال أعينهم فيه. ولم يكن لكل لهذه المواقف من معنى غير «تأزيم» النظام الرجعي من لدن الخيال الجزائري «الثوري»؟
جرت مياه كثيرة في مجرى الشرخ الجزائري ـ المغربي، وانهار جدار برلين، ومعه المنظومة الاشتراكية مظلة الثوار، وسقطت معهما الجبهات الصامدة والمتصدية والممانعة، وانكشفت الجمهوريات العربية، وقد صارت مَلكيات أكثر رجعية وديكتاتورية.
لكن كل المياه التي جرت حتى أنها جفت، لم تمسح الماضي «الثوري» من متخيل العسكر. فلم يكتف بتصفية تجربة ديموقراطية فتية قبل المهد، وجرت البلد إلى الطوفان الذي أتى على الأخضر واليابس، على المستوى الداخلي. ولكنه أيضا ظل يستعيد الصورة القاتمة للمغرب، في متخيله، على المستوى الخارجي. بل إن نجاحات المغرب المتلاحقة في تجاوز سنوات الرصاص، وتطويره تجربته الديموقراطية في عهد العاهل محمد السادس، وحصول الاستثناء المغربي بالمقارنة مع «الجمهوريات الثورية» التي ما تزال تخوض حروب التدمير ضد شعوبها حتى الساعة،،، لم تزد «الجمهوريين» سوى المزيد من الكراهية والعداء للمغرب.
قام المغرب بعدة خطوات لرأب الصدع، وظل اتحاد المغرب العربي صورة بئيسة للجامعة العربية؟ وفتحت الحدود ثم أغلقت،،، وطال أمد الفراق، وبعدت الشقة.
ها نحن، الآن، أمام شرخ يتزايد ويتعاظم، في زمان الأزمة العربية الكبرى. وبدل أن يحصل التقارب الجزائري ـ المغربي، وتتعزز الديموقراطية فيهما لفائدة البلدين والشعبين، ليقدما بذلك الاستثناء المغاربي للخروج من النفق الذي يعيشه الوطن العربي، نجد أنفسنا أمام : سباق التسلح بين البلدين، وتمتين الحدود بالإسمنت أو بالحواجز الإلكترونية، من جهة، وأمام خوض حرب إعلامية شرسة من لدن الجزائر، واتهام كل طرف الآخر بأنه مصدر المخدرات أو حبوب الهلوسة؟
يحصل كل هذا في الوقت الذي نجد فيه البلدين يتنافسان على الانفتاح على إفريقيا جنوب الصحراء، وفي الوقت نفسه على اقتناء الأسلحة، والتسابق عليها، من أوربا؟ ولا يمكن أن ينجم عن ذلك سوى تضييق الخناق على الشعبين، وتبديد الحلم في تبادل المصالح وتعزيز الأواصر بين الأهل والأقارب.
تواجه البلدين مشاكل وقضايا موحدة ومشتركة، أليس تاريخهما ضاربا في أعماق الزمن؟ ولا يمكن حل هذه القضايا والمشاكل بدون التعاون والتآزر؛ وأي تأجيل لا يمكن إلا أن يجعلها تتفاقم مع الزمان. على رأس هذه القضايا : قضية التنمية البشرية التي تعطلت بسبب السياسات اللاوطنية واللاديموقراطية، وقضايا التطرف الديني والهجرة السرية، باعتبارهما مشكلتين طارئتين، والأمازيغية بصفتها قضية ثقافية واجتماعية. إنها قضايا جوهرية، ولا تستأهل أي تأخير، وليس بالتسابق على التسلح، أو خوض الحروب الإعلامية… يمكن مواجهتها.
لا يمكن التفرغ لهذه القضايا بدون تجاوز المنطق «الثوروي» تجاه القضية المغربية والتي تقترب من الأربعين حولا قاسى فيها الشعب المغربي الأمرين، وقدم فيها الأرواح وجزءا من قوته اليومي لعدة سنوات؟ هذا، أولا، وهو المدخل الطبيعي لإرجاع المياه إلى مجاريها التاريخية.
ثانيا، إن التسلح الحقيقي الذي ينبغي أن يتسابق عليه المغاربة والجزائريون هو والعلمي والمعرفي والتكنولوجي. إنه السلاح الحقيقي الذي يجنبنا شحذ أي سلاح آخر لا يخدم الشعبين الشقيقين. أذكر هذا السلاح بالضبط، لأنه عندما أغلقت أبواب مصر وسوريا، بسبب القلاقل التي يعرفها البلدان، في وجه المتربصين الجزائريين من الأساتذة والباحثين، لم يجدوا أمامهم سوى بوابتهم الطبيعية والقريبة : المغرب. فصاروا يتوافدون زرافات ووحدانا، على الجامعات المغربية، فلم يجدوا في المغاربة سوى إخوان وأشقاء. ورأوا، بأم أعينهم مغربا غير الذي تسوقه لهم وسائل إعلامهم. وكان الاتفاق من لدن جميع الباحثين المغاربة والجزائريين أن التعاون الثقافي، هو المدخل الضروري لردم الهوة التي تصطنعها السياسة عندما لا توظف لخدمة الأجيال القادمة.
كان التلمساني والوهراني والأغواطي.. يجد له في فاس ومراكش وطنجة وطنا وجامعة وزاوية. كما كان الفاسي والوجدي والطنجي.. يجد له في الجزائر مرتعا وملاذا. كانت وما تزال رباعيات سيدي عبد الرحمن المجذوب تجري على ألسنة الجزائريين جريانها في الخيال المغربي. وكان رأس سيدي أحمد التيجاني يسقط في عين ماضي، ليدفن جثمانه في فاس، وتكون طريقته جزائرية ـ مغربية بلا فرق، قبل أن تعمل السياسة على توزيعه بين الجزائر والمغرب، فإذا «التنافس» بين النظامين، وكل يدعي أنه الوريث الشرعي لـ»الطريقة التيجانية»، ويعمل على استقطاب الأفارقة إلى طائفته؟
لا يمكن التسابق عليه. إنه يدعو إلى التعاون والتشارك، وإلى إزالة الحدود والحواجز. بمرارة أقول: ألا قد بلغت؟