ربما لأن قصائده مكتوبة بحبر فلسطين وألمها، كانت، ولا تزال، حالة شعرية ترفض التدجين، تلهم الضحية شجاعة الصمود والتسامح في زمن أصبح فيه موت الفلسطيني مسألة غير مهمة يتعاطى معها العالم بحياد جارح.
في ظلّ هذه الظروف الدموية الاستثنائية، ليس حدثاً عادياً للقضية الفلسطينية رحيل شاعر كبير بقامة سميح القاسم، هو الذي كرّس حياته بحثاً عن المستحيل، حالماً بمستقبل أفضل على مساحة جغرافية أكبر للفلسطينيين، وحياة لا تستثني شعباً من كرامتها وحريتها.
ربما يصح في هذه المرحلة الربط عاطفياً -على الأقل- بين الشاعر والقصيدة، لهذا سنعود في لحظات كثيرة إلى عبارات سميح القاسم الشعرية التي تتسلل سريعاً الى القلب، وإلى مواقفه السياسية الجدلية التي تضعنا في مواجهة حرجة مع الأسئلة: هل من الإنصاف الخلط بين الشاعر والسياسي؟ أليست فكرة قاسية أن لا يُرى من الشاعر إلا موقفه السياسي؟
لم يكن الشاعر مرة بعيداً عن السياسة، فقد استطاع أن يشكّل بجدارة صورته الشعرية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أديباً مقاوماً، أرادت قصيدته أن تكون معادلاً لشجرة زيتون، رمز الصمود الفلسطيني. أراد لكل قصيدة أن تكون شجرة، وسياج صبّار، وسوراً حجرياً، وبئراً عتيقة تنتظر الغيّاب، كان هذا هو هاجس تلك الموجة المنضوية تحت اسم «أدباء المقاومة»، موجة أرادت أن تقول لا في وجه الحاكم العسكري الاسرائيلي، فصارت الـ «لا» هويتها وفرادتها، موجة لم تكن تملك ترف الانشغال بمسائل تفصيلية عابرة، مع أنها كانت تحلم بأن تفرغ لها ذات يوم.
لكن من قال إن الشاعر الذي ولد في ظل الاحتلال (1939)، وعاش كل حياته هناك لم يلتفت إلى كل شأن مهما صغر، وهنا كانت مأثرته في تحويل كل تفصيل حياتي إلى جزء من قضية مقاومة. هكذا اتسعت كتبه، التي زادت على الستين بين شعر ورواية ومسرحية، ليصبح من العسير وضع حدود بين هموم السياسة وهموم الحياة. رغم أنه كان من المريح للقارئ أن يحتفظ بصورة نمطية للشاعر، هي صورة المقاوم الذي يروي القصص النضالية لصمود فلسطينيي الداخل.
لقد أدرك القاسم مبكراً سؤال الموت، وآمن بأنه انتقال من الزائل إلى الخالد، لهذا لم يشغله كثيراً، ولم يظهر جلياً في قصائده كما ظهر في قصائد مجايليه من الفلسطينيين، لكنه كان يمنّي النفس بأن يفي بوعده للشهداء:
« سنعطي الشوارع أسماء من لم يسيروا عليها طويلا..
سبيل الشهادة كان السبيلا… وشاءت خطى عمرنا أن تسيلا..
سنعطي الشوارع أسماء من لم يسيروا عليها طويلا..»
الشعراء يرحلون ولا يغيبون، تختزنهم ذاكرة الأجيال وذاكرة القضية الفلسطينية العادلة التي لا يكسرها موت رموزها بقدر ما يواصل من تألقها وحضورها. هذا هو وعد الأجيال، كما ردده دائماً سميح القاسم: «أبداً على هذا الطريق«.
كتب: المحرر الثقافي