كتب الأخ محمد العباس في «القدس العربي» بتاريخ 27 آب/ أغسطس 2014 مقالاً بعنوان (سقوط أو إسقاط النخبة)، وتناول فيه « توهان» المثقف وسط « تجريفات» ما بعد (الربيع العربي) والذي أصبح وبالاً على بعض الشعوب.
وربط الكاتب موضوع تغيّب المثقفين أو النخب، بارتفاع أرصدة (طابور الإعلاميين المنتفعين، وفقاعات العاملين في المنظمات اللاحكومية المنتسبين زوراً إلى قوى المجتمع المدني، واستمرار النخب الأخرى، الذين استطابوا النوم في سرير السلطة). كما تناول قضية (المثقفين السلفيين) المتدثرين «بقشرة حداثية» هدفهم: «التنكيل بفئة من المثقفين». مختتماً بالقول: «إن فقهاء السلطان ومثقفيه لا يتحملون وجود مثقف منشق، ناقد، يكشف ضحالتهم وانتهازيتهم في استقطاب الجماهير الغاضبة».
وفي حديث للمُفكر السعودي د. عبدالله الغذامي في (الشرق الأوسط يوم 29 آب/ أغسطس 2014) نفى أن يكون للمثقف وجود في الصورة، أو أن يكون عنصراً فعالاً فيها، لأن العنوان الأصلي (في التحول في المنطقة العربية) هو سقوط النخبة وبروز الشعب، ولذلك استعادة المثقف مرة أخرى ولو على المستوى الافتراضي والذهني سيُضلل التحليل والنظرة، لأن التغيّر الذي صار جلياً هو تغيّر مضاد للظروف، حيث إنه صار الآن (قيمة ظرفية) ولم يعد ذا قيمة فاعلة.
إن جدلية ظهور واختفاء- أو تغييب المثقف في المجتمع- ترتبط بظروف داخلية أساسها الإيمان بمبدأ التعددية، حتى في التعيين والتوزير والمشاركة في نشاطات المجتمع. ولكن لم تكن الظروف مواتية بين المثقف الذي ينشد الاستقلالية أو يكون لديه مشروع ثقافي، وبين السلطة. ولذلك عاش المثقفون الحقيقيون « منبوذين» في الأغلب، وينظر لهم بعين «السُخط» التي لا تُبدي إلا المساويا، اللهم من تمسّح برداء السلطة وصنع لها أصناماً ظل لها عاكفاً، ويمكن أن يستبدلها- كل صباح- حسب مزاج السلطة ومحركيها، وهؤلاء تنالهم «عين الرضا» التي هي عن كل عيب كليلة.
وفي ظل تداعيات ما سمي (الربيع العربي) لم نشهد وجوداً حقيقياً للمثقفين المستقلين، والذين يحلو للسلطة وسمهم بـ « المشاكسين»؟! لأن حالة الفوضى في البلدان التي طالتها تلك التداعيات وحصول فوضى ثقافية وإعلامية، لم تؤطر ذاك الوجود، أو تخلق الدور المطلوب، بل ولم تتم الاستفادة- في ظل التكالب السياسي والاقتصادي- من رؤى المثقفين، بل على العكس، ظهر جيلٌ من الإعلاميين الذين- في حالات- كفروا بكل القيم الإعلامية الراسخة والمؤسسة لمهنة الإعلام ورسالته، ومارسوا فوضى الإدعاء والكذب والتفكير ونبذ الآخر، ما أدى إلى ظهور مواطن لا يؤمن بقيمة الوطن، قدر ما يؤمن بسمو المذهب أو الأصل العرقي أو القبيلة. وفي هذا الاتجاه أيضاً حصل تحوّل – من الأفكار المتطرفة دينياً في أدوات التواصل ووسائل الإعلام التقليدية إلى ممارسة العنف والإرهاب- كما هو الحال في سوريا والعراق. وضاعت الأوطان في الفوضى دون أن تتمكن الدولة ولا رجالها من ضبط إيقاع العنف والهدم ولا يمكن أن يقوم دور للمثقف في مثل هذه الظروف.
