تَحرُّر المثقف من السِّياسَة، بالمعنى الذي أعْطَتْه حنَّا آرنْت لكلمة سياسة، في تمييزِها بين السِّياسَة والسِّياسِيِّ، هو تَحرُّرٌ من هيمنة الرؤية الأُحادِيَة الضَّيِّقَة التي تشرط نفسها بالرَّاهِن، أو بما هو آنِيٌّ وعابِر. فالثقافة، وفق ما ذَهَبْنا إليه من قبل، هي أفُق مفتوح على المستقبل، وهي اسْتِشْرافٌ، واختراقٌ لكل ما هو آنِيٌّ وعابِرٌ، أو هي طُرُقٌ بالمعنى الذي أعطاه هايدغر للكلمة.
بمعنى أنَّ المثقف، في الحقل الذي يعمل فيه، هو مُنْتِج رموز ودلالاتٍ، ومُنْتِج معانٍ. فهو يُبْدِع ويَخْتَلِق، ويقترح أفكاراً لا ترهن نفسها بالمعطيات الرَّاهِنَة فقط، بقدر ما يحرص على استشارة الماضي واختبار المُدَوَّنات والنصوص والوثائق واسْتِشارتِها، والاتِّصال المباشر بالوقائع والأحداث، من خلال المُتابَعَة والمُراقَبَة والرَّصْدِ المُنْصِت، الفاحِص، والمُتَأمِّل، وهو في ذلك عكس السِّياسِيّ. أو المُشْتَغِل بالسِّياسَة، الذي يكون مُتَعَجِّلاً في قراءة الواقع، لا يَهُمُّهُ الإنصات والقراءة والتحليل، بقدر ما تَهُمُّه النتائج. أو بتعبير آخر، فهو مشغول بالجواب، ومشروطٌ به، ولا يفكر في مزالق ومآزق السؤال، وما قد يَحْتَمِلُه من أجْوِبَة أو تأويلاتٍ، وما تتطلَّبَه النتيجة، نفسها، من حَفْرٍ وتفكيك، قبل الوُصول إليها، ليس باعتبارها حقيقةً نهائيةً وحاسمةً، بل باعتبارها اقتراحاً، مبنياً على حقائق ومعطيات، وعلى توظيف علوم ومعارف، تسمح بتوفير حدٍّ مقبولٍ من المعقولية.
من ينظر إلى المثقف، ويَعْنِيني هنا المفكر والناقد بشكل خاص، في رفضه للسياسة، باعتباره شخصاً مُنْزَوِياً في ذاته، أو مُنْكَمِشاً على نفسه، فهو لم يُدْرِك بعد، ما نُريدُه بهذا التمييز أو الفَصْل، بين المثقف والسِّياسِيّ. فاستقلال المثقف بذاته، معناه استقلاله بفكره، وبرؤيته، وبموقفه، وبما يقترحه من تحليلات وأفكار. فعطب السياسة كان، دائماً، في انفرادها بالجواب، وفي اعتقاد رَجُل السِّياسَة أن الحقيقة تخرج من فَمِه، وأنَّ المثقف هو تابع للسياسيّ، دون أن ينتبه، هذا الأخير، إلى أنَّ رؤية السِّياسِيّ ناقصة، لأنَّه لم يكن، وهو يفكر ويُخَطِّط، أو يتكلَّم و يخطُب في الناس، يَسْتَمِع لِما يقوله المثقف، أو لِما وَصَل إليه من نتائج ومُعْطَياتٍ، هي حصيلة تفكير منهجي، مبنيّ على اختبارات ومناهج علمية، وعلى استشارة معارف حديثة، دونَها لا يمكن لأيٍّ كان أن يَحُلَّ اليوم، الكثير من المعضلات، لا في حقل العلوم، ولا في حقل السياسة نفسها، باعتبارها علماً ومُمارسةً في نفس الوقت.
الإخفاقات التي تعرفها السياسة اليوم، ليس في العالم العربي فقط، بل في كل دول العالم، والفشل الدريع الذي عَرفَتْه الخُطَط والبرامج التي خرجَتْ من عقل السِّياسِيّ وفكره، هي تعبير عن هذا الانْفراد، أو الرؤية الأُحادِيَة التي كان السياسيّ يعتبرها جديرة بحل مشكلات الكون، في ما هو، في حقيقة الأمر، كان يُضيف لِتَسَلُّطِه في السِّياسَة وفي الحُكْم، تَسَلُّطَه في الرأي، وفي الاستفراد باتِّخاذ القرار، دون استشارة المثقف، أو الأخذ برأيه، وهو ما كان سائداً في العصور السابقة على زمننا هذا.
ألم يكن للفقيه، مثلاً، وهو صورة من صور المثقف في الماضي، في الثقافة العربية تحديداً، دور في توجيه الرأي، وفي اتِّخاذ القرار، أو بالأحرى، الاستماع له وهو يتأمَّل ويُحَلِّل ويقترح، أو يُفْتِي في ما يُريدُه الحاكِم من أمور، أو في ما لا يُريدُه، وفي هذا السياق يمكن استعادة ما عُرِفَ بـ «محنة ابن حنبل»، وأيضاً جُرأة ابن رشد، في تفكير العلاقة بين الدين والفلسفة؟
*شاعر من المغرب
صــلاح بوســريف