في كتابه الخوف من الحرية فتح إريك فروم الباب على مصراعيه امام عدة انماط من الخوف الذي يفضي بالضرورة الى الفرار، ورغم وفرة المقاربات حول مفهوم الهوية والتي راوحت بين الانثروبولوجي والسوسيولوجي من طراز الهويات القاتلة لأمين معلوف ورهاب الهوية لداريوش وحدود الهوية القومية لنديم البيطار، واخيرا الهوية الفائضة لوجيه كوثراني، الا ان هناك قوسا محذوفا من هذه الدائرة التي تصبح خانقة واختزالية اذا تحولت الهوية الى شرنقة او زنزانة، هذا القوس هو الهروب من الهوية، وادراج سؤالها الوجودي والاشكالي في خانة المسكوت عنه، ومن يهربون من سؤال الهوية هم فئتان الأولى تسعى الى الاندماج في هوية بديلة تضمن الأمان والثانية ثقافتها الوطنية سرية لأسباب إثنية، خصوصا حين تعيش في دولة ذات سقف فولاذي اشبه بالخوذة، ومن مظاهر وتجليات الفئة الأولى، التماهي من خلال الطقوس والاسماء والمناسبات الوطنية مع الأقوى او الغالب اذا شئنا استعارة هذا المصطلح من ابن خلدون الذي تحدّث مبكرا عن تماهي المغلوب وفقدانه التدريجي لخصائصه ومكونات جوهره، والاسماء مفاتيح مناسبة بل نموذجية لقراءة ثقافة الاتّقاء التي تلوذ بها جماعات عزلاء.
اما الثقافة شبه السرية لدى اثنيات هاجعة كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي قبل تفكيكه فهي مجال حيوي لاصابة الفرد بالشيزوفرينيا او ازدواجية الهوية، بحيث يكون في ليله الخاص مختلفا تماما عما يكونه في نهار الجميع، او بمعنى أدق نهار الدولة، لكن ما ان تتصدع قشرة الدولة ويصبح المناخ ملائما لاندلاع الاشواق المكظومة حتى يحدث ما شاهدناه خلال العقود الثلاثة الاخيرة، بحيث اوشك صراع الهويات ان يكون بديلا غير موضعي لحرب كونية ثالثة تحدث بالتقسيط وبأسلحة مختلفة وأساليب غير تقليدية او شائعة في الحروب الكلاسيكية التي تدور بين اطراف متكافئة. وليست اشهر مقاربات الهوية واكثرها تداولا عبر الاعلام هي الأهم من سواها، فقد تكون الاطروحات الأقل تداولا هي الاكثر جدية وعمقا، مما يجعلها عسيرة الهضم على الوعي في مجتمعات تصل فيها نسبة الامية الى اكثر من خمسين بالمئة اما الامية المعرفية فقد تفوق هذه النسبة بكثير.
للمثال فقط، تحضرني مقاربة بعنوان «ان تكون بهوية او لا تكون» للكاتب فالح عبد الجبار، نشرت بالفرنسية مترجمة عن الانجليزية في مجلة مشرق- مغرب ربيع عام 1999 ضمن عدد مكرّس لأزمة الهوية بدءا، يعترف الكاتب أن مفهوم الهوية مُربك ويثير حيرة لا آخر لها تماما كما كانت حيرة شكسبير حين تساءل عن المضمون المادي لمفاهيم اجتماعية مثل الكبرياء والكرامة والشرف، ذلك لأن شكسبير يتساءل اين يقيم الشرف مثلا في جسد الانسان والهوية كذلك، لهذا تبدو اقرب الى ما نسميه السهل الممتنع، او السّراب الذي يعدنا باطفاء الظمأ لكنه يُضاعفه، ولكي لا أتورط بتلخيص هذه المقاربة المعمّقة للكاتب، اتوقف عند نقطتين، الاولى اعتباره هذه المفاهيم المجرّدة والناشفة اصطناعيا بشريا وهو يستشهد بما قاله ميشيل فوكو عن الانقلاب في الادوار من خلال مثال اللغة، فاللغة التي اخترعها الانسان خادمة للتواصل والتفاهم تحولت الى سلطان مستبد.
والنقطة الثانية هي استحضاره لرواية «الساعة الخامسة والعشرون» للروماني كوستانتين جيورجيو ولحسن الحظ فإن هذه الرواية ترجمت الى العربية قبل عدة عقود، والساعة الخامسة والعشرون هي السّاعة الاخيرة الاضافية في حياة الغوّاصين الذين كانوا يحضرون ارنبا يكون بمثابة بارومتر لقياس منسوب ما تبقى من الاكسجين تحت الماء، وحين يموت الأرنب يدرك الغواصون ان ما تبقى لهم من نصيب في الحياة هو ساعة واحدة، ان لم يطفوا على سطح الماء غرقوا الى الأبد، وينتهي الى القول أن هذه الرواية هي أهم كتاب أدبي يحكي القصة التراجيكوميدية لمشكلة الهوية في القرن العشرين، فالساعة الخامسة والعشرون هي ذروة العصر الصناعي، وللوهلة الأولى قد يبدو هذا الربط تعسفيا بين افرازين احدهما تاريخي له بُعد ميتافيزيائي والاخر فيزيائي تماما، لكن ما وراء هذا التمثيل اعمق من ذلك، لأن الكاتب ينتهي بعد قشر عدة ظواهر بحثا عن اللب الى ما يلي:
للعراقيين بشكل عام تجارب خاصة في تحديد الهوية، والواقع ان كل شيعي مهجّر او كردي منفي او يهودي عراقي او آشوري مُبدع او يساري او وجودي او ليبرالي ترك العراق انما هو نسخة جديدة من بطل رواية الساعة الخامسة والعشرون، وأكاد أجزم بأننا جميعا نُعاني من ازمة انتساب لأن معايير الانتماء تحولت الى قيود تكبّل العقل.
فهل يبتعد ما يقوله عبد الجبار كثيرا عن مفهوم الهوية القاتلة؟ او تلك التي تقترن بالعُصاب، او الشرنقة الايديولوجية التي توقف السجين داخلها عن النمو وكأنها حذاء صيني حديدي يحول دون نمو قدم الطفل.
