بقلم: كابر حمودى
في يوم 9/ يناير/ 2020 كشفت الصين عن وجوده في ولاية خوهان، وتجاهله بعض قادة الغرب لدرجة الاستهتار ، فدخل عليهم بيوتهم دون تأشرة ولا جواز سفر، حاصدا أرواح المئات كل يوم، ومتقدما في سرعة انتشاره على جهود الأطباء ومراكز بحوث علوم الأحياء!
أصاب أقوياء العالم وضعفاءه، أغنياءه وفقراءه، أعلامه ونكراته، من مختلف الأعمار وفي جميع أصقاع المعمورة. تهاوت أمامه كل النظم الصحية في الدول الصناعية، المتطورة تكنولوجيا وعلميا، وقد تنهار بموجبه عروش جبابرة وأنظمة حكم كانت تحسب نفسها محصنة! إنه كورونا القاتل والملهم معا !
قتل الكثير وقد يواصل فتكه إلى حين من الدهر. لكنه فتح سجلا ملهما للبشرية، سترينا صفحاته الحافلة بالعبر والدروس ما لم نره من قبل ! ستكتشف البشرية - يقينا - حدود معرفة الإنسان وقوة الدول، وهشاشة النظام العالمي... ستكتشف الشعوب ان يقظة حكامها ووعيهم بمسؤولياتهم اتجاه شعوبهم أهم بكثير من تبجحهم بالقوة واتكالهم على كفاءة منظوماتهم الصحية وقدراتهم الإقتصادية.
ستكتشف البشرية أن جودة الحكامة تكمن في الحكمة وحسن التدبير وتوقيت التصرف، وأن الوقاية أفضل من العلاج، وأن الحذر والحيطة والتواضع أنجع من التكبر والثقة الزائدة في القوة. وقد قدمت الصين - التى تعتبر نفسها في دائرة دول العالم الثالت - درسا في ذلك.
لقد فرض كورونا على الناس تغيير أسلوب حياتهم وأنماط عيشهم في فترة وجيزة، وربما يتمكن في المستقبل من تعديل مفاهيمهم حول أنظمة الحكم، وحول الديمقراطية والحرية، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته ببيئته. ستبقى هذه الأسئلة وغيرها معلقة إلى أن ينقشع غبار المعركة مع كورونا، على الأقل، في هذه المرحلة من هجومه؛ بيد أن الدروس عديدة والعبر كثيرة، وبعضها لا يحتمل التأجيل.
ولعل أول درس يستوحى من تجربة المواجهة مع كورونا هو أهمية الحكامة في إدارة الأزمات والتعامل مع الطوارئ. إذ أبانت هذه الأزمة - غير المسبوقة عالميا - عن وعي قلة من قادة العالم لما يدور من حولهم. وأعتقد - من باب الإنصاف - أن قيادتنا كانت على مستوى المسؤولية، من حيث الحزم و سرعة التصرف، والانطلاق في استراتيجيتها لمواجهة هذا الوباء العابر للحدود من إدراك حقيقي لتواضع وسائلنا وضعف نظامنا الصحي، محيلة بذلك نقاط ضعفنا إلى نقاط قوة؛ عبر مقاربة .
لقد أثبتت تجربة التعامل مع هذه الازمة أن قيادتنا أسرع فهما واقوى إدراكا من شعبنا في الفترة الراهنة، وذلكم هو المأمول.
أما الدرس الثاني الذي أتمنى أن يكون الجميع قد استوعبه؛ فهو الإيمان بأهمية الدولة الوطنية، كمرجعية جامعة لكل الموريتانيين وكمؤسسة راعية لمصالح جميع مواطنيها بغض النظر عن ألوانهم وانتماءاتهم السياسية والقبلية والطائفية والشرائحية. فبتعدد المصائب في مختلف القارات والأمم، وغلق الحدود والمعابر بين الدول، وفي بعض الأحيان بين أقاليم الدولة الواحدة، اكتشف الموريتانيون اهمية الدولة في حماية مواطنيها، وفهموا مرامي قراراتها وانصاعوا لأوامرها وتجاوبوا مع نصائحها وتوجيهاتها. هذا ما نشاهد بوادره اليوم في تناغم واضح بين قرارات السلطات العمومية وسلوك المواطنين .
لقد عززت الإجراءات الاحترازية المتخذة ثقة المواطنين في رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، وزادت شعورهم بضرورة العيش المشترك في كنف وطن يحميه القائمون على شؤونه. ألم نر اللجان الوزارية تستقبل العائدين إلى الوطن من مختلف البلدان جماعات وافرادا، وتأويهم في اماكن الحجر الصحي وتقدم لهم الخدمات المطلوبة؟ ألا توحي نداءات الاستغاثة التي يطلقها الموريتانيون العالقون في بعض البلدان بإدراكهم أن الدولة هي المؤسسة الجامعة والحامية للمواطن والوطن؟ ألا ترون أن التفاؤل في هذه الظرفية بنمو مشاعر الانتماء المشترك بات مشروعا ؟ وأن بشائر العزوف عن التنظيمات الضيقة، من قبلية وطائفية وجهوية وشرائحية، بدأت تظهر ؟ ألم نسمع ونرى شهادات المواطنين و تصريحات حملة الرأي وفاعلي المجتمع، على اختلاف مشاربهم وتباين رؤاهم، وهم يشيدون بجهود السلطة العمومية ويثمنون قراراتها ؟إنه شعور من الرضى يعم معظم المواطنين، رغم مشاعر القلق المشروع الذي ينتاب البشرية قاطبة. فهل نوفق في استثماره مستقبلا في ترسيخ ثقافة إيجابية قوامها المواطنة في ظل دولة القانون ؟
أما الدرس الثالث، فذلكم المتعلق بإعادة ترتيب الأولويات مستقبلا ، ليحتل نظامنا التعليمي والصحي المرتبة الأولى في سلم الاهتمامات الوطنية. وتقديم التعليم على الصحة هنا مقصود لتوقف جودة الثاني على الاول. .
.