دداه محمد الأمين الهادي
اتجهت البوصلة صوب الثامن والعشرين، وعزفت المواقع والفسابكة لحن الخوف، من أن يتكرر في موريتانيا ما حدث بمصر، مع "أنور السادات"، حين داهمته جماعة على حين غرة، جعلته في خبر كان، لأن خالد الأسطمبولي– المتهم الرئيس، وشلة من رفاقه نجحوا في التصويب، ومادت مصر، وماجت، والتفاصيل معروفة لمن يهتمون بتاريخ الاغتيالات السياسية، والجريمة الجنائية، ولمن قرأوا رواية الراحل/ الصحفي المتمكن محمد حسنين هيكل "خريف الغضب".
حبسنا أنفاسنا، وصلينا لله أن لا تحدث المأساة، وتضرعنا له، وتصدقنا، وقدمنا النذر كي لا أقول القرابين، واجتاحتنا الوساوس، وتملكتنا الهموم، وزرنا الصالحين والأولياء، ولم تبق عرافة إلا استنطقت ودعها، وكدنا في اشتداد الأزمة أن نركن إلى شيء من همزات الشياطين، فلقد تعاورتنا رياح المخاوف، وصرنا كسفن في أعالي البحار، تموج بها الأمواج يمينا ويسارا ، تماما كما تموج الأعاصير والعواصف بالشفوف البالية، وكم كرهنا – نحن المدنيون الوطنيون – ضعفنا، وقلة حيلتنا، إزاء الأزمات ذات الطابق الخشن.
وجاء اليوم الموعود، وبدأت بشارة أكجوجت تنتشر في كل صوب وحدب، لقد احتفلت موريتانيا باستقلالها، في جو من الرتابة والهدوء، لا صوت يعلو صوت الوطنية، وعزف أناشيدها، وأعلامها المرفرفة.
كان الرئيس – صاحب المقام العالي – يستعرض الوحدات العسكرية من التشكيلات المختلفة، وإلى جانبه في الحفل البهيج قيادات الجيش البهية، ويبدو في كامل أناقته العسكرية، وبهيبة الرؤساء، محاطا في العروض العسكرية بالشعب والجيش، متصالحا مع الجميع، لا ضغينة، ولا حرب، ولا إقصاء، ولا تهميش، إنه ليوم عصي على النسيان، وسيبقى خالدا في ذاكرة جيل التأسيس المشارك، وأجيالنا المختلفة، وجيل غزواني، الذي انتخب الخيار الأفضل "تعهداتي"، وتخلص من تركة الأمس القريب الثقيلة، الطاردة للوئام، والمهددة للسلم والأمان.
وبدأت الأفراح في الولايات تترى، بعد أن رأوا الموكب المبارك يتهادى بثقة ورتابة واستقرار وراحة، نازعا إلى الخير، مكرسا قيم الديمقراطية الحقيقية، حيث شارك الجميع في اللحظة، وفي صناعة الحدث، ووصلت الإشارة، فالتقطتها القلوب، ووزعتها النسمات في طريقها الصباحي، بشائر خير، تجزم بأن العصر الجديد عصر بناء وتعمير، وبأن دعاء الموريتانيين والموريتانيات قد استجيب له، فجاءت الهداية قبل البداية، وانكسرت شوكة الفتنة والطغيان.
رسالة أكجوجت خلقت حالة ارتياح، واربكت حساب دعاة الفتنة، وقتلت أمل المرتزقين من فلول التطبيل والتزلف، الغارقين في سمفونية التشاؤم، المصرين على محاربة الحرية والانعتاق، ممن باركوا الظلامية في طرحها، المشكك بأن الشعب انتخب، وأراد، وساهم في صناعة التاريخ، ولا يريد العيش في جلباب الماضي.
إن أكجوجت أثبتت أن إرادة الشعب وانتخابه لقائده كانا في محلهما، وأن الحكم المتصالح مع الشعب لا يقهر، ولا يتزلزل، ولا ترتبك حساباته، لأنه ببساطة بن حلال، لم يغتصب السلطة، ولم يتقرب إليها بالألاعيب، ولا بمؤامرات الخارج، ولا ميليشات الداخل.
ومثل تصريح وزير الدفاع "حننه ول سيدي" المرهم الشافي، والدواء الكافي من الوسواس القهري، وحالة الفصام، فقد أكد للرأي العام أن لا داع للقلق، وأنه لا توجد محاولة انقلابية، وأن الباعث على الشك كان عملا روتينيا، وهنا أحس الوجلون الخائفون أن خوفهم لم يكن في محله، وشكوكهم كانت محض سرابات، فلا أحد يستطيع زعزعة الوفاق الوطني، ولا النيل من الشعب المرصوص صفا في وجه أعدائه، الرافض لكل ما يعكر صفو مسيرة البناء والتآزر، التي انطلقت توا، وحملت إلينا الكثير من الفأل بالمستقبل الأفضل المشرق، القادم مع رياح العهد الجديد، ليبارك خطواتنا على أديم أرض الأجداد.
ابتسم الموريتانيون معارضة وموالاة، وهم يرون لوحة المنصة تتحدث بلغة الوطن، وتنفسوا الصعداء، وودعوا الهواجس، فلا أحد يستطيع الدخول بينهم وبينهم عندما يتحدون، خدمة للوطن، وللصالح العام، إن اتحادهم هو قوتهم، وهو حاديهم إلى سماوات أرحب، تتسع لآمالهم وطموحاتهم وأحلامهم، فشكرا لمن أعاد لنا جميعا هذا الأمل، وهذا الحنان، وهذا الشعور المفعم بالحب والإخاء، وشكرا لمن ساهموا من قريب أو بعيد في إعادة توجيه البوصلة، إلى حيث نعانق غدنا المضيء، ونجنب أرجلنا أشواك الطريقة المزعجة.