في النهاية ثمة قاسم مشترك بين كل تلك الاطروحات من حيث الاختناق بالهوية والارتهان لاصطناعها البشري، لكن الفارق الجذري بين مقاربة يحتكرها التوصيف الأفقي واخرى تنبش الجذور هو ان الأولى موسمية، وذات صلاحية تاريخية ومعرفية محدودة، بخلاف الثانية التي تعبر المجتمعات والثقافات بتحريض من هاجس انساني يعين البشر على الانعتاق من زنازين الايديولوجيا وشرانقها. وبالعودة الى مفهوم الهروب من الهوية نجد ان الأمثلة تتضاعف امامنا بسبب عودة هذه المجتمعات وبالتحديد في منطقتنا الى ما قبل الدولة، فما ان يقشر الطلاء الرخامي والحداثوي عن الحزب حتى يظهر تحته على الفور نسيج القبيلة، لأن النمو لم يكن عضويا بقدر ما كان اشبه بارضاع دمية من قش، وهنا نتذكر كيف صاغ الاستعمار نُظُما ملكية واخرى جمهورية تبعا لنظامه هو، وكأنه يقدم مصغرات اشبه بلعبة الليغو لبرلمانات داجنة في اسطبل الامبراطور كاليغولا كما قدّمه الفيلم الشهير عنه …
ولعل مقاربة وجيه كوثراني التي صدرت في الآونة الاخيرة بعنوان فائض الهوية ونقصان المواطنة مدخل ملائم لفتح عدة ملفات يكسوها الغبار، منها ان تضخم الهوية لا يعبر بالضرورة عن المواطنة المعافاة، بل العكس، يتستر على الخلل البنيوي في عمق نسيجها، يؤكد ذلك ما كتبه الروائي ميلان كونديرا في احد مقالاته عن تورم النشيد الوطني وحشوه بالمزاعم الدونكيشوتية كلما كانت الدولة أصغر وأقل فاعلية…
ايمان
إيمّا بوفاري وأبو الطيب المتنبّي يذهبان للعلاج
د. بلقيس الكركي*
في مشهد رائع من رواية آلان دو بوتون «مقالات في الحبّ»، تذهب بطلة رواية فلوبير (مدام بوفاري) عند طبيبة نفسيّة شهيرة في سان فرانسيسكو لتتعالج من إدمانها حبّاً يؤذيها أدّى بها في نهاية الرواية إلى الانتحار. ويسأل الكاتب، وهو بطل روايته الذي يعاني إدماناً مشابهاً، عن الفارق بين المصائر عندما يصنعها خيال الشعراء والروائيين المتشائمين، وبينها عندما تتدخل بها إيجابيّة الأطباء النفسيّين ونظرتهم الواقعية المعاصرة إلى الصحة والحياة. إن العلاقة الوثيقة جداً والمتبادلة بين الأدب وعلم النفس عبر التاريخ معروفة بالطبع، لكنها في هذا النصّ ستتعلق (أكثر من مسألة اللغة واللاوعي) بالمصائر حسبما يعلق بالخواطر نصف الواعية من مفاهيم للحياة والإنسان والسعادة والوجود.
مضحك هو المشهد. تدخل مدام بوفاري عند الدكتورة نيرلي في عيادتها، تجلس على الكنبة وتبدأ بالبكاء. تمسح أنفها بمنديل مطرّز. تقول الدكتورة: «إن البكاء تجربة إيجابيّة، لكنّني لا أعتقد أن علينا أن نمضي الدقائق الخمسين هكذا». تستمرّ بوفاري بالبكاء: «لم يكتب. لم…يكتب.» «من الذي لم يكتب يا إيما»؟ «رودولف. لم يكتب، لم يكتب. إنه لا يحبّني. أنا امرأة مدمّرة. امرأة مدمّرة مثيرة للشفقة، بائسة وطفولية.» الدكتورة: «إيمّا، لا تقولي هذا، قلت لك سابقاً: لا بد أن تتعلمي أن تحبّي نفسك.» «لماذا أجازف وأحبّ أحداً بهذا الغباء؟» «لأنّك إنسانة جميلة. ولأنّك لا تريَن أنك مدمنة على الرجال الذين يسببون لك ألماً نفسياً». «لكنه كان جميلاً جداً وقتها». «ما هو؟» «أن أكون هناك، وهو قربي، أمارس الحب معه، أشعر بجلده قرب جلدي، نركب الخيل في الغابات. شعرت بأني حقيقيّة جداً، حية جداً، والآن حياتي حطام.» «ربما شعرت بأنّك حيّة، لكن لأنك كنت تعلمين بأن ذلك لن يستمرّ، وأن هذا الرجل لا يحبّك حقاً. أنت تكرهين زوجك لأنّه يستمع لكل ما تقولينه، لكنك لا تستطيعين منع نفسك من الوقوع في حب نوع من الرجال يستغرق أسبوعين للإجابة عن رسالة. بصراحة يا إيما، إن نظرتك للحبّ فيها دليل على المازوشية والوسواس القهري.» «حقاً؟ ما الذي أعرفه أنا؟ أنا لا أبالي إذا كان كلّه مرضاً، كلّ ما أريده هو أن أقبّله مرّة أخرى، بأن أحسّ به وهو يضمّني بين ذراعيه، أن أشمّ رائحة جلده.» «لا بدّ أن تبدئي ببذل جهد للنظر إلى داخل نفسك، لإعادة التفكير في طفولتك، ومن ثم ربّما ستدركين أنك لا تستحقّين كل هذا الألم. إن الأمر مرتبط فقط بأنك نشأت في عائلة مختلة لم تشبع حاجاتك العاطفية ولذلك علقت في هذا النسق.» «لقد كان أبي مزارعاً بسيطاً.» «ربما، ولكنه لم يكن يُعتَمَد عليه عاطفيّاً، والآن صرت تستجيبين لذلك بأن تحاولي إشباع حاجاتك بالوقوع في حب رجل لا يستطيع أن يمنحك ما تريدين حقاً.» إن ّتشارلز (زوجها) هو المشكلة، وليس رودولف.» «حسناً، عزيزتي، سنخوض في ذلك الأسبوع القادم. كدنا نصل إلى نهاية الجلسة.» أخبرتها بوفاري، للمرّة الثالثة، بأنّها لن تتمكن من الدفع، لأنها من شدة تعاستها أخذت تصرف مالها في التسوق، وأنها اليوم قد ابتاعت ثلاثة فساتين جديدة، كشتباناً ملوّناً، وطقمَ شاي صينيّ.
من الصعب، كما يتابع الكاتب، تخيّلَ نهاية سعيدة لعلاج إيما بوفاري، أو نهاية سعيدة لحياتها. فالأمر يتطلب شخصاً يتسم بالـ»وضعيّة الرومانسية»(romantic positivism) ليصدّق أن الدكتورة نيرلي من الممكن أن تحوّل إيما بوفاري من بطلة رواية تراجيدية تنتحر في النهاية إلى زوجة متكيّفة، غير مهووسة ومعطاءة، مما كان ليحوّل رواية فلوبير الخالدة إلى حكاية متفائلة حول «الخلاص من خلال معرفة الذات». يتابع الكاتب: «إن وعينا بجنون الحبّ لم ينقذ أيّاً منا من المرض (…) وربما مفهوم الحبّ الحكيم الذي بلا ألم ينضوي على تناقض وليس له وجود.» كان فلوبير، بالمناسبة، واعياً جداً لهذه المسألة، وكان قد جرّب نهاية غير مأساوية لروايته الأخرى «التربية العاطفية»، يحصل فيها فريدريك على حبيبته المتزوجة مدام آرنو ويهربان إلى نيويورك. لم يستطع إلا تخيّل حياة مليئة بالـضجر، رغم أنها ستكون»صحية» بمفهوم الطب النفسي، فغيّر النهاية إلى أخرى مأساوية، يلحق فيها فريدريك إدمانه على وهم ما، يهرب منه حين يأتيه متأخراً في الواقع، ويبقى وحيداً جداً في آخر حياته.
