في تراثنا الإسلامي أصل لما نراه اليوم من التهوين من شأن العدوى، وذلك نتيجة التباس في فهم بعض الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة" فقد فهم منه بعض العلماء نفي العدوى بالمعنى الطبي، وهو انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بواسطة مخالطته. وقد وجد هذا الرأي صدى واسعا وترك ظلاله وآثاره في الذاكرة الجمعية للأمة إلى اليوم.
مع أن عمر رضي منع الناس من الدخول إلى الشام زمن طاعون عمواس وأمرهم بالتفرق في الجبال خشية العدوى وحديثه في ذلك معروف، ووقع منه ذلك قبل علمه بحديث النهي عن القدوم على الوباء مستندا لما فهمه من كليات الشريعة وأدلتها العامة وقال لمن خالفه في ذلك: "نفر من قدر الله إلى قدر الله" وضرب المثل بمن كانت له إبل فهبطت واديا، له عدوتان إحداهما خَصِبة والأخرى جدْبة فإن رعى موضع الخصب فإنما رعاه بقدر الله وإن رعى الثاني فكذلك لكنه مطالب بحسن الاختيار. وفي كلامه رضي الله عنه رد صريح مؤيد بالبرهان الصحيح على من حاول نفي العدوى. قال الشاطبي في الموافقات: هذا من عمر استناد إلى أصل قطعي، وهو أن الأسباب من قدر الله ثم مثل ذلك برعي العدوة المخصبة، والعدوة المجدبة ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين. انتهى كلام الشاطبي.
وما لم يفهمه بعض الطيبين اليوم أن العلماء الأقدمين اختلفوا في ثبوت العدوى نتيجة التعارض المتوهم بين الأحاديث، ومنها حديث لا عدوى ولا طيرة المتقدم وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يوردْ مُمْرِض على مِصِحٍ" فمن العلماء من قال بنفي العدوى، ومنهم من قال بثبوتها وردوا حديث لا عدوى ولا طيرة بأن أبا هريرة رجع عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه عنه.
قال الحافظ ابن حجر: "قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طرقا" (فتح الباري 10/ 159) ثم ذكر الحافظ ابن حجر كلام بعض العلماء في الجمع بين الأحاديث ومنها حمل حديث لا عدوى على ما كان اهل الجاهلية يعتقدونه من أن الأمراض تعدي بطبعها فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك بتقدير الله كسائر الأسباب...
وذكر وجوها أخرى في الجمع بين الآثار المذكورة، ومنها ما ذهب إليه البيهقي من أن مقصود الحديث نفي العدوى التي يعتقدها أهل الجاهلية وهي عندهم ضرب من التطير واعتقاد الشؤم في المعدي. قلت: وهذا محمل وجيه، ويؤيده أن العدوى وردت في الحديث مقرونة بالطيرة، والهامة والصَّفَر وهي معتقدات أسطورية جاهلية وهذه قرينة سياق قوية جدا.
ويؤيد تأويل الحديث أيضا أن أبا هريرة كان ممن يقول بالعدوى كما أشار له ابن حجر، وفهم راوي الحديث مقدم على فهم غيره.
وإذا تقرر أن القول بالعدوى ثابت عن بعض العلماء فإن خلافهم يقتضي كون الحق في أحد الطرفين لأن المعصوم إنما هو إجماعهم كما قال صلى الله عليه وسلم: "وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس"... وقد حسم العلم الحديث هذا الخلاف بإثباته حصول العدوى بشكل قطعي لا ينكره منصف؛ والعلم الصحيح لا يخالف الشرع الصحيح {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
إذا كانت عندنا أحاديث تثبت العدوى مع قول جماعة من علماء الشريعة بإثباتها؛ ثم جاء العلم الحديث وأثبتها بالدليل الحسي؛ فهل يسمع مسلما ترك ما تعاضد فيه الشرع والعلم؟!
ورحم الله الشيخ آب بن اخطور فقد حدثني تلميذه الشيخ أحمد بن المختار أنه سئل عن إحدى الآيات التي يتوهم بعض الناس معارضة ظاهرها للعلم الحديث فقال للسائل: إن ثبت أن هذا مقتضى العلم القطعي فمعنى ذلك أننا لم نفهم كلام ربنا فلنبحث له عن محمل صحيح {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}.
