أثار الإعلان عن تأجيل تعديل القانون النظامي لمحكمة العدل السامية نقاشا واسعا، وهو ما يستدعي تقديم جملة من الملاحظات حول هذا التأجيل، مع التأكيد على أن هذه الملاحظات هي مجرد رأي شخصي، ولا تعبر بالضرورة عن رأي العريضة الداعمة للجنة التحقيق البرلمانية والمطالبة بتشكيل محكمة عدل سامية خلال هذه الدورة، وهي العريضة التي كنتُ أحد موقعيها من بين المئات الذين وقعوها.
(1)
محكمة العدل السامية هي هيئة دستورية لم يعد مقبولا الاستمرار في تعطيلها، فإما أن يتم تعديل الدستور لإلغائها، أو تتم المسارعة في تشكيلها احتراما للباب الثامن من الدستور الموريتاني، وخاصة المادة 92 من هذا الباب.
(2)
إن تشكيل هذه المحكمة سيعطي انطباعا جيدا على احترام النظام الحالي للدستور، وعلى استعداده لتشكيل وتفعيل هيئة دستورية تم تعطيلها من طرف رؤساء سابقين. ثم إن هذه الهيئة تعنى بالأساس بالرؤساء الحاليين أكثر من السابقين، ولذا فتفعيلها سيشكل إشارة إيجابية مفادها أنه لا أحد فوق القانون، وأن الرؤساء يمكن أن يحاكموا وهم رؤساء إن ارتكبوا جرائم يمكن تصنيفها على أنها خيانة عظمى.
(3)
هناك نقاش مستمر بين أهل الاختصاص، فهناك من يرى بأن محاكمة الرئيس السابق يجب أن تكون أمام محكمة عدل سامية، وهناك من يرى بأن محاكمته يمكن أن تتم أمام القضاء كأي مواطن آخر، وبغض النظر عن هذا النقاش الذي يبدو أنه اقترب من أن يحسم لصالح الرأي الأخير، فسيبقى المهم هو أن تكون هذه المحاكمة المنتظرة محاكمة نزيهة، وأن تمكن من استعادة ما تم نهبه من أموال الشعب الموريتاني، إن ثبت بأن الرئيس السابق وبعض وزرائه وكبار المسؤولين في نظامه قد قاموا بعمليات نهب واسعة. والمهم أيضا هو أن يكرس مبدأ المساءلة والمحاسبة.
(4)
أظهرت ردة الفعل القوية على تأجيل نقاش تعديل القانون النظامي للمحكمة السامية بأن المزاج العام للشعب الموريتاني لم يعد يقبل التهاون مع الفساد والمفسدين، وأنه أصبح لابد من محاسبة المفسدين ومساءلتهم، خاصة بعد أن بدأت الإجراءات تسير في ذلك الاتجاه. لم يعد غلق ملفا المساءلة ممكنا، وذلك بعد أن تم فتح الملف، وإن أي محاولة في ذلك الاتجاه ستكون كلفتها الإعلامية والسياسية على النظام الحالي كبيرة، بل وكبيرة جدا.
(5)
هناك جهات عديدة ارتكبت أخطاء في هذا الملف، فالبرلمان، وخاصة فريق حزب الاتحاد من أجل الجمهورية تأخر في تقديم مقترح القانون النظامي إلى أن مر وقت ثمين من الدورة البرلمانية الحالية، ولجنة التحقيق البرلمانية ارتكبت أخطاء كبيرة تتعلق بالأساس بالتسريبات (تسريب استدعاء الرئيس السابق، وتسريب الأسئلة الموجهة إليه)، والمعارضة والكثير من النخب المهتمة بالشأن العام ارتكبت هي بدورها أخطاء كبيرة، حيث أنها لم تظهر دعما قويا ولا مؤازرة حقيقة للجنة، فمثل ذلك الدعم وتلك المؤازرة المعلن عنها كانت ستساهم في محاولة التغلب على النواقص حتى لا يتم تأجيل موعد نقاش القانون النظامي. إن مثل هذا الدعم الاستباقي والضروري للجنة هو ما جعل المئات الموريتانيين يوقعون على عريضة داعمة للجنة التحقيق البرلمانية، ويطالبون في الوقت نفسه بتشكيل محكمة العدل السامية خلال الدورة البرلمانية الحالية. للأسف لقد تعودت المعارضة والكثير من نخب هذا البلد على ردود الأفعال بدلا من صناعة الفعل، ولذا فستكون ردة الفعل قوية على تأجيل تشكيل محكمة العدل السامية، وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال : ألم يكن من الأفضل أن تكون هذه الجهات التي ستتخذ الآن ردود فعل قوية ضد الإعلان عن تأخر مناقشة القانون النظامي لمحكمة العدل السامية، ألم يكن من الأفضل لها والأنجع أن تكون قد عبرت خلال الأيام والأسابيع الماضية عن اهتمامها بهذا الملف حتى نتجنب مثل هذا التأجيل.
(6)
الخطأ الذي ارتكبه النظام الحاكم هو أنه أجَّلَ مسار تشكيل المحكمة في وقت حرج سياسيا، أي بعد أن رفض الرئيس السابق تسلم لاستدعاء الموجه إليه من طرف لجنة التحقيق البرلمانية، فإذا كانت هناك بعض النواقص التي تمت ملاحظتها، فقد كان من اللازم أن تتم ملاحظتها في وقت مبكر من قبل وصول ملف المحكمة إلى عتبة حاسمة جعلت الجميع على قناعة بقرب تشكيلها، ثم إن رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية كان قد أكد في مقابلة بثتها قناة الموريتانية يوم الأربعاء الماضي الموافق 7 يوليو 2020 بأن تشكيل محكمة العدل السامية سيتم خلال أيام، فإذا بفريق الحزب بعد تلك المقابلة بثلاثة أيام فقط يعلن عن تأجيل نقاش القانون النظامي ويدافع عن ذلك التأجيل..الظاهر أن هناك خللا ما أدى إلى حصول مثل هذا التناقض بين تصريحات رئيس الحزب التي تقول بقرب تشكيل محكمة العدل السامية، ومرافعات نواب الحزب التي يبررون من خلالها تأجيل تشكيل هذه لمحكمة.
(7)
رغم كل هذا الارتباك الحاصل في مسار تشكيل محكمة العدل السامية، والذي لم نعرف ـ حتى الآن ـ أسبابه، إلا أن هناك بعض الإشارات التي تقول بأن التأجيل لن يكون طويلا، وبأنه لا تراجع ـ إطلاقا ـ عن محاكمة من ثبت عليه الاتهام في الملفات التي حققت فيها اللجنة البرلمانية.
حفظ الله موريتانيا...