نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم... لعمري لقد جاءوا بشر فأوجعوا
ورد علي خبر مفجع خبا به نور الإشراق، وادلهم به الدهر، فالشمس كورت، والنجوم غارت، وأوتاد الأرض زلزلت، وجبالها نسفت، والخلائق بعثرت، والأمهات ثكلت، إنه موت العلامة الزاهد الصالح المتصوف الشيخ العالم ولد يب المختار، شقيقي والدي في الصبا وتحصيل العلم، ثم المجاورة في السكن.
اليوم أعلام قرية بوطيب وأخواتها نكست على مصاب جلل، ترى الناس في الطرقات سكارى من هول الموقف، الرجال تائهون، والنساء باكيات يذرفن الدموع الغزار
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم فكيف بحصن والجبال الجموح
الكل يعرف أن الموت حق مكتوب ، لكنهم ذهلوا، الأبصار خاشعة، والقلوب واجفة، والأذان صمّت، لقد ثلم الدين بموت الشيخ العالم ويتم أهل القرية جميعا.
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح
يوم ولد الشيخ في أربعينيات القرن المنصرم لأسرة شريفة ذات الذكر في الصلاح والعلم، بادرت أمه بتسميته بالعالم، راجية من الله أن يحقق رجاءها، لتنتفع به في دنياها وأخراها، مصدقة بقول النبي صلى الله عليه وسلم، العلماء ورثة الأنبياء، ظلت الأم متمسكة بأمانيها، فلما بلغ سن التعلم دفعت به إلى المعلم، ليقرأه القرآن أولا، فلحظ فيه نبوغا خارقا، اجتهد على تعلمه، فلم يمض إلا وقت قصير حتى أكمل حفظ القرآن وتجويده، فسرت الأم بحفظه ثم شمّرت عن ساعد الجد وقالت له إذن تلتحق بمحظرة أهل فلان لتدرس العلوم الشرعية، وافق على رغبة الأم، إذ صادفت "قلبا خاليا فتمكنا" ذهب إلى المحظرة مغتربا يطلب العلم، فنهل من معين المحاظر، محرزا جميع علومها النقلية والعقلية.
أخبرني أحد أقرانه أن الشيخ لما وصل إليهم في المحظرة كان يحدوه نهم كبير في القراءة والمطالعة عزّ نظيره، حيث لا يلوي على دعة الصغار ــ معه أن حديث عهد بالمراهقة،ـــ ، ففي أحيان كثيرة ينصرف وقت القيلولة إذ يأوي إلى ظل شجرة ، حيث يجعل حبلا في رقبته ثم يربطه في غصنها، لئلا تأخذه سنة عن لوحه ومطالعته، فكلما بدت منه غفلة نبهه الحبل. قال له بعض التلاميذ يافلان هون على نفسك في الطلب فما زلت يافعا والعمر مديد، فيرد عليهم قائلا " أمي سمّتني العالم" لا بد أن أكون عالما. ولسان حاله:
رأيتَ العِلْمَ صَاحِبُهُ كَرِيم ولو ولدتهُ آباءٌ لئامُ
وليسَ يزالُ يرفعهُ إلى أن يُعَظِّمَ أمرَهُ القَومُ الكِرامُ
وَيَتَّبِعُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ كراعي الضأنِ تتبعهُ السَّوامُ
فَلَولاَ العِلْمُ مَا سَعِدَتْ رِجَالٌ ولا عرفُ الحلالُ ولا الحرامُ
كان الشيخ رحمه الله آية في العلم والفهم والذكاء، حوى علوم الشريعة كلها منذ نعومة أظافره، بعد ما شهد له العلماء بالعلم رجع إلى قريتنا فاشتغل بتعليم الناس والقضاء والفتيا حتى جاءه مرض الموت. لم يكن يرغب في الدنيا ولم يغتر بزهرتها بل عاش منزويا عنها عرض عليه بعض الوجهاء الالتحاق بالإذاعة والتلفزة في رمضان بغية بث العلم لكنه أعرض مخافة أن يكون العلم لغير الله.
وقتلت الزّمان علما فما يغ ... رب قولا وما يجدّد فعلا
اليوم ذهب الشيخ عن دنيانا الفانية وتركنا نموج فيها متحسرين على ذاهبه، عقولنا ذاهلة، وأكبادنا متفطرة تئنّ من ألم الفراق، ومقاساة لواعجه. فراق لا رجعة بعده.
