بقلم: الدكتور محمد الامين ولد الكتاب
لقد ساد لفترة من الزمن لدى بعض الساسة و صناع القرار في بلادنا نزوع إلى ازدراء الثقافة في معظم تجلياتها و إلى الاستهانة بالمثقفين و عدم القناعة بجدوائية و وجاهة إشراكهم في دوائر صنع القرار ات المتصلة بتطوير المشهد الثقافي و التعاطي معه والسعي إلى النهوض به ،اذ لم يكن يتوفر لدى هؤلاء الساسة الوعي الكامل بأهمية الثقافة كعامل فعال في نشر الوعي الاجتماعي وتعميق الحس الفني والارتقاء بالذائقة الجمالية و ارساء اسس التمدن و الحضارة . ولم يكونوا يدركون أن الثقافة بكل أبعادها تشكل رافعة اقتصادية تساهم بحظ وافر في النماء الاقتصادي والتطور الاجتماعي والازدهار الثقافي للبلاد ، ولم يكونوا يعون أن رأس المال البشري الذي تساهم الثقافة في تكوينه و تطويره هو أهم عوامل التنمية و التمدن و التحضر . كما لم يكن بمقدورهم تمثل العلاقة الوطيدة بين توفر الساحة الثقافية في البلاد على دور النشر و المتاحف و المسارح ودور السينماء و معاهد الفنون الجميلة و اروقات عرض الفنون التشكيلية و المكتبات و الفضاءات المخصصة لمعارض الكتب ، و مشاغل للرسم و النحت و الخط و الزخرفة و الصناعات التقليدية في مجالات الخزف و الخشب و النحاس ... لم يكن بمقدور هؤلاء الساسة تمثل التعالق بين تلكم المنشآت و النماء الاقتصادي والرقي الاجتماعي والحضاري. ولعل هذه الذهنية و ما يترتب عليها من ضيق في الأفق و محدودية في الرؤية هي ما قد تسبب في التمادي لوقت طويل في إسناد مسؤولية وزارة الثقافة إلى أشخاص ليست لديهم خلفيات ثقافية ، ولا يتوفرون على رصيد معرفي يمكن ان يحصل السكوت عليه .وليست لهم تجارب ميدانية في ممارسة و ترقية و تسيير مختلف مكونات الثقافة وتجلياتها .
فترتب عن هذه الوضعية المفارقة و لفترة طويلة من الزمن التنافر و القطيعة بين معظم المسؤولين الذين تعاقبوا على هذه الوزاة و العديد من المثقفين المقتدرين و اصحاب الكفاءات و المواهب و الخبرات و التجارب . ونجم عن ذلك تراجع ملحوظ في إنتاج الآداب و الفنون و باقي المعارف الأخرى. و بالنتيجة حصل تقلص ملحوظ في عدد المنشآت و المؤسسات المنتجة لمختلف ألوان الثقافة و أبعادها، مما قاد الى ضمور مشهود للساحة الثقافية في البلاد.
وكان أن وصل الى سدة الحكم في غرة أغسطس 2019 عن طريق صناديق الاقتراع و بفضل مراعاة مبدأ التناوب السلمي على السلطة ، فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي جاء بأسلوب جديد في ممارسة السلطة يعتمد مقاربة جديدة للتعاطي مع الشأن العام تقوم على الانفتاح و و التشاور و الحوار و إشراك كافة الفاعلين و القوى الوطنية الحية في تحديد ملامح مصير البلاد و في تكييف عملية صنع القرار ات المتصلة بصيرورة و سيرورة الوطن وصولا الى وضع حد نهائي لتهميش الفاعلين الوطنيين و إقصاء الكفاءات الوطنية و تعطيلها و اهدار طاقاتها و الحيلولة التعسفية دون مساهمتها في عملية البناء الوطني .
و من بين الفعاليات الوطنية التي جرى التواصل والتشاور معها حول سبل النهوض بجانب الشأن العام الذي يعنيها ، اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيون. حيث تفضل فخامته بتوجيه دعوة كريمة لهذا الاتحاد و استقبل وفدا منه قوامه 13 عضوا بالقصر الرئاسي العامر في الرابع عشر من شهر أكتوبر 2019.
و على مدى ما يربو على ساعة من الزمان استمع فخامة الرئيس بعناية و اهتمام لكل القضايا المتعلقة بعمل الاتحاد وسبل تطويره و تمكينه من النهوض بالساحة الثقافية الوطنية و إخراجها من المراوحة التي تعاني منها والارتقاء بكل أبعاد الثقافة في البلاد.
و الجدير بالذكر أن اهتمام الرئيس بالثقافة و أهلها لم يكن طارئا ولا آت من فراغ بل كان قد تخلل كل الخطابات التي ألقاها أثناء حملته الانتخابية بدءا من خطابه الافتتاحي ؛ وقد احتلت الثقافة و المعرفة و الفكر و التعليم مكان الصدارة في برنامجه و التزاماته وتعهداته " ولا غرو فماء العود من حيث يعصر" كما ورد في شعر الشيخ سيديا بابا.