***
لم تكن إيما بوفاري حسب الرواية تمتلك ثقافة حقيقية باستثناء ما توافر لها من بعض الروايات الرومانسية الساذجة والمجلات. ولو اختلف الأمر، أي لو كان ما تعلّق بخاطر مريضة مثلها مزيج من الفكر والفن والتجربة أكثر عمقاً وتنوعاًولذا فهو لا يستقر على شكل بل يتغير باستمرار بتغيّر ما يطرأ على العقل والحواس فيعبث بلا رحمة بالمشاعر والرغبات ويزيدها تناقضاً حد التباس الأسماء والصفات، فإن الطبيب النفسي سيكون على موعد مع «مريضة» لا تفهم لغته الواضحة المرتبة أو تدعي غربة عنها، ولا تريد غالباً أن تتعالج خوفاً على هويتها من التشابه والثبات. وإذا كانت قد أمضت عمرها مهووسة بتراجيديات الرواية والمسرح وتعقيدات الشعر ومفاهيم الفلسفة وتشبّعت حتى السأم بما كتبه فوكو عن السلطة وتحوّلها من سلطة القسيس إلى سلطة الطبيب النفسي فيما يخص امتلاك الحل والحقيقة، وعن تاريخ الجنون وعن وعن.. وصولاً إلى هذا المشهد من رواية قرأَتها عرضاً ومع ذلك، عند مواجهة الواقع، قد لا تنفعها ثقافتها شيئاً بل قد يخونها جسدها وأعصابها حد الانهيار وحد زيارة الطبيب مرغمة، فإنّ الأخير سيكون على موعد مع كائن خائف من الاعتراف؛ الاعتراف بأنه بشر من محض لحم ودم لم تستطع كل الأفكار والكلمات أن تحميه (رغم أنها أنذرته) من عواقب الإدمان على أقاصي الأشياء، أفكاراً وأحاسيس، إذ طالما استهتر بالثمن إلى أن أصبحت جرعة الألم المصاحبة للذّة أكبر من أن تحتمل، وإلى أن أصبح مجرداً من كل سلطة وأغلاها تلك التي على نفسه، تماماً كإيما بوفاري.
***
قد تكون مغرية فكرة كتابة نص مدافع عن عالم الأدب يدين عالم الطبّ النفسي المعاصر واختزالاته تحت تأثير هذا المشهد. هذا ما كنت أنويه،لكن الصدفة كانت أقوى مني، إذ هربت إيما بوفاري من الروايتين إليّ في عالم الواقع لتجعلني أعيد تمثيل مشهد دوبوتون مكانها وبحضورها فيّ.ورغم تشابه طفيف في أسباب زيارة الطبيب، إلى أن المشهد قد يكون أقلّ إثارة للسخرية بكثير بسبب الاختلاف؛ إذ لم يكن الطبيب المرموقيشبه الدكتورة نيرلي، كما أنّني لا أشبه إيما بوفاري مهما نازعتني عليّ. لم يكن ينطلق من جملة يقينيات باردة في تخصصه بل يبارك مبدأ الاحتمالات، ولم أكن أنا لأختصر معنى الوجود في الحبّ وحده، رغم أنني أفهم إيما وآنا كارنينا وأحس بهما ومثلهما أحياناً مهما حاولَت سيمون دو بوفوار أن تعالجني من أمراض التاريخ وهي التي بالكاد عالجت نفسها كما تكشف مذكراتها.
بعد أن استبعدالطبيب في المشهد المتخيّل أية نية لديّ مشابهة لنية إيما في الانتحار – كيف وأنا أدّعي خبرة لا بأس بها في آراء لا تنتهي حول «ما يستحقّ الحياة»، كما أنّني أدرك أن فيرجينيا وولف وسيلفيا بلاث لم تنتحرا قبل عمر من الكتابة.بعد الاستبعاد والاتفاق على أرض لغوية مشتركة وبعد بكاء سريع في مناديل «ورقية» غير مطرّزة، بدأتحواراتأفضت إلى كتب لم أكن لأقرأها خارج السياق ولم تكن لتنصح بها الدكتورة نيرلي إيـمّا المشغولة بالتسوّق:ديفيد برنز من أجل بعض التمارين الذهنية، ودانيل كانمان (كنت متأكدة أن الكاتب الحائز على جائزة نوبل كان ليختصر على نفسه أشواطاً لو قرأ نيتشه)، وكتاب عن الاكتئاب والفن الحديث، إذ كان الطبيب مهتما بعلاقة ما يسمى بالاضطرابات النفسية بالإبداع، وبالحدّ الأدنى من الصحة ومن المرضالضروري للقيام بما يعتقد المريض أنه خلاصه خارج إطار العلاج.ولأنه كانمدركاًلتنوع المسمّيات والآراء في التخصصات المختلفة في العلوم والإنسانيات ولأهمية الفلسفة، ارتحت.إلا أن مسألة الأدوية بقيت إشكالية: فهي تذكّر من يحتفي بعقله بأنهمحض «مادّة» في النهاية، وبأن مفهوماً بالغ التعقيد كالسعادة قد يتعلق ولو جزئيا بحبة صغيرة تعبث بدماغه ومعنى وجوده الكبير، وتثير خوفه على ما يدعي أنه قلق أو مرض لازم للكتابة وللإحساس (المزيف ربما) بهوية شخصية قد لا تكون تطهّرت تماماً من كليشيه «المثقّف المعذّب في الأرض».حين أذعنْت، ساندني أبو الطيّب: «وأهدى الطريقين التي أتجنّبُ»، رغم أنه قبل الطبيب كان يبارك نفساً لذّتُها، كما هي لذّة بوفاري، «فيما النفوسُ تراه غاية الألمﹺ».
***
وصل الحوار بين عالمي الأدب والطب إلى ذكر بحث عن المتنبي والاكتئاب قام به أخصائي في الطب النفسي لا علاقة له بالأدب أو البلاغة أو النقد. هنا أصبحت المسألة بالنسبة ليأخطر من مسألة إيمّا بوفاري بكثير، بل أخطرمما بي مرحلياً بسببها لأني، حين تتبدد السحب، سأعود حتماً إليه لأرى أين أصبحتُ من أخمصيه، وهو ما لن تفهمه إطلاقاً أي من بطلات رواياتي الأثيرة.المتنبي، يا طبيبي العزيز، مسألة بالغة الشخصية، وأنا لا أطيق أن يقترب منه أحد من غير الممسوسين به إلى الصميم، ومن غير من عُجنَت قلوبهم وجلودهم بما قال عن ألمه العبقري العظيم. المتنبي، يا طبيبي العزيز «يجلُّ عن الملَام»، وعن التشخيص والشفقة والعلاج. فلنتركه، ونحن من كل التخصصات، كما طلب: «ذراني والفلاةَ بلا دليلﹴ/ ووجهي والهجيرَ بلا لثام»ﹺ.