أقول وما يدري أناس غدوا به ... إلى اللحد ماذا أدرجوا في السبائب
من للمسجد بعدك ياشيخ، ألم يعهد قيامك وتهجدك فيه طوال عمرك، لقد كنا أطفالا نمر بالمسجد وهنا من الليل فنرى الشيخ مستقبلا القبلة قائما لله، يتلو القرآن بصوت جهوري بخشوع وسكينة، تلاوة من فهم المعنى، وخبر المقصد. مصدقا كلام ربك " وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)
رجل كتاب الله في جنباته ورحيب صدره فاض بالقرآن
اليوم إذ غبت عنا ها هو المسجد يئن لفقدك.
خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهم ... وأمسى بأوفى قومه قد تضعضعوا
من للمحظرة وتعليم الكبار والصغار بعدك؟ ألم تزاحم الرجال الركب لتنهل من علمك، حيث أتوا من كل بقاع الدنيا، الأحمر، والأبيض والأسود، المواطن والأجنبي سواء، ألم تك دارك مملوءة بطلاب العلم، تنفق عليهم مثل عيالك، يظن الغريب عند مروره بالدار أن الجميع أبناء رجل واحد، لأنك آخيت بينهم على سنن الهدى.
ما زال في أذني صوتك تجهر بالقرآن بين شوارع القرية وأزقتها آخر الليل، حيث تطوف بين المحاظر الأربع، إذ كنت توقظ تلاميذك موقدا لهم النار بيدك الشريفة، ثم تفعل تلك الفعلة بمحظرة الشيخ الحطاب، ثم محمد الإمام، ثم السليم. فالقرية بفضلك يعلو فيها كلام الله آخر كل ليلة وقت السحر، ساعة يجافي الصالحون مضاجعهم ليصعدوا إلى درج السماء، مناجين ربهم متضرعين إليه، مظهرين حاجتهم إليه، "يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار"،
عهد شيوخ أن يستيقظوا قبل صلاة الفجر لتعليم الصغار، لكن الشيخ تولى عنه ذلك، فقلما يجدون تلاميذهم عند المحظرة، فلما يسألونهم عن غيابهم ، يجيبونهم لقد أيقظنا الشيخ العالم الساعة الثانية، أو الثالثة، فلا يجد الشيوخ سبيلا إلا التسليم لما أخبر به التلاميذ، لأنهم علموا سيرة الشيخ وحرصه على تعليم الأولاد، وقلة نومه. ها أنت تودع المحظرة لتذرف عليك دموعا مدرارا.
مضى فمضت عنّي به كل لذة ... تقرّ بها عيناي فانقطعا معا
لقد ذهب الجود والعلم والحلم والكرم بذهابك يا سيدي.
كنه المروءة والرجولة والشها مة والشجاعة بعد موتك فان
ياسيدي ألم تأتنا ليلة بعد صلاة المغرب عند المحظرة تصغى لتلاوة الأطفال للقرآن الكريم، فلما دنوت منا سمعت أحدهم يقرأ ("وإذ قال موسى لفتيه) قصة موسى والخضر اقتربت قليلا حتى شرفت على التلاميذ ، ثم بدأت تروي لنا ما حصل بين النبي موسى والصالح الخضر، إذ لم تمض دقائق حتى تجمع رجال الحي حولك يسمعون دقائق التفسير، كنت واقفا تقرأ الآية ثم تفسرها تفسيرا بديعا، ثم تمضي إلى الآية الموالية، حتى أنهيت السورة، شنفت الأسماع بالنحو والبلاغة، والقواعد، والفقه، الخ.
دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا
من لديوان الستة الشعراء بعدك، والقاموس، ألم تلزم تلاميذك في سنوات خلت بحفظ مقدمة القاموس، حيث كنت كل ليلة تقرؤهم جزءا منها حتى أتمّوها، حفظا وفهما، نعم أذكر تلك الأيام، والليالي، حيث لا يرى أحد من تلاميذك إلا متأبطا الجزء الأول من القاموس المحيط بتعليقات العلامة محمد محمود بن التلاميد.