وقد كان بعض العلماء يرى أنه لا عبرة بكلام الأطباء في العدوى؛ لأن الناس يرون ملازم المريض المخالط له لا يصيبه الوباء في حين يصيب الوباء بعض من لم يخالطه؛ وهذا مردود بأن الناس على درجات مختلفة من الاستعداد والقبول للمرض بحسب قوة جهاز المناعة وضعفه، والأسباب إنما تجري بقدر الله ومذهب أهل السنة "عندها لا بها".
قال لسان الدين ابن الخطيب في "مقنعة السائل عن المرض الهائل" مبينا اختلاف الناس في الاستعداد للمرض ودور ذلك في انتقال العدوى: "فإن قيل ما معنى الاستعداد الذي تكرر لفظه في هذا الغرض ووُقف عليه كثير من مفهوم العدوى. قلنا، الاستعداد تهيؤ شيء لقبول شيء بمناسبته ومشاكلته له حتى يلبس صورته على مسامحة في هذا التعريف. فإذا اتفق أن يكون المزاج الشخصي قريبا في عرضه من مزاج الوارد سمي مستعدا لقبوله قبله ومال إليه من غير مدافعة ولا ممانعة كما يثبت الزئبق على الذهب لشبهه بنسخه ومناسبته إياه فيغوص فيه ويتحد به ويسري في الأمشاج والرطوبات يسريان الروح فيفسدها إفساد السموم، وإن اتفق أن يكون بعيدا منها في عرض مزاجه قاومه مقاومة الضدية ومانعه وتعاصى عليه قبوله. فعلى بعد ما بينهما في عرض المضادة تكون الممانعة والموافقة... والجهل بهذا المعنى غلط الناس وعدد مصارعهم. ولله در القائل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل *** ما يبلغ الجاهل من نفسه
انتهى كلام ابن الخطيب.
وعلى كل حال فعلم الطب قد أثبت وقوع العدوى منذ القدم، ثم جاء الطب الحديث فأكد ذلك وأقام عليه البراهين بالقطع والتفصيل الذي لا يتطرقه شك ولا ينكره عاقل؛ وبذلك ارتفع الخلاف في المسألة ولم يعد للقول بنفي العدوى وجه؛ فالشرع الصحيح لا يعارض العلم الصحيح إذ كل من عند الله هذا وحيه وهذا خلقه: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
قال الإمام الهلالي من فقهاء المالكية في نور البصر: "مما يوجب ترجيع مقابل المشهور كونه طريقا لدرء مفسدة ومنه أيضا كونه طريقا لجلب مصلحة إن لم يمكن ذلك فيهما إلا بمقابل المشهور فيغلب على الظن أن قائل المشهور لو أدرك هذا الزمان لم يقل إلا بمقابله لأن الشريعة جاءت بجلب الصالح ودرء المفاسد فضلا من الله ونعمة، ولا بد في الترجيح بهذين الأمرين" انتهى كلامه وقد نقله محمد بن محمد سالم في شرح المختصر وأقره وكذلك يقال هنا فنحن اليوم نقطع بأن من نفى العدوى من المتقدمين لو شاهد ما توصل إليه العلم الحديث في شأن العدوى لرجع عن قوله وتبرأ منه، وهذا المعنى هو أصل العمل القطري المعروف في أصول المالكية وهو من فروع الاستحسان.
وقال الإمام سيدي عبد الله في مراقي السعود:
والخلف في تقليد من مات وفي *** بيع طروس الفقه الآن قد نفي
وما ذلك إلا لتغير الواقع وظهور مصلحة لا ينكرها أحد.
ولله در الشيخ عبد الله بن بيه حيث يقول: إن الواقع يفرض نفسه في بعض القضايا بلا استئذان.
وقد القرافي وغيره: إن الجمود على المنقول مع توفر داعي تغير الحكم ضلال وإضلال...
