سيرة الكنعاني وكعب أخيل..

خميس, 2014-08-21 20:53

سميح القاسم اكبر من ذاكرة شعرية، واكثر اتساعا من حلم يركض كالساعات، لذلك كان يكتب بإفراط حتى يتخلص من وهم الذاكرة، وحتى لا يكون قريبا من شطحات النفري الباحث عن اتساع الرؤيا وضيق العبارة..
ما كان يصنعه سميح القاسم يليق بالشعراء الذين يرممون العالم من خرابه الوجداني واللغوي، اذ ظل يحشو قصيدته بالكثير من الغناء حتى لا تصدأ، مثلما ظل يهرّب قضيته الثورية من الوثائق والخطب والمشاجب ليتركها تمشي في الشارع العمومي، تمارس طقوس شجنها وانوثتها وغزلها، اذ تغوي حولها الكثير من العشاق والمغامرين، اكثر مما تصنع حولها عاصفة خانقة من الثوار الموظفين، والثوار(الكسبة) واصحاب الفقهيات التي لاتصنع وطنا او قبلة او غيمة..
استعادة سميح القاسم بعد رحيله لا تعني اعلانا علنيا عن موته، بقدر ما تعني اعادة قرائته بوصفه جزءا من سيرة الفلسطيني المهاجر، والمنفي، وسيرة البلاد التي تشبه صناديق السندباد القديم.. يكتب للسيرة او يغني لها لافرق، لانه من نمط الشعراء المغنين الذين يمسكون اصابع الموسيقى والقصيدة، ليمارسوا طفولتهم مع فلسطين المكان، وفلسطين التاريخ وقراطيس الرحالة،فلسطين الحاكية لاولادها اسفار المدن المسكونة بالبرتقال، والاساطير التي تركها الفينيقون والكنعانيون عند حافات البحر..
منذ ان كتب(مواكب الشمس) وحتى ماكتبه اخيرا(أرض مراوغة. حرير كاسد. لا بأس)و( سأخرج من صورتي ذات يوم) كان يصطنع للقصيدة وظيفة للشجن والغناء في آن معا، مثلما يضع تلك القصيدة بوصفها وعيا بالاشياء التي تحوطه، بدءا من يانكي المحتل الاسرائيلي، وصولا الى احلام الفلسطيني الطيب بالاطمئنان والحرية والسفر دونما انفاق او حواجز، وانتهاء بكتابه اغترابه الداخلي والوجودي الذي لم يفارقه، والذي ظل يساكنه مثل هاجس او سؤال فادح..
وجد القاسم في علاقته مع صديقه محمد درويش نوعا من التعويض، والمشاطرة في صناعة (الحلم الوطني) اذ تحمل القصيدة غناءها وقلقها وشغفها، لتكون الاقرب الى البندقية والى موجة البحر، فهو لايصنع قصيدته للتهييج القومي، ولا يقدم نصا في الاستلاب، قدر ما يدرك ان القصيدة الجيدة هي ذاتها الموقف الجيد من القضية والانسان.
كانا معا في المشهد، وفي تأمين ممرات سرية للقصيدة والافكار، لتمارس لعبة عبورها بعيدا عن اللصوص والرقباء، وقريبا من يوميات الفلسطيني المكسو بذاكرة الحرب، لتمارس هذه القصيدة بهجتها في اذكاء روح المعنى والوجود، وفي تلمّس التفاصيل واليوميات الغائبة، وحتى استعادة بعض ما تشح به الذاكرة، حيث الام والحبيبة الاولى والرعشات الاولى، وكل ما يمنح الفلسطيني احساسا بانه ذات الكائن الذي يحلم ويحب ويثور، وليس هو الكائن الذي اختزلته الثورة في يوتوبيا المصلوب والمطرود والمخدوع..
هذه الصناعة الشعرية هي اكثر امتيازات سميح القاسم حضورا في يوميات المشهد الفلسطيني في مرحلة مابعد هزيمة 1967، والتي وضعت الشاعر في الخندق وعند الحافة، لكنها ايضا دفعته لان يصطنع لحضوره الشعري امكنة اكثر حميمية، واكثر توهجا..
موت سميح القاسم وفي شهر آب- الشهر الذي مات به محمود درويش ـ يعيدنا الى العتبة مرة اخرى، لكي نقرأ القصيدة والسيرة، وحتى الذاكرة، ليس لاعادة انتاج المتحف الفلسطيني، بل لاعادة تحريك السياق المرعب الذي ترك الكثير من الشعر خارج الحقل والغابة والاصابع..
احسبه كان يعي موته، اذ كان يترقبه بعصا الحكيم منذ سنوات، وكأنه يقول انا الان بساق ثالثة…لقد عرف الموت ان جسدي بات يشبه جسد اخيل، مكشوفا من كعبه لاقواس النشاب، ماعليك ايها الموت سوى ان تقودني الى صديقي انكيدو لنكون معا هناك، حيث نتبادل الحكايات القديمة، ويكون الفلسطيني العالق فينا فينا اكثر اقترابا من الوطن الغائب، والحاضر والباعث على اصطناع سيرتنا الكنعانية التي لا تنتهي…
*كاتب عراقي

علي حسن الفواز