تركتُ بوفاري تذهب للتسوق، وعدت أنا وقرأت البحث: «هل كان المتنبي مصاباً بالاكتئاب؟» هاتفت أبي ليشاركني السخط، وضحكت كما لم أضحك منذ شهور، «ولكنّه ضحكٌ كالبكا» كما يقول أبو الطّيب.»أبي، يريدون أن يعالجوه!» هؤلاء الذين لا يعرفون أن الشعر كله بدأ بـ»قفا نبكﹺ»، وأن بعض الغناء بكاء كما قال نزار.يريدون أن يعالجوا صديقنا من القلق والأرق والحمى والوحدة والخيبة والقهر فيمسخوه ويمسخوا خارطة شعورنا كلّها. قال لي طبيبي إنّ المتنبي لو لم يكن قتل لكان ربما انتحر. فلينتحر! إذا كانت أجمل الاستعارات وتركيبات اللغة في تاريخ الشعر مرهونة بـ»اكتئابه» فطوبى لكل الاضطرابات النفسية. ربما تحتاج إيما بوفاري إلى وصفة للأدوية المهدّئة والمضادة للاكتئاب كي لا تنتحر،لكني سأحتاج أكثر إلى ديوانه الصغير ولو رأيتُ»الموت شافيا». ما قيمة الصحة من غير الجمال المرهون أبداً بـضدّها؛ بـ»علّة» ما؟ما قيمة أن تكسب البشرية كائناً سعيداً وتخسر آخر كَتب العَجَب حين اكتأب. هذا شاعر، يا طبيبي العزيز، تعرّق بعد حمّى كما باقي البشر، لكنه ما رآه محض عرق: «إذا ما فارقَتني غسّلَتني/ كأنّا عاكفان على حَرام». من أين لكبار العلماء بل والفلاسفة مثل هذا الوصف؟ من أين لنا بـ»لغة» إذا ما عالجتموه؟ من أين لنا بالتجميل المحترف لكل آلامنا الصارخة والتافهة من طريق المتنبي وفلوبير وسواهما؟ الجمال لا يصنعه الأطباء ولا العلماء، بل الفنانون والشعراء، وهو وحده ما يستحق الحياة يا طبيبي العزيز.
حسناً، سأحاول مرونة أكبر. ربما لو زارك المتنبي وأخذ الدواء لكتب، لكن لتغيّرت بعض الاستعارات والصور من غير أن تتغير المعاني بالضرورة.قد تتغير القوافي والبحور حسب تقلبات النبض وكيمياء الدماغ وستتأثر ربّما بالنعاس والغثيان واختلال الغرائز. ربما ستتغير لغته أيضاً حين يشعر بسبب الدواء بأنه «بخير»، لكنه في جسد آخر، بروح أخرى، لكن اللغة ما تزال تشبهه، وتدل وحدها عليه وعلى من هو. هل كان ليقول: «جرحتﹺ مُجرَّحاً لم يبق فيه مكان للسيوف ولا السهام»؟ لا، لم يكن غالباً ليستخدم صيغة المبالغة «مجرَّحاً»، ولن تستخدمها كذلك فيروز للبكاء على «القصص المجرَّحة». فالألم موجود، لكن الإحساس آخر، بلا صيغة مبالغة. تسيل الدماء من الروح بلا خدوش «تجرّحها»، وذاك هو الرعب: أن تعرف أن فيك ورماً من غير عوارض جانبية، من غير تقرّح أو تشوّه أو علامات. سيحضر الألم القديم بإيقاع جديدرغم كل العلاج، فلا خوفربّما على الشعراء وأقرانهم من أن يقتل الأطباء إحساسهم العالي بكل الأشياء.
***
بوفاري تتذكررودولف، وتحنّ وتئنّ.مع ذلك فهي لاتتوجع بالطريقة المعتادة التي تتناسب مع الموقف والتاريخ ومضمون الذاكرة. كأن السكين أصبحت فجأة كاذبة كتلك التي يستخدمها الممثلون والسحرة، كأن الحقيقة غدت مجازاً. دواؤك يا عزيزي الطبيب يخدع كما الشعر، دواؤك يعزّز المجاز. لكن لا بأس، فبعض المجاز الجيد لا يلبث أن يلحق سريعاً بالحقيقة كما علّمنا كبار البلاغييّن والنحاة.
ستقول لي بعد هذا النص إنني،من وجهة نظر الطب النفسيّ، حقاً بخير،وسنخرج من عندك أنا وإيما وأبو الطيب، «نُريكَ الرضا» كما يقول، وأنفسنا ما تزال تخبّئ بحاراً عميقة من الخوف والقلق مصيرها الآدميّ الأبدي أن يحرّكها بل يهيّجها حجر. «ليت الفتى حجرُ»: يقول الشاعر، ويقدّم حلا جماليا يزيدنا هشاشة. «ليس الفتى حجرا»، يقول الطبيب، ويقدم حلاً واقعياً يحاول أن يزيدنا صلابة.وبينهما أحاول أن أتبيّن خيط هذه من تلك، وأعرف أن أيا منهما لن يظهر لي في النهاية إلاحاداً متطرفاً كعادته رغم كل المجاز.
كاتبة من الأردن
ايمان
إيمّا بوفاري وأبو الطيب المتنبّي يذهبان للعلاج
د. بلقيس الكركي*
في مشهد رائع من رواية آلان دو بوتون «مقالات في الحبّ»، تذهب بطلة رواية فلوبير (مدام بوفاري) عند طبيبة نفسيّة شهيرة في سان فرانسيسكو لتتعالج من إدمانها حبّاً يؤذيها أدّى بها في نهاية الرواية إلى الانتحار. ويسأل الكاتب، وهو بطل روايته الذي يعاني إدماناً مشابهاً، عن الفارق بين المصائر عندما يصنعها خيال الشعراء والروائيين المتشائمين، وبينها عندما تتدخل بها إيجابيّة الأطباء النفسيّين ونظرتهم الواقعية المعاصرة إلى الصحة والحياة. إن العلاقة الوثيقة جداً والمتبادلة بين الأدب وعلم النفس عبر التاريخ معروفة بالطبع، لكنها في هذا النصّ ستتعلق (أكثر من مسألة اللغة واللاوعي) بالمصائر حسبما يعلق بالخواطر نصف الواعية من مفاهيم للحياة والإنسان والسعادة والوجود.