ولهذا رجع كثير ممن كان يفتي بنفي العدوى قديما عن قوله، وتبرأ من لما شاهد ضرر العدوى، كما يأتي في كلام ابن الخطيب. وليت من يذهب مذهب هؤلاء من طلبة العصر يقتدي بهم ويرجع إلى الصواب ويترك اللجاج والعناد كما قال الشيخ محنض باب:
ليس من أخطأ الصواب بمخط *** إن يؤب لا ولا عليه ملامة
إنما المخطئ المسيء من إذا ما *** ظهر الحق لج يحمي كلامه
حسنات الرجوع تذهب عنه *** سيئات الخطأ وتمحي الملامة
قال الإمام لسان الدين بن الخطيب منحيا باللائمة على من نفى العدوى بعد أن اثبتها الشرع وقطع بها الطب ومبينا رجوع كثير من فقهاء عصره عن نفي العدوى: "فإن قيل كيف نسلم دعوى العدوى، وقد ورد الشرع بنفي ذلك؟. قلنا، وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة. وهذه مواد البرهان. وغير خفي عمن نظر في هذا الأمر أو أدركه هلاك من يباشر هذا المرض غالبا وسلامة من لا يباشره. كذلك وقوع المرض في الدار والمحلة لثوب أو آنية حتى أن القرط أتلف من علق بأذنه وأباد البيت بأسره. ووقوعه في المدينة في الدار الواحدة ثم اشتعاله منها في أفذاذ المباشرين ثم جيرانهم وأقاربهم وزوارهم خاصة، حتى يتسع الخرق، وفي مدن السواحل المستصحبة حال السلامة إلى أن يحل بها في البحر من عدوى أخرى قد شاع عنها خبر الوباء رجل سوء، فيكون تاريخ ظهور المرض مقارنا لحلوله، وسلامة الكثير ممن أغيا في التوحش، كالزاهد ابن أبي مدين بمدينة سلا، وكان من القائلين بالعدوى، وقد تزوَّد لمدة، وبنى باب منزله على أهله وهم كثيرون، وفنيت المدينة، ولم يرزأ نسمة واحدة بطول تلك المدة وتواترت الأخبار بسلامة أماكن لا تطالها الطرق، وهي منقطعة عن الناس. ولا أعجب لهذا من سجن الأسرى من المسلمين، أنقذهم الله بدار صنعة إشبيلية. وهم ألوف ولم يصبهم الطاعون. وقد كاد يستأصل المدينة. وصح النقل بسلامة أهل العمود والرحالين في الغرب بإفريقية وغيرها، لعدم انحصار الهواء وقلة تمكن الفساد منه. والعناد في هذا الباب وارتكاب اللجاج فيه ألحم في الناس سيف الطاعون، وسلط الله عليهم من بعض المفتين من اعترضوا بالفتيا اعتراض الأزارقة من الخوارج للناس بالسيوف، فسالت عن شبا أقلامهم من النفوس والمهج ما لا يعلمه إلا من كتب عليه الفناء بسببه. وإن كان بريء القصد من المضرة وقوفا مع ظاهر لفظ الحديث. ومن الأصول التي تجهل أن الدليل السمعي إذا عارضه الحس والمشاهدة لزم تأويله. والحق في هذا تأويله بما ذهب إليه طائفة ممن أثبت القول بالعدوى. وفي الشرع مؤنسات عديدة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض عل مصح". وقول الصاحب؛ فر من قدر الله إلى قدره. وليس هذا موضع الإطناب في هذا الغرض... وبالجملة فالتصامم عن مثل هذا الاستدلال زعارة وتصافر على الله واسترخاص لنفوس المسلمين، وقد وقف قوم من أهل الورع بالعدوى إلى الناس مستقبلين مشهدين على أنفسهم بالرجوع عن الفتوى بذلك تحرجا من تسويغ الإلقاء باليد إلى التهلكة. عصمنا الله من الخطل، ووفقنا في القول والعمل. انتهى كلام ابن الخطيب.
ومن المستغرب جدا أن يكون علماء القرن الثامن الهجري قد رجعوا عن القول بنفي العدوى نتيجة المعطيات العلمية في عصرهم وبعض متفقهة العصر الحاضر ما زالوا يرون نفس الرأي!
إن تقليد القائلين بنفي العدوى اليوم من قبيل التقليد الممنوع لما ظهر من ضعف قولهم بالأدلة الحسية، فهو من باب الأقوال الضعيفة المدرك التي لا يجوز العمل بها، وينقض حكم الحاكم إن حكم بها؛ والقائل بها بعد ما ظهر ضعف مدركها عليه وزر قوله ووزر من عمل به من العوام؛ وإن كان مقلَّده مأجورا.