ما ذا أقول وهل كلامي منصف في حق قطب راسخ ربّاني
من للمواريث وكسورها ومناسخاتها بعدك؟
أذكر خريف سنة 2011 قدمت إلى القرية الوادعة لأستريح من وطأة المدينة، فكنت بعض الأوقات أمضيه مع شيخنا لأجني منه حدائق الأخلاق، وأتأدب من علمه، وأتعلم شؤون الدين،
ذات ليلة ورد عليه أحد يطلب قسمة تركة، كثر فيه القيل، الأمر الذي حير الورثة، وأوقد فيهم الخلاف والنزاع ــ لكثرة اختلاف المنتسبين للعلم في المسألة، فمن مورث زيدا، ومن حاجب عمرا ــ حتى قالوا نوقف القسمة حتى نرد عالما متمكنا. قصّ الرجل الخبر على شيخنا، فقال له اذهب إلى أسرتك، ثم ائتنا باكرا، ذهب الرجل إلى بيته، فلما أصبح رجع إلى شيخنا، قال له اذهب إلى فلان، وفلان، وفلان، وأخبرهم بأن يحضروا إلي، كنت نائما على عادة أهل المدينة، فإذا بالرجل يوقظني، قائلا : القاضي يريدك، قمت مسرعا، فلبست ثيابي، وطفقت مسرعا، وجدت في طريقي الزميلين: فلان، وفلان، وصلنا ثلاثتنا إلى القاضي، وجدناه جالسا، فسلمنا عليه، ثم دفع إلينا لبنا فشربنا، ثم قال لي يافلان اذهب أنت والتراد، وحدمين مع فلان إلى خيام بني فلان وأقسم لهم تركة فلان، فقد ترك كذا وكذا، فلفلان كذا، ولفلان،...إلخ.
لو قلت دهرا ثم دهرا لم أكن أنصفت منه لقاء ما ربّاني
كانت التركة سهلة يستطيع تقسيمها كل من له أدنى مستوى من علم الفرائص.
ذهبنا إلى القوم وفي الطريق أخبرنا الرجل عما حصل من خلاف بين الفقهاء في القسمة أسفت كثير لمستويات الفقهاء وما وصلوا إليه من ضعف في الفقه، وصلنا إلى القوم فوجدناهم أهل بدو، يحسنون الضيافة، أخبرهم الرجل أننا سنقسم التركة، فأرسلوا إلى كبارهم، فلما اجتمعوا، منحوا الكلام لأكبرهم سنا، فخاطبني الميت ترك من الورثة حسب تصوره، قاطعه أحدهم، لأنهم لم يكن يوافق على جنس الورثة، تعالت الأصوات ثم سكت الجمع ليتمّ الأول حديثه عن الموروث، فلما فرغ قلت لهم ، لي فلان، كذا، ولفلان، كذا، ولفلان، كذا ولفلانة، أما الآخرون فلم يعطه الله شيئا، ونحن نقسم على شريعة الله، لم يرق الأمر لبعضهم إذ كان يرد نصيبا من المال لفلان، حتى قال أحدهم لن نقبل بهذا لا بد لفلانة من نصيب فقد أخبرنا الفقيه الفلانية أن لها نصيبا، تعالت أصواتهم، واشتد غضب بعضهم، فلما تمادوا في المجادلة قال أحدهم ياقوم أتدرون من أرسل القوم، إنه القاضي فلان بن فلان، فلم ينبس أحد بكلمة غير رضينا رضينا.
قسمت التركة ورجعنا فرحين بمكانة الشيخ في قلوب الناس، ومهابتهم له لقوته في الله.
من الفتوى الصحيحة بعدك، من للأقضية؟ من لنصح المجتمع وحراسته من الأفكار الدخيلة؟ من لقول كلمة الحق على رؤوس الجميع، إذ كنت لا تخاف لومة لائم. من لمختصر.. ومن ومن، ومن.
في ذمة الله الكريم وحفظه جسد ببرقة وسد الصحراء
اشتهر شيخنا باسم القاضي كان عدلا في قضائه، قويا في فصل الخصام، دقيقا في تحقيقه مع المتخاصمين يستمع لكل ثم يتبين أحوال الشهود إن كان الأمر يحتاج شهودا، فكم من مرة رد شهادة أشخاص كانوا يحسبون أنفسا أشياء غير نبال بجاههم أو مكانتهم، لأن قضاءه لله لا يريد منه جزاء دنيويا.
لما حاربت الدولة في القرن المنصرم القضاة التقليدين في الأرياف والقرى، ونصبت قضاة في المحاكم متوعدة المخالفين من الفقهاء بالنكال والسجن. لكنها أخبرت شيخنا أن قضاءه مقبول غير أنه يتحاشا جنابة القتل، فإنها من اختصاص محاكم الدولة.