مضحك هو المشهد. تدخل مدام بوفاري عند الدكتورة نيرلي في عيادتها، تجلس على الكنبة وتبدأ بالبكاء. تمسح أنفها بمنديل مطرّز. تقول الدكتورة: «إن البكاء تجربة إيجابيّة، لكنّني لا أعتقد أن علينا أن نمضي الدقائق الخمسين هكذا». تستمرّ بوفاري بالبكاء: «لم يكتب. لم…يكتب.» «من الذي لم يكتب يا إيما»؟ «رودولف. لم يكتب، لم يكتب. إنه لا يحبّني. أنا امرأة مدمّرة. امرأة مدمّرة مثيرة للشفقة، بائسة وطفولية.» الدكتورة: «إيمّا، لا تقولي هذا، قلت لك سابقاً: لا بد أن تتعلمي أن تحبّي نفسك.» «لماذا أجازف وأحبّ أحداً بهذا الغباء؟» «لأنّك إنسانة جميلة. ولأنّك لا تريَن أنك مدمنة على الرجال الذين يسببون لك ألماً نفسياً». «لكنه كان جميلاً جداً وقتها». «ما هو؟» «أن أكون هناك، وهو قربي، أمارس الحب معه، أشعر بجلده قرب جلدي، نركب الخيل في الغابات. شعرت بأني حقيقيّة جداً، حية جداً، والآن حياتي حطام.» «ربما شعرت بأنّك حيّة، لكن لأنك كنت تعلمين بأن ذلك لن يستمرّ، وأن هذا الرجل لا يحبّك حقاً. أنت تكرهين زوجك لأنّه يستمع لكل ما تقولينه، لكنك لا تستطيعين منع نفسك من الوقوع في حب نوع من الرجال يستغرق أسبوعين للإجابة عن رسالة. بصراحة يا إيما، إن نظرتك للحبّ فيها دليل على المازوشية والوسواس القهري.» «حقاً؟ ما الذي أعرفه أنا؟ أنا لا أبالي إذا كان كلّه مرضاً، كلّ ما أريده هو أن أقبّله مرّة أخرى، بأن أحسّ به وهو يضمّني بين ذراعيه، أن أشمّ رائحة جلده.» «لا بدّ أن تبدئي ببذل جهد للنظر إلى داخل نفسك، لإعادة التفكير في طفولتك، ومن ثم ربّما ستدركين أنك لا تستحقّين كل هذا الألم. إن الأمر مرتبط فقط بأنك نشأت في عائلة مختلة لم تشبع حاجاتك العاطفية ولذلك علقت في هذا النسق.» «لقد كان أبي مزارعاً بسيطاً.» «ربما، ولكنه لم يكن يُعتَمَد عليه عاطفيّاً، والآن صرت تستجيبين لذلك بأن تحاولي إشباع حاجاتك بالوقوع في حب رجل لا يستطيع أن يمنحك ما تريدين حقاً.» إن ّتشارلز (زوجها) هو المشكلة، وليس رودولف.» «حسناً، عزيزتي، سنخوض في ذلك الأسبوع القادم. كدنا نصل إلى نهاية الجلسة.» أخبرتها بوفاري، للمرّة الثالثة، بأنّها لن تتمكن من الدفع، لأنها من شدة تعاستها أخذت تصرف مالها في التسوق، وأنها اليوم قد ابتاعت ثلاثة فساتين جديدة، كشتباناً ملوّناً، وطقمَ شاي صينيّ.
من الصعب، كما يتابع الكاتب، تخيّلَ نهاية سعيدة لعلاج إيما بوفاري، أو نهاية سعيدة لحياتها. فالأمر يتطلب شخصاً يتسم بالـ»وضعيّة الرومانسية»(romantic positivism) ليصدّق أن الدكتورة نيرلي من الممكن أن تحوّل إيما بوفاري من بطلة رواية تراجيدية تنتحر في النهاية إلى زوجة متكيّفة، غير مهووسة ومعطاءة، مما كان ليحوّل رواية فلوبير الخالدة إلى حكاية متفائلة حول «الخلاص من خلال معرفة الذات». يتابع الكاتب: «إن وعينا بجنون الحبّ لم ينقذ أيّاً منا من المرض (…) وربما مفهوم الحبّ الحكيم الذي بلا ألم ينضوي على تناقض وليس له وجود.» كان فلوبير، بالمناسبة، واعياً جداً لهذه المسألة، وكان قد جرّب نهاية غير مأساوية لروايته الأخرى «التربية العاطفية»، يحصل فيها فريدريك على حبيبته المتزوجة مدام آرنو ويهربان إلى نيويورك. لم يستطع إلا تخيّل حياة مليئة بالـضجر، رغم أنها ستكون»صحية» بمفهوم الطب النفسي، فغيّر النهاية إلى أخرى مأساوية، يلحق فيها فريدريك إدمانه على وهم ما، يهرب منه حين يأتيه متأخراً في الواقع، ويبقى وحيداً جداً في آخر حياته.
***
لم تكن إيما بوفاري حسب الرواية تمتلك ثقافة حقيقية باستثناء ما توافر لها من بعض الروايات الرومانسية الساذجة والمجلات. ولو اختلف الأمر، أي لو كان ما تعلّق بخاطر مريضة مثلها مزيج من الفكر والفن والتجربة أكثر عمقاً وتنوعاًولذا فهو لا يستقر على شكل بل يتغير باستمرار بتغيّر ما يطرأ على العقل والحواس فيعبث بلا رحمة بالمشاعر والرغبات ويزيدها تناقضاً حد التباس الأسماء والصفات، فإن الطبيب النفسي سيكون على موعد مع «مريضة» لا تفهم لغته الواضحة المرتبة أو تدعي غربة عنها، ولا تريد غالباً أن تتعالج خوفاً على هويتها من التشابه والثبات. وإذا كانت قد أمضت عمرها مهووسة بتراجيديات الرواية والمسرح وتعقيدات الشعر ومفاهيم الفلسفة وتشبّعت حتى السأم بما كتبه فوكو عن السلطة وتحوّلها من سلطة القسيس إلى سلطة الطبيب النفسي فيما يخص امتلاك الحل والحقيقة، وعن تاريخ الجنون وعن وعن.. وصولاً إلى هذا المشهد من رواية قرأَتها عرضاً ومع ذلك، عند مواجهة الواقع، قد لا تنفعها ثقافتها شيئاً بل قد يخونها جسدها وأعصابها حد الانهيار وحد زيارة الطبيب مرغمة، فإنّ الأخير سيكون على موعد مع كائن خائف من الاعتراف؛ الاعتراف بأنه بشر من محض لحم ودم لم تستطع كل الأفكار والكلمات أن تحميه (رغم أنها أنذرته) من عواقب الإدمان على أقاصي الأشياء، أفكاراً وأحاسيس، إذ طالما استهتر بالثمن إلى أن أصبحت جرعة الألم المصاحبة للذّة أكبر من أن تحتمل، وإلى أن أصبح مجرداً من كل سلطة وأغلاها تلك التي على نفسه، تماماً كإيما بوفاري.
***
قد تكون مغرية فكرة كتابة نص مدافع عن عالم الأدب يدين عالم الطبّ النفسي المعاصر واختزالاته تحت تأثير هذا المشهد. هذا ما كنت أنويه،لكن الصدفة كانت أقوى مني، إذ هربت إيما بوفاري من الروايتين إليّ في عالم الواقع لتجعلني أعيد تمثيل مشهد دوبوتون مكانها وبحضورها فيّ.ورغم تشابه طفيف في أسباب زيارة الطبيب، إلى أن المشهد قد يكون أقلّ إثارة للسخرية بكثير بسبب الاختلاف؛ إذ لم يكن الطبيب المرموقيشبه الدكتورة نيرلي، كما أنّني لا أشبه إيما بوفاري مهما نازعتني عليّ. لم يكن ينطلق من جملة يقينيات باردة في تخصصه بل يبارك مبدأ الاحتمالات، ولم أكن أنا لأختصر معنى الوجود في الحبّ وحده، رغم أنني أفهم إيما وآنا كارنينا وأحس بهما ومثلهما أحياناً مهما حاولَت سيمون دو بوفوار أن تعالجني من أمراض التاريخ وهي التي بالكاد عالجت نفسها كما تكشف مذكراتها.