وهي حرية بقول سيدي عبد الله العلوي أعلاه الله في المراقي:
وذكر ما ضعف ليس للعمل *** إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل
ومما يوضح الأمر أن الخلاف ليس في حكم شرعي، وإنما هو في أمر وجودي دل الحديث الصحيح على وجوده وأيده العلم القطعي واطلع المتأخرون من ذلك على ما لم يطلع عليه المتقدمون فكانوا غير معذورين؛ كيف وكل إمام من الأئمة المشهورين يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" وهذا ما يذكرنا بقول الشيخ محمد العاقب الميابي رحمه الله:
واضطرب الإمام إذ لم يشهد *** هذا وما السماع مثل المشهد
وقد نص العلماء على تحريم تقليد القول الضعيف، وذكروا أن العالم إذا صرح بأن لم يصح عنده حديث في موضوع معين وظهر لمقلده صحته وجب عليه ترك قول إمامه والرجوع لمقتضى الدليل قاله ابن عبد السلام المالكي وغيره.
ويلاحظ الناظر في تاريخ الأوبئة، وتعامل المسلمين معها في العصور القديمة حصول وعي ظاهر بخطر العدوى؛ والسعي للتحفظ منها حسب المستطاع وقد تقدمت نماذج من ذلك في كلام ابن الخطيب ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما ذكره عن ابن أبي مدين الزاهد الذي عزل أهله في سكن جماعي حتى انتهى الوباء فلم يمت منهم أحد.
وذكر الطالب أحمد بن اطوير الجنة وغيره من أصحاب الرحلات على أنهم بقوا في الحجز الصحي ممنوعين من الخروج مطلقا في حواضر إسلامية وبأمر من حكامها حتى تأكدوا أنهم غير حاملين للوباء.
وتذكر الروايات المحلية في بلادنا أن العلامة الحاج أحمد بن الحاج الأمين الغلاوي (1169هـ) جاء من المشرق بلقاح مضاد للجدري وأنكر عليه بعض الفقهاء في ذلك لكنه ظل متمسكا برأيه.
وقد رجح أحد الباحثين المعاصرين أن تعطيل الجمع والجماعات قد حدث لأجل الوقاية من العدوى يقول في هذا السياق: وقد ذكرت كتب التاريخ الإسلاميّ تعطيل المساجد بسبب الأوبئة مرارًا، ولم يسلم من ذلك مكة المكرّمة نفسها والبيت الحرام؛ فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -في كتابه ‘إنباء الغُمْر بأبناء العمر‘- ضمن وقائع سنة 827 هـ من تعطل الجماعة في الحرمين وصلاة بعض أئمة الحرم مع رجلين فقط ... ولا أدري إن كان هذا التعطيل شبه الكلي للصلاة بالحرم المكي وقع قهرًا بسبب الموت والمرض وانشغال الناس برعاية مرضاهم ودفن موتاهم، أم أحجم الناسُ عن التجمّع خوفًا من العدوى، وعدد الوفيات 1700 في شهرين أو ثلاثة لا يدلّ على أنّ الموت والمرض منعا الناس عن المساجد إلى هذه الدرجة؛ فالأرجح أنهم امتنعوا خشية العدوى انتهى كلامه.
ونختم بكلام للحليمي في المنهاج علق به على أثر عمر المتقدم وبين عدم معارضة القول بالعدوى للتوكل: "إن التخالط والتعاشر حق المسلمين بعضهم على بعض ما لم يمنع أحدهم من ذلك مانع، وخوف الضرر من أعظم الموانع. وفي معايشة المجذوم ومن يشبهه، ومطاعمته خوف الضرر، فدل ذلك على أنه لا يستحق على غيره من الأصحاء، أن يداخلوه أو يخالطوه مداخلة من الإلفة به، ولا مخالطته، وليس التعرض للآفات من التوكل بسبيل إنما التوكل طريق إلى الاحتراز من الضرر، فكيف يكون التعرض للضرر توكلاً؟ أرأيت رجلاً اقتحم نارًا تتأجج أو ألقى نفسه في البحر إلى غمران اللجج وقال توكلت على الله أيكون قد وضع التوكل موضعه أو يكون قد ظلم نفسه؟ فلذلك يعرض لعدوى علة خبيثة متوكلاً عند نفسه فهذا حاله ومنزلته" انتهى