ظل شيخنا للقضاء طيلة حياته يقضي بين المتخاصمين تأتيه الناس من كل حدب وصوب. أذكر زمنا كنا صغارا نقرأ اللوح في محظرتنا العامرة على ضوء النار. لا نخلو من طارق ليل غريب تارة على جمل وأخرى على عربة حمار، أو فرس وربما يكون راجلا، يستوي في ذاك الرجال والنساء . كلهم يسألون أين دار القاضي؟
لم نكن في تلك المرحلة ندرك السبب في تزاحم الناس على القاضي، متجاوزين قضاة كثيرين إلا أننا لما كبرنا عرفنا أسرار توارد الناس على القاضي رحمة الله عليه.
أخبرني بعض الثقة في القرية أنه في ثمانيات القرن المنصرم وردت عليهم جماعة من مكان بعيد معهم نازلة وقعت في أسرة، إذ تنازع في شأنها الفقهاء، حيث حكم فيها بعضهم لصالح الزوج وسلم له بعضهم، غير أن أهل الزوجة نكروا فبدؤوا يطوفون بين الفقهاء فلما حلوا بقريتنا كانوا طائفتين :أهل الزوج، وأهل الزوجة. ونظرا لطول سفرهم أخبرهم القاضي أن يخلدوا إلى الراحة حتى مساء غد، فباتوا أحسن مبيت في ضيافة القاضي . لما صلي العصر قال القاضي لجامعة المسجد احضروا شرقي المسجد، حيث مجلس القاضي كل يوم.
حضر الزوجان وجماعتهم، وجمع غفير من رجال القرية، فقال القاضي للزوج ادل بحجتك فبدأ يقص أمره فلما فرغ قال له هل بقي عندك شيء قال لا. فالتفت إلى الزوجة وقال لها هات ما عندك فقصت خبرها كله. ثم بدأ يستمع الشهود فلما فرغ من الجميع حكم لصالح المرأة وأشهد الناس عليه، ثم أخذ ورقة وكتب فيها ما أعلم ه الله ثم وقعها باسمه ودفعا إليهم. قائلا هذا علمي.
انقضى المجلس ثم مضى كل إلى سبيل بيد الزوج تظاهر بالقبول على مضض فلما خلا بجماعته، أخبر أهل الزوجة أنه لن يقبل حكم القاضي. طالبا منهم أن يواصلوا السفر إلى فقيه أخر علله يجد مسعاه وافقوا مواصلة السير، فكانوا كلما وصلوا فقيها وقصوا عليه نازلتهم سأله على من مررت؟ وبعضهم يقول هل مررت بقرية كذا. فلما يدفع له الورقة يرد عليه الفقيه الحكم ما قال فلان، حتى أتوا على جميع فقهاء الجانب الشرقي كل يوافق قول القاضي، حتى رجعوا إلى الفقيه الأول فلما ناولوه الورقة سلم ما فيها وحكم على خلاف قوله الأول.
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
ذات أوبة من السفر زرت شيخنا بعد العصر صحبة ولدهم العالم الورع محمد إبراهيم. سلمت عليه فأدناني من مجلسه ومسح يده الشريفة على وجهي كان يفعل ذلك بكل إخوتي عطفا علينا لمنزة والدنا عنده، إذ كان يحبنا كثيرا ويوصينا بطلب العلم والحرص عليه، ذاكرا خصال الوالد عليه شآبيب الرحمة.
كان المجلس ذلك اليوم قليل الجمع لكثرة مشاغل الناس في زمن الخريف، فقلت تلك فرصة سانحة لأذاكر الشيخ بعض العلوم.
قلت بصوت خفي شيخنا في حاسوبي مكتبات كثيرة لما علمت من شغفه بالقراءة والازياد من العلم. فانشرح صدره، وتهلل وجهه، إذ كان مضجعا فجلس. قائلا قدم لنا شروح المختصر ثم المدونة. فتحت كتب الفقه فكان يقول هل عندك شرح فلان، فأبحث فإن وجدته أجبت نعم شيخنا. قال لي اقرا كلامه عند قول المختصر كذا . فقد قيل إن الشارح خلاف الشراح. وتارة يقول نسب إليه كذا. وأحيانا كثيرة ينشد أنظاما حسنة في الفقه يريد التحقيق من نسيتها في الشرح.
أبدأ في قراءة الشرح وفرائصي ترتعد مخافة سقط إعرابي أو صرفي، حتى يقول لي توقف. فإن كانت المسألة تتعلق بها نزوال فقهية بينها لنا، ثم ينتقل إلى مقول آخر، فإن انتهى من الشرح قال لي افتح شرح فلان. أفعل ما فعلت مع الأول وهكذا دواليك حتى غربت الشمس دون أن أشعر بمرور الوقت.
قال لي يافلان حان وقت صلاة المغرب هيا للمسجد.
