جزءٌ من الأزمة السياسيّة في موريتانيا بين رفيقَيْ درب يعودُ إلى طبيعة توريث الحُكم. فقد كانا متصافين حتّى الحملة الرئاسيّة في يوليو 2019. لقد عُرِفت تلك الأيام الأخيرة للنظام السابِق في السلطة شعبياً بـ"التمريغة". وقد انصبّ الاهتمام فيها على حملة النهب المُمنهَج في أيام المغادَرة. ذلك أنّ كِسرى، وقد أزف الرحيل عن المدائن جمع ما غلا ثمنه وخفّ نقلُه وباع المواني والبِحار والأبنية وعيّن الأصدِقاء وصرَف المديونات والأعطيات وجمع رِجليه وذهب "يتنعوش" في أوروبا تاركاً وراءه الدّخان والخراب.
إلاّ أنّ مسألة "التمريغة" أكثر تعقيداً. فهي ليست مجرّد نهب مالي، بل كانت أيضاً محاولة سياسيّة. فالنظام القديم تلكّأ في تصريف السلطة لخلفِه. ويعتقِد بعض رجالات حملة الأخير أنّ النظام حاول التلاعُب بالانتخابات والمفاوضة بالشوط الثاني. فهذه التمريغة السياسيّة لم يتُحدّث عنها كثيراً. وقد تميّزت بمحاولة الاستثناء: إعلان حالة الطوارئ وسجن المئات وتقديم سيناريو مواجهة عِرقيّة بالبلد.
بنهاية التمريغة كان النظام الجديد يواجِه خزينة مستنزفة وإرثاً سياسياً سيئاً. كان من السهل عليه حلّ المشاكِل السياسيّة بانتهاج التهدئة. ولكن المشاكل المالية نازعته السيادة وبالأخص في استنزاف خزينة الدولة وبالأخصّ بفضيحة بيع الميناء، وهو مصدَر دخل أساسي. ثمّ إنّ النظام الجديد كان يواصِل تقاليد الدولة الريعية بضرورة خلق طبقة متمكِنة من المستفيدين من الوضع، وبالتالي فكان يحتاج بنية مالية وافِرة في انتظار الرّيْع الأكبر: الغاز.
إنّ فِكرة إفشال الحُكم بتقديم بُنية متضعضِة له هي استراتيجية قديمة. فالفرنسيون والبلجيكيون قاموا بها في أفريقيا. ديغول حاول الانتقام من سيكو تورى في غينيا عندما رفض الاستفتاء الديغولي 1958 وجمع ديغول بنذالة كلّ حاوياتِه ومعدّاته وغادَر. ولكن الغينيين نجحوا في منع دولتِهم من الانهيار. ولكن هذه الاستراتيجيّة الاستعماريّة نجحت في الكونغو، عندما سحب البلجيكيون كافّة موارِدهم وبيروقراطيتهم وتركوا باتريس لوممبا يواجِه دولة فاشلة في 1960. ومع زيادة الاحتقان الاجتماعي بدأوا، بالتعاون مع السي آي أيه، في تدبير انقلاب عسكري دموي قام به أحد ألعن الساسة الأفارِقة: موبوتو الخبيث.
جزءٌ أساسي من نهضة البلد التخلّص من التوريث البائس. وأوّله استعادة كلّ موارِد الدولة بما فيها سيطرتُها السياديّة على موانئها وبحرِها. اكتشَفت دولة الجنرال عزيز أنّها تحتاج محاربة رجال أعمالٍ معيّنين لقاء سيادتها. اليوم ما زال هذا سارياً، باستثناء أنّ رجل الأعمال في هذه الحالة ليس غير عزيز نفسه. ذلك أنّ حاميها كان دوماً حراميها.
برهام