و بودي في هذا المضمار أن أتقدم لمن يعنيهم الأمر بجملة من الاقتراحات و التوصيات ، أرى أنها خليقة اذا ما أخذ بها أن تساعد في النهوض بالمشهد الثقافي في وطننا و تسهم في وضع البلاد على سكة التقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي و الارتقاء المدني والحضاري.
أعتقد أنه لبلوغ هذه الأهداف فإن من اللازم ،
على المدى القصير :
• إقامة وتوظيف المنشآت و المؤسسات التالية :
- دار للطباعة والنشر والتوزيع تضطلع بنشر وتوزيع ما ينتجه كتابنا من أعمال ادبية وفكرية و ما يصدره شعراؤنا من دواوين شعرية و ما تجود به قرائح مسرحيينا و سينمائيين من سيناريوهات درامية وسينمائية.
- شبكة من المكتبات المتنوعة : 'bibliothèque, vidéothèque , filmothèque)
توفر للقراء المتعطشين للارتواء من المعارف فضاءات ملائمة للاطلاع والاستقراء.
ـ أروقات لاحتضان الأعمال التشكيلية و المنجزات الفنية .
ـ متحف وطني و متاحف جهوية على مستوى ولايات الوطن. وذلك لاحتضان و صيانة و عرض القطع الأثرية و التحف التراثية لتمكين الجمهور من الاطلاع عليها و الاستمتاع برؤيتها.
ـ مسرح وطني و مسارح جهوية أذ لا يعقل أن تكون البلاد خالية تماما من منشأ ة تعتبر أم الفنون و أرقى تعابيرها . حيث قال بعضهم: اعطيني مسرحا متطورا أعطيك أمة متحضرة.
ـ أوركيسترا وطنية و هي منشأة فنية وموسيقية لا غنى عنها لشعب ينشد المدنية والارتقاء الحضاري.
ـ معهد وطني للفنون الجميلة لتكوين الفنانين في مختلف ألوان الفنون.
ـ وكالة وطنية لترقية السينماء تستغل ثراء تراثنا و عراقة وغنى تاريخنا و تنوع فلكلورنا من أجل تطوير صناعة سينمائية وطنية لا فتة من شأنها ان تنافس الصناعات المماثلة في دول الجوار، نتيجة لغزارة المادة التاريخية و الثقافية و الفنية المتوفرة لدينا ، والتي بإمكاننا ان نمتح منها لخلق منتج سينماتوغرافي متميز.
ـ فضاءات ملائمة لاقامة معارض للكتب تسمح بجعل ما ينتجه كتابنا و ما يبدعه شعراؤنا في متناول القراء و الباحثين الوطنيين و الأجانب .
وفي المدى المتوسط فأنه يلزم في اعتقادي :
- اقامة مشاغل وورشات des ateliers في مجالات :
- الخط العربي les arabesques
- الرسم و التصوير و المنمنمات و النقوش و الزخارف .
- اقامة منشآت للصناعات الثقافية و الترفيهية المنعدمة تماما في بلادنا .
- إقامة معالم معمارية في الشوارع و ملتقى الطرقات والساحات العامة . بالمعالم و الرموز الثقافية والفنية المميزة لتراثنا و خصائصها الحضارية معدومة .
- إنشاء مساحات خضراء تحوي مروجا من الأزهار و رياضا من الورود تضفي جمالا وبهجة على شوارعنا و تخلع مسحة مدنية على حواضر بلادنا المقفرة من كل مظاهر الجمال والألق. مما يقتضي تطوير فنون التشجير والبستنة . فلا يعقل ولا يستساغ ان يكون من المستحيل الحصول على باقة ورد في اية مدينة من مدننا الا بشق الانفس.
- تطوير مختلف أنواع الصناعات التقليدية في مجالات :
الخزف و الخشب و النحاس و الجلود وفي مجالات الصياغة و و التطريز و الخياطة العليا la haute couture
و ينبغي كذلك العمل على مد الجسور jeter des passerelles بين المنظومة التعليمية الوطنية ومختلف المؤسسات الثقافية كالمتاحف و المسارح و وكالات الصناعات السينمائية و ورشات الفنون التشكيلية ، و ذلك لكي ترفد المنظومة التعليمية الساحة الثقافية و العكس بالعكس.
ـ انشاء آلية وطنية للسهر على ترقية وتطوير كل أبعاد الثقافة و العمل على توظيفها من أجل إنماء البلاد الأقتصادي و رقيها الاجتماعي و ازدهارها الفكري و العلمي .
و قد تتخذ هذه الآلية شكل وكالة وطنية أو مجلس قومي اعلى للثقافة و الفنون يعهد اليه من بين امور اخرى بالسهر على دفع ومواكبة كافة الأعمال الثقافية و الفكرية و الفنية و العلمية و الإشراف على تنظيم الفعاليات الثقافية و الفنية كالمواسم و المهرجانات الثقافية والفنية والشعرية وجمع ونشر و توظيف مخرجاتها سعيا الى توسيع دائرة الإشعاع الفكري و الفني و العلمي للبلاد على الصعيدين المحلي و الدولي.