أغلقت الحاسوب مندهشا من حفظ شيخنا، وقدرته على استظاهر مختصر خليل، فكأن تلك الإشكالات معروضة أمامه في شاشة، أو مكتوبة في ورقة يقرأ منها.
يَـفِـيضُ بِالعِلْـمِ فَيضًا بـهِـمَّـةٍ وَ انْـشِــرَاح
يَـحْـنُو عَـلَـى طَالِـبِـيهِ يُعـطِـي بِغَـيرِ امْـتِـياحِ
مَــا زَادَهُ العِـلْـمُ إِلَّا عَـزْمًا مَتِينَ الصِّفَاحِ
حمدت الله كثيرا على تلك العشية، متمنيا أن تكون أيامي كلها مثلها.
فما ألذّ العلم وأشهاه حين تسمعه الأذن من الراسخين فيه، المنكبين عليه، العارفين بخفاياه. ففي قلب شوق لذاك المجلس الفريد، وصاحب الوجه الوضاء رحمات ربي عليه.
وما زال يشكو الشوق حتى كأنما ... تنفس من أحشائه وتكلما
قبل شهرين زرته في داره العامرة بعد صلاة العصر على عادتي في السلام عليه، بشّ في وجهي، وطفق يغدق من عذب الكلام والثناء، ثم سأني عن حالي مع السفر ووطأة فراق القرية، وعن الأخوة المغتربين، وعن أحوالهم، لحظت الجهد الذي يصبه من الكلام، هممت بالانصراف لئلا أزعجه، مع أن نفسي مشتاقة إلى حديثه الطيب، قال لي إلى أين يافلان، ثم التفت إلى ابنه البار محمد إبراهيم وقال "فلان ما اشرب، جيب اشراب ولا تاي"، قلت له شربت ياشيخنا وسأعود إليك.
خرجت وقلبي متقطعة أوصاله أسفا على فراق الشيخ، فقد نحل منه الجسم، ودق العظم، وبلغ منه المرض مبلغا حتى أنه لم يكن باستطاعته أن يضجع بنفسه.
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام
علمت أن الأجل قد اقترب، وأن وعد الله لن يخلف، فكل نفس ذائقة الموت، كنت بين الفينة والأخرى أسأل عن حاله، وأطلب له من الله الشفاء العاجل، وأن يبارك في عمره.
اليوم لبّت نفس القاضي داعي المنون فرحة بلقاء ربّ كريم، عطوف على عبيده، يحتفي بضيوفه القادمين عليه، يقبل طاعاتهم ويعفو عن هفواتهم.
فرحماك يارب بالقاضي، فقد ورد عليك طيب النفس، كريم الخلق، راضيا بقضائك، كان أعد للقاء كثير صلاة، ودعاء وذكر، ونصح لأمتك، فاجعل له الروح والريحان وجنة النعيم.
عليك سلام الله وقفا فإنني أرى الموت وقّاعا بكلّ شريف
ياأهل القاضي جميع الأمة يشاطرونكم في المصيبة، فالعزاء لا يختص بكم رغم أننا نعلم ما يغض مضاجكم من آهات الحزن، إلا أننا نبشركم بما عده الله لعباده الصالحين، وقد كان شيخنا منهم، ولا نزكي على الله أحدا.
ليس يحظى إلا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور
اليوم أيها القاضي ترقد نفسك بسلام في روضة من رياض الجنة، سيكون القرآن أنيسك فيها حتى تحشر على هيئة حسنة بإذن الله تعالى.
فاذهب كما ذهب الشباب فإنه قد كان خير مجاور لمجير
واذهب كما ذهب الوفاء فإنه عصفت به ريحا صبا ودبور
والله ما أبّنته لأزيــده شرفا ولكن نفثة المصدور
أيها الجمع الكريم لم يشأ القاضي أن يترك الشريعة معطلة لا راعي يذود عن حماها ويحرصها من عبث الجهلة، وزيغهم بل غرس أوتادها، ووطدها، فهؤلاء بنوه وفلذات كبده نهلوا منه، علما وحلما ووقارا، وصلاحا، وشرفا، فالعلم لهم، والفتيا فيهم، والقضاء منذ زمن تولاه ولده الأكبر والإمام الأعظم محمد إبراهيم حفظه الله وأخوته، وجميع العائلة الشريفة.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل
كتبه تلميذ القاضي، وابن حبيبه: عبد الوهاب ولد الشيخ الحطاب، الشهامة، أبوظبي، 16/ 9/ 2020م.