وكان هذه الحالات ماثلة في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا بصورة واضحة، وصار أن حدثت عمليات استقطاب واضحة لجرِّ نجوم الرياضة والفن إلى مستنقع الفوضى ذاك: كي يأخذ كل منهم « الشرعية الشعبية «، ويصبح أكثر إقناعاً للمتلقين.
في بقية دول العالم العربي ظل الحال كما هو عليه! (فمن لا يكون معي فهو ضدي)! أي تم إقصاء المثقفين الحقيقيين، في مقابل « الاحتفاء « أو تقريب بعض الهلاميات الثقافية من « بهاليل» السلطة، التي تمارس « الاستجداء» على صفحات الجرائد صباحاً، وتتمسح بعباءة المسؤول ليلاً!. وتزامن هذا الاقصاء مع وجود حظر إعلامي واضح على هذا « الفسطاط» من المثقفين! فلا صوت لهم في الإذاعة ولا صورة لهم في التلفزيون، ولا مقالة لهم في الصحف.
وطبقاً لذلك سادت حالة من التراجع وضعف بنى النصوص والمشروعات، وخلط الأوراق، فأصبحت الخواطر شعراً، وأصبحت حكايا الليل أو « شاي الضحى» روايات؟!. وقامت مطابع الوزارات أو المطابع الخاصة بإخراج نماذج « مشوهة» وهشة للثقافة العربية. تماماً كما حصل انكفاء للمسرح العربي، والخليجي خاصة. وبرز اتجاه واضح في الاحتفاء المُبالغ فيه بنماذج الثقافة الغربية « المُكلفة» وغير المُقنعة للجمهور العربي، في الوقت الذي تراجع الإنتاج الثقافي العربي ورحل روادهُ واحداً إثر آخر، وانكفأ البعض الآخر على نفسه يمارس الموت صمتاً ؛ لتخلو الساحة من الجادين، وليرتقي المسرحَ أنصافُ مثقفي السلطة من الذين لا يستطيعون كتابة ورقتين فولكساب، بل إن بعضهم لا يُفرق بين الرواية وبين القصة القصيرة. وتسنّم هؤلاء قيادة الثقافة.
الصورة لم تحتمل المثقف المُستقل. وظلت على الدوام تحفل بأدعياء الثقافة أو الموظفين الرسميين في دور الثقافة. فالذي يُمثّل البلد في الخارج في ندوة مختصة بالراوية ليس أحد الروائيين، بل المدير في الإدارة المختصة، والذي يُلقي كلمة في يوم المسرح العالمي ليس المسرحي المؤهل والمخضرم، بل المدير ذاته. وفي هذا توضيح لمدى مساحة الخلطة، وأن المثقف الحقيقي لو اقترب من «الإطار» فلسوف تتلاشى صورة الموظف الرسمي، فكان القرار أن يظل الأول في « الهامش»! وللأسف فإن أغلب الدعوات للأنشطة والتجمعات الثقافية تذهب إلى الأجهزة الرسمية، وهي تُرشح من موظفيها لا من «الفسطاط» الآخر والذي يمكن أن يُثري تلك الأنشطة.
إن دور المثقف الحقيقي ظل على الدوام خارج الصورة! وظل هذا المثقف يرى بعين الأسى تقلبات الأيام في مجتمعه دون أن يساعده أحد على التعبير، طالما وُضع في قائمة «المشاكسين»! ولربما يرثُ أولاده تلك الصفة وإلى ما لا نهاية.
وعلى عكس السلاطين و الولاة في العصور العربية السحيقة، فإن أوضاع العالم العربي وضعت الثقافة في ذيل الاهتمامات، وغيبت رموزها (الصالحين) بصورة كيدية وقصدية، وأبرزت الرموز الهشة التي لا يمكن أن تؤسس لثقافة قابلة للنماء والتطور.
كاتب واكاديمي قطري
أحمد عبدالملك