كان الشيخ الحافظ الولي الصالح سيد أحمد بن عبد الله بن أبٌرحمه الله تعالى يمارس التجارة في مدينة كولخ بدولة السنغال بالتناوب مع أخويه العالمين الجليلين محمد اليدالي ومحمدن رحمهم الله في دكانهم المتواضع الذي كان أقرب إلى بيت الضيافة ومنتدى المذاكرة منه إلى التجارة لكثرة من كان يؤمهم فيه من الضيوف وأهل العلم والصلاح.
كان في أقصى مدينة كولخ رجل مشعوذ لديه بضاعة مزجاة لا يضعها عن عاتقه يجول بها يوميا على أصحاب الدكاكين فيعرض عليهم بعض القرون والتمائم يدعي أن من اشترى منها شيئا وعلقه فإن تجارته ستباع سريعا وبربح هائل, لكن ذلك الإشهار لم يكن لينطلي على التجار وأكثرهم من البيظان, فلم يكونوا يلتفتون إلى ترويجاته, ولم يكن له ما يقابل به سخريتهم منه إلا أن يكيل لهم الشتائم ويتهمهم بالبخل وضعف المعتقد وإساءة الظن بالغير ونحو ذلك.
وفي بعض الأماسى كان الشيخ سيد أحمد في مجلسه ومعه فتيان من أهل اكيد يتذاكرون في القرآن والأدب والنوادر، فطلع عليهم المشعوذ فجأةً فخشي الشيخ أن يعيد الكرة ويردد نفس "الصطرة" ويحرجه أمام جلسائه, فاستقبله بالترحيب وسلم عليه ببشاشة وسأله عن حاله وعن بضاعته التي بشماله, فقال له الرجل — بعد أن استأنس لملاطفته- إنها قرون وتمائم ذات بركة عظيمة فإذا علقها الخامل طار ذكره و إذا علقها صاحب حانوت فيه بيعت بضاعته بسرعة وبثمن عال, لكنها لم تلق رواجا لدى أصحاب الحوانيت مع أنها مجربة سريعة المفعول.
فقال له الشيخ: إذا كانت تمائمك وقرونك تحمل من البركة ما يساعد في نفاق البضاعة وزيادة الربح فيها -كما تزعم- فلا شك أننا بحاجة ماسة إليها وإنك لتعلم ما نريد, و الليلة سأشترى منك هذا القرن الكبير فلا شك أنه أعظمهم بركة, لكنى سأتركه مع قرنائه في بضاعتك – لأنى أوثرك بنفعه – فإذا بيعت التمائم والقرون سريعا بفضل بركته، ووجدت من يعطى في القرن الكبير سعرا مغريا فبعه له و لا تتورع من ذلك فأنت في حل منه وهو أربح لك.
أحس المشعوذ التاجر أن الشيخ ألقمه حجرا و أنه حشره في الزاوية، فانقلب السحر على الساحر ورضي من الغنيمة بالإياب وتمنى الرجوع بخفي حنين.
عجب الحاضرون من سرعة بديهة الشيخ, وشاعات القصة في الدكاكين وذاعت في الأندية الكولخية.
قال أحد التجار المهتمين بالأخبار: بحثت عن الرجل المشعوذ في البيوت والأزقة فلم أجد له أثرا و لا خبرا كأنما ابتلعته الأرض وكفى الله "البيظان" شر تمائمه وقرونه.
وتدخل حيثيات هذه المسألة في ما يعرف عند الأصوليين بالعلة التي تعود على أصلها بالإبطال.
وقد أشار لها الشيخ محنض باب بن اعبيد الديماني في سلم الأصول بقوله:
ومن شروطها انتفاء أن يرى ** ثبوتها عن حكمه مؤخرا
ونفي عودها على الأصل بما ** يبطل لا ما خص أو ما عمما.
وأشار لها الشيخ سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في مراقي السعود بقوله:
وقد تخصص وقد تعمم ** لأصلها لكنها لا تخرم.
وقال فيها العلامة امحمد بن أحمد يور الأبهمي في نظمه في الأصول:
والعلة التي لإبطال على * أصل تعود علة لن تجعلا
كقيمة الشاة أجاز الحنفي ** معللا بدفع بؤس المصرف.
وقد مثل لها الشيخ خليل في المختصر في أنواع الصداق الفاسد بقوله: "أو تَضَمَّن إثباتُه رفعَه كدفع العبد في صداقه", قال الخرشي: وصورتها رجل زوَّج عبدَه بامرأة ودفعَه لها في صداقها، فالنكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده؛ لأن ثبوته يوجب فسخه.
ومن أمثلة هذه القاعدة أيضا ما يروى أن أحد التلاميذ كان كثير المشاغبة في حلقة شيخه فإذا احتج أحد التلاميذ على مسألة بقاعدة يقول إن كل قاعدة لا بد لها من استثناء وأن هذا الفرع يمكن أن يكون مستثنى من القاعدة, فقال له الشيخ: قاعدتك هذه التي تشوش علينا بها لا بد أن تبين لنا هل فيها استثناء أم لا, فإن كان كذلك فلا حجة لك فيها لأن القواعد الأخرى يمكن أن تكون مستثناة منها, وإن لم يكن لها استثناء فقد عادت على أصلها بالإبطال وتناقضت لأن مقتضاها أن كل قاعدة لا بد لها من استثناء وهي نفسها قاعدة ولا استثناء لها فلا حجة فيها حينئذ أيضا والله أعلم.
اخبار انيفرار