بعد أن استبعدالطبيب في المشهد المتخيّل أية نية لديّ مشابهة لنية إيما في الانتحار – كيف وأنا أدّعي خبرة لا بأس بها في آراء لا تنتهي حول «ما يستحقّ الحياة»، كما أنّني أدرك أن فيرجينيا وولف وسيلفيا بلاث لم تنتحرا قبل عمر من الكتابة.بعد الاستبعاد والاتفاق على أرض لغوية مشتركة وبعد بكاء سريع في مناديل «ورقية» غير مطرّزة، بدأتحواراتأفضت إلى كتب لم أكن لأقرأها خارج السياق ولم تكن لتنصح بها الدكتورة نيرلي إيـمّا المشغولة بالتسوّق:ديفيد برنز من أجل بعض التمارين الذهنية، ودانيل كانمان (كنت متأكدة أن الكاتب الحائز على جائزة نوبل كان ليختصر على نفسه أشواطاً لو قرأ نيتشه)، وكتاب عن الاكتئاب والفن الحديث، إذ كان الطبيب مهتما بعلاقة ما يسمى بالاضطرابات النفسية بالإبداع، وبالحدّ الأدنى من الصحة ومن المرضالضروري للقيام بما يعتقد المريض أنه خلاصه خارج إطار العلاج.ولأنه كانمدركاًلتنوع المسمّيات والآراء في التخصصات المختلفة في العلوم والإنسانيات ولأهمية الفلسفة، ارتحت.إلا أن مسألة الأدوية بقيت إشكالية: فهي تذكّر من يحتفي بعقله بأنهمحض «مادّة» في النهاية، وبأن مفهوماً بالغ التعقيد كالسعادة قد يتعلق ولو جزئيا بحبة صغيرة تعبث بدماغه ومعنى وجوده الكبير، وتثير خوفه على ما يدعي أنه قلق أو مرض لازم للكتابة وللإحساس (المزيف ربما) بهوية شخصية قد لا تكون تطهّرت تماماً من كليشيه «المثقّف المعذّب في الأرض».حين أذعنْت، ساندني أبو الطيّب: «وأهدى الطريقين التي أتجنّبُ»، رغم أنه قبل الطبيب كان يبارك نفساً لذّتُها، كما هي لذّة بوفاري، «فيما النفوسُ تراه غاية الألمﹺ».
***
وصل الحوار بين عالمي الأدب والطب إلى ذكر بحث عن المتنبي والاكتئاب قام به أخصائي في الطب النفسي لا علاقة له بالأدب أو البلاغة أو النقد. هنا أصبحت المسألة بالنسبة ليأخطر من مسألة إيمّا بوفاري بكثير، بل أخطرمما بي مرحلياً بسببها لأني، حين تتبدد السحب، سأعود حتماً إليه لأرى أين أصبحتُ من أخمصيه، وهو ما لن تفهمه إطلاقاً أي من بطلات رواياتي الأثيرة.المتنبي، يا طبيبي العزيز، مسألة بالغة الشخصية، وأنا لا أطيق أن يقترب منه أحد من غير الممسوسين به إلى الصميم، ومن غير من عُجنَت قلوبهم وجلودهم بما قال عن ألمه العبقري العظيم. المتنبي، يا طبيبي العزيز «يجلُّ عن الملَام»، وعن التشخيص والشفقة والعلاج. فلنتركه، ونحن من كل التخصصات، كما طلب: «ذراني والفلاةَ بلا دليلﹴ/ ووجهي والهجيرَ بلا لثام»ﹺ.
تركتُ بوفاري تذهب للتسوق، وعدت أنا وقرأت البحث: «هل كان المتنبي مصاباً بالاكتئاب؟» هاتفت أبي ليشاركني السخط، وضحكت كما لم أضحك منذ شهور، «ولكنّه ضحكٌ كالبكا» كما يقول أبو الطّيب.»أبي، يريدون أن يعالجوه!» هؤلاء الذين لا يعرفون أن الشعر كله بدأ بـ»قفا نبكﹺ»، وأن بعض الغناء بكاء كما قال نزار.يريدون أن يعالجوا صديقنا من القلق والأرق والحمى والوحدة والخيبة والقهر فيمسخوه ويمسخوا خارطة شعورنا كلّها. قال لي طبيبي إنّ المتنبي لو لم يكن قتل لكان ربما انتحر. فلينتحر! إذا كانت أجمل الاستعارات وتركيبات اللغة في تاريخ الشعر مرهونة بـ»اكتئابه» فطوبى لكل الاضطرابات النفسية. ربما تحتاج إيما بوفاري إلى وصفة للأدوية المهدّئة والمضادة للاكتئاب كي لا تنتحر،لكني سأحتاج أكثر إلى ديوانه الصغير ولو رأيتُ»الموت شافيا». ما قيمة الصحة من غير الجمال المرهون أبداً بـضدّها؛ بـ»علّة» ما؟ما قيمة أن تكسب البشرية كائناً سعيداً وتخسر آخر كَتب العَجَب حين اكتأب. هذا شاعر، يا طبيبي العزيز، تعرّق بعد حمّى كما باقي البشر، لكنه ما رآه محض عرق: «إذا ما فارقَتني غسّلَتني/ كأنّا عاكفان على حَرام». من أين لكبار العلماء بل والفلاسفة مثل هذا الوصف؟ من أين لنا بـ»لغة» إذا ما عالجتموه؟ من أين لنا بالتجميل المحترف لكل آلامنا الصارخة والتافهة من طريق المتنبي وفلوبير وسواهما؟ الجمال لا يصنعه الأطباء ولا العلماء، بل الفنانون والشعراء، وهو وحده ما يستحق الحياة يا طبيبي العزيز.
حسناً، سأحاول مرونة أكبر. ربما لو زارك المتنبي وأخذ الدواء لكتب، لكن لتغيّرت بعض الاستعارات والصور من غير أن تتغير المعاني بالضرورة.قد تتغير القوافي والبحور حسب تقلبات النبض وكيمياء الدماغ وستتأثر ربّما بالنعاس والغثيان واختلال الغرائز. ربما ستتغير لغته أيضاً حين يشعر بسبب الدواء بأنه «بخير»، لكنه في جسد آخر، بروح أخرى، لكن اللغة ما تزال تشبهه، وتدل وحدها عليه وعلى من هو. هل كان ليقول: «جرحتﹺ مُجرَّحاً لم يبق فيه مكان للسيوف ولا السهام»؟ لا، لم يكن غالباً ليستخدم صيغة المبالغة «مجرَّحاً»، ولن تستخدمها كذلك فيروز للبكاء على «القصص المجرَّحة». فالألم موجود، لكن الإحساس آخر، بلا صيغة مبالغة. تسيل الدماء من الروح بلا خدوش «تجرّحها»، وذاك هو الرعب: أن تعرف أن فيك ورماً من غير عوارض جانبية، من غير تقرّح أو تشوّه أو علامات. سيحضر الألم القديم بإيقاع جديدرغم كل العلاج، فلا خوفربّما على الشعراء وأقرانهم من أن يقتل الأطباء إحساسهم العالي بكل الأشياء.
***
بوفاري تتذكررودولف، وتحنّ وتئنّ.مع ذلك فهي لاتتوجع بالطريقة المعتادة التي تتناسب مع الموقف والتاريخ ومضمون الذاكرة. كأن السكين أصبحت فجأة كاذبة كتلك التي يستخدمها الممثلون والسحرة، كأن الحقيقة غدت مجازاً. دواؤك يا عزيزي الطبيب يخدع كما الشعر، دواؤك يعزّز المجاز. لكن لا بأس، فبعض المجاز الجيد لا يلبث أن يلحق سريعاً بالحقيقة كما علّمنا كبار البلاغييّن والنحاة.
ستقول لي بعد هذا النص إنني،من وجهة نظر الطب النفسيّ، حقاً بخير،وسنخرج من عندك أنا وإيما وأبو الطيب، «نُريكَ الرضا» كما يقول، وأنفسنا ما تزال تخبّئ بحاراً عميقة من الخوف والقلق مصيرها الآدميّ الأبدي أن يحرّكها بل يهيّجها حجر. «ليت الفتى حجرُ»: يقول الشاعر، ويقدّم حلا جماليا يزيدنا هشاشة. «ليس الفتى حجرا»، يقول الطبيب، ويقدم حلاً واقعياً يحاول أن يزيدنا صلابة.وبينهما أحاول أن أتبيّن خيط هذه من تلك، وأعرف أن أيا منهما لن يظهر لي في النهاية إلاحاداً متطرفاً كعادته رغم كل المجاز.
كاتبة من الأردن
ايمان
إيمّا بوفاري وأبو الطيب المتنبّي يذهبان للعلاج
د. بلقيس الكركي*
في مشهد رائع من رواية آلان دو بوتون «مقالات في الحبّ»، تذهب بطلة رواية فلوبير (مدام بوفاري) عند طبيبة نفسيّة شهيرة في سان فرانسيسكو لتتعالج من إدمانها حبّاً يؤذيها أدّى بها في نهاية الرواية إلى الانتحار. ويسأل الكاتب، وهو بطل روايته الذي يعاني إدماناً مشابهاً، عن الفارق بين المصائر عندما يصنعها خيال الشعراء والروائيين المتشائمين، وبينها عندما تتدخل بها إيجابيّة الأطباء النفسيّين ونظرتهم الواقعية المعاصرة إلى الصحة والحياة. إن العلاقة الوثيقة جداً والمتبادلة بين الأدب وعلم النفس عبر التاريخ معروفة بالطبع، لكنها في هذا النصّ ستتعلق (أكثر من مسألة اللغة واللاوعي) بالمصائر حسبما يعلق بالخواطر نصف الواعية من مفاهيم للحياة والإنسان والسعادة والوجود.
مضحك هو المشهد. تدخل مدام بوفاري عند الدكتورة نيرلي في عيادتها، تجلس على الكنبة وتبدأ بالبكاء. تمسح أنفها بمنديل مطرّز. تقول الدكتورة: «إن البكاء تجربة إيجابيّة، لكنّني لا أعتقد أن علينا أن نمضي الدقائق الخمسين هكذا». تستمرّ بوفاري بالبكاء: «لم يكتب. لم…يكتب.» «من الذي لم يكتب يا إيما»؟ «رودولف. لم يكتب، لم يكتب. إنه لا يحبّني. أنا امرأة مدمّرة. امرأة مدمّرة مثيرة للشفقة، بائسة وطفولية.» الدكتورة: «إيمّا، لا تقولي هذا، قلت لك سابقاً: لا بد أن تتعلمي أن تحبّي نفسك.» «لماذا أجازف وأحبّ أحداً بهذا الغباء؟» «لأنّك إنسانة جميلة. ولأنّك لا تريَن أنك مدمنة على الرجال الذين يسببون لك ألماً نفسياً». «لكنه كان جميلاً جداً وقتها». «ما هو؟» «أن أكون هناك، وهو قربي، أمارس الحب معه، أشعر بجلده قرب جلدي، نركب الخيل في الغابات. شعرت بأني حقيقيّة جداً، حية جداً، والآن حياتي حطام.» «ربما شعرت بأنّك حيّة، لكن لأنك كنت تعلمين بأن ذلك لن يستمرّ، وأن هذا الرجل لا يحبّك حقاً. أنت تكرهين زوجك لأنّه يستمع لكل ما تقولينه، لكنك لا تستطيعين منع نفسك من الوقوع في حب نوع من الرجال يستغرق أسبوعين للإجابة عن رسالة. بصراحة يا إيما، إن نظرتك للحبّ فيها دليل على المازوشية والوسواس القهري.» «حقاً؟ ما الذي أعرفه أنا؟ أنا لا أبالي إذا كان كلّه مرضاً، كلّ ما أريده هو أن أقبّله مرّة أخرى، بأن أحسّ به وهو يضمّني بين ذراعيه، أن أشمّ رائحة جلده.» «لا بدّ أن تبدئي ببذل جهد للنظر إلى داخل نفسك، لإعادة التفكير في طفولتك، ومن ثم ربّما ستدركين أنك لا تستحقّين كل هذا الألم. إن الأمر مرتبط فقط بأنك نشأت في عائلة مختلة لم تشبع حاجاتك العاطفية ولذلك علقت في هذا النسق.» «لقد كان أبي مزارعاً بسيطاً.» «ربما، ولكنه لم يكن يُعتَمَد عليه عاطفيّاً، والآن صرت تستجيبين لذلك بأن تحاولي إشباع حاجاتك بالوقوع في حب رجل لا يستطيع أن يمنحك ما تريدين حقاً.» إن ّتشارلز (زوجها) هو المشكلة، وليس رودولف.» «حسناً، عزيزتي، سنخوض في ذلك الأسبوع القادم. كدنا نصل إلى نهاية الجلسة.» أخبرتها بوفاري، للمرّة الثالثة، بأنّها لن تتمكن من الدفع، لأنها من شدة تعاستها أخذت تصرف مالها في التسوق، وأنها اليوم قد ابتاعت ثلاثة فساتين جديدة، كشتباناً ملوّناً، وطقمَ شاي صينيّ.
من الصعب، كما يتابع الكاتب، تخيّلَ نهاية سعيدة لعلاج إيما بوفاري، أو نهاية سعيدة لحياتها. فالأمر يتطلب شخصاً يتسم بالـ»وضعيّة الرومانسية»(romantic positivism) ليصدّق أن الدكتورة نيرلي من الممكن أن تحوّل إيما بوفاري من بطلة رواية تراجيدية تنتحر في النهاية إلى زوجة متكيّفة، غير مهووسة ومعطاءة، مما كان ليحوّل رواية فلوبير الخالدة إلى حكاية متفائلة حول «الخلاص من خلال معرفة الذات». يتابع الكاتب: «إن وعينا بجنون الحبّ لم ينقذ أيّاً منا من المرض (…) وربما مفهوم الحبّ الحكيم الذي بلا ألم ينضوي على تناقض وليس له وجود.» كان فلوبير، بالمناسبة، واعياً جداً لهذه المسألة، وكان قد جرّب نهاية غير مأساوية لروايته الأخرى «التربية العاطفية»، يحصل فيها فريدريك على حبيبته المتزوجة مدام آرنو ويهربان إلى نيويورك. لم يستطع إلا تخيّل حياة مليئة بالـضجر، رغم أنها ستكون»صحية» بمفهوم الطب النفسي، فغيّر النهاية إلى أخرى مأساوية، يلحق فيها فريدريك إدمانه على وهم ما، يهرب منه حين يأتيه متأخراً في الواقع، ويبقى وحيداً جداً في آخر حياته.
***
لم تكن إيما بوفاري حسب الرواية تمتلك ثقافة حقيقية باستثناء ما توافر لها من بعض الروايات الرومانسية الساذجة والمجلات. ولو اختلف الأمر، أي لو كان ما تعلّق بخاطر مريضة مثلها مزيج من الفكر والفن والتجربة أكثر عمقاً وتنوعاًولذا فهو لا يستقر على شكل بل يتغير باستمرار بتغيّر ما يطرأ على العقل والحواس فيعبث بلا رحمة بالمشاعر والرغبات ويزيدها تناقضاً حد التباس الأسماء والصفات، فإن الطبيب النفسي سيكون على موعد مع «مريضة» لا تفهم لغته الواضحة المرتبة أو تدعي غربة عنها، ولا تريد غالباً أن تتعالج خوفاً على هويتها من التشابه والثبات. وإذا كانت قد أمضت عمرها مهووسة بتراجيديات الرواية والمسرح وتعقيدات الشعر ومفاهيم الفلسفة وتشبّعت حتى السأم بما كتبه فوكو عن السلطة وتحوّلها من سلطة القسيس إلى سلطة الطبيب النفسي فيما يخص امتلاك الحل والحقيقة، وعن تاريخ الجنون وعن وعن.. وصولاً إلى هذا المشهد من رواية قرأَتها عرضاً ومع ذلك، عند مواجهة الواقع، قد لا تنفعها ثقافتها شيئاً بل قد يخونها جسدها وأعصابها حد الانهيار وحد زيارة الطبيب مرغمة، فإنّ الأخير سيكون على موعد مع كائن خائف من الاعتراف؛ الاعتراف بأنه بشر من محض لحم ودم لم تستطع كل الأفكار والكلمات أن تحميه (رغم أنها أنذرته) من عواقب الإدمان على أقاصي الأشياء، أفكاراً وأحاسيس، إذ طالما استهتر بالثمن إلى أن أصبحت جرعة الألم المصاحبة للذّة أكبر من أن تحتمل، وإلى أن أصبح مجرداً من كل سلطة وأغلاها تلك التي على نفسه، تماماً كإيما بوفاري.
***
قد تكون مغرية فكرة كتابة نص مدافع عن عالم الأدب يدين عالم الطبّ النفسي المعاصر واختزالاته تحت تأثير هذا المشهد. هذا ما كنت أنويه،لكن الصدفة كانت أقوى مني، إذ هربت إيما بوفاري من الروايتين إليّ في عالم الواقع لتجعلني أعيد تمثيل مشهد دوبوتون مكانها وبحضورها فيّ.ورغم تشابه طفيف في أسباب زيارة الطبيب، إلى أن المشهد قد يكون أقلّ إثارة للسخرية بكثير بسبب الاختلاف؛ إذ لم يكن الطبيب المرموقيشبه الدكتورة نيرلي، كما أنّني لا أشبه إيما بوفاري مهما نازعتني عليّ. لم يكن ينطلق من جملة يقينيات باردة في تخصصه بل يبارك مبدأ الاحتمالات، ولم أكن أنا لأختصر معنى الوجود في الحبّ وحده، رغم أنني أفهم إيما وآنا كارنينا وأحس بهما ومثلهما أحياناً مهما حاولَت سيمون دو بوفوار أن تعالجني من أمراض التاريخ وهي التي بالكاد عالجت نفسها كما تكشف مذكراتها.
بعد أن استبعدالطبيب في المشهد المتخيّل أية نية لديّ مشابهة لنية إيما في الانتحار – كيف وأنا أدّعي خبرة لا بأس بها في آراء لا تنتهي حول «ما يستحقّ الحياة»، كما أنّني أدرك أن فيرجينيا وولف وسيلفيا بلاث لم تنتحرا قبل عمر من الكتابة.بعد الاستبعاد والاتفاق على أرض لغوية مشتركة وبعد بكاء سريع في مناديل «ورقية» غير مطرّزة، بدأتحواراتأفضت إلى كتب لم أكن لأقرأها خارج السياق ولم تكن لتنصح بها الدكتورة نيرلي إيـمّا المشغولة بالتسوّق:ديفيد برنز من أجل بعض التمارين الذهنية، ودانيل كانمان (كنت متأكدة أن الكاتب الحائز على جائزة نوبل كان ليختصر على نفسه أشواطاً لو قرأ نيتشه)، وكتاب عن الاكتئاب والفن الحديث، إذ كان الطبيب مهتما بعلاقة ما يسمى بالاضطرابات النفسية بالإبداع، وبالحدّ الأدنى من الصحة ومن المرضالضروري للقيام بما يعتقد المريض أنه خلاصه خارج إطار العلاج.ولأنه كانمدركاًلتنوع المسمّيات والآراء في التخصصات المختلفة في العلوم والإنسانيات ولأهمية الفلسفة، ارتحت.إلا أن مسألة الأدوية بقيت إشكالية: فهي تذكّر من يحتفي بعقله بأنهمحض «مادّة» في النهاية، وبأن مفهوماً بالغ التعقيد كالسعادة قد يتعلق ولو جزئيا بحبة صغيرة تعبث بدماغه ومعنى وجوده الكبير، وتثير خوفه على ما يدعي أنه قلق أو مرض لازم للكتابة وللإحساس (المزيف ربما) بهوية شخصية قد لا تكون تطهّرت تماماً من كليشيه «المثقّف المعذّب في الأرض».حين أذعنْت، ساندني أبو الطيّب: «وأهدى الطريقين التي أتجنّبُ»، رغم أنه قبل الطبيب كان يبارك نفساً لذّتُها، كما هي لذّة بوفاري، «فيما النفوسُ تراه غاية الألمﹺ».
***
وصل الحوار بين عالمي الأدب والطب إلى ذكر بحث عن المتنبي والاكتئاب قام به أخصائي في الطب النفسي لا علاقة له بالأدب أو البلاغة أو النقد. هنا أصبحت المسألة بالنسبة ليأخطر من مسألة إيمّا بوفاري بكثير، بل أخطرمما بي مرحلياً بسببها لأني، حين تتبدد السحب، سأعود حتماً إليه لأرى أين أصبحتُ من أخمصيه، وهو ما لن تفهمه إطلاقاً أي من بطلات رواياتي الأثيرة.المتنبي، يا طبيبي العزيز، مسألة بالغة الشخصية، وأنا لا أطيق أن يقترب منه أحد من غير الممسوسين به إلى الصميم، ومن غير من عُجنَت قلوبهم وجلودهم بما قال عن ألمه العبقري العظيم. المتنبي، يا طبيبي العزيز «يجلُّ عن الملَام»، وعن التشخيص والشفقة والعلاج. فلنتركه، ونحن من كل التخصصات، كما طلب: «ذراني والفلاةَ بلا دليلﹴ/ ووجهي والهجيرَ بلا لثام»ﹺ.
تركتُ بوفاري تذهب للتسوق، وعدت أنا وقرأت البحث: «هل كان المتنبي مصاباً بالاكتئاب؟» هاتفت أبي ليشاركني السخط، وضحكت كما لم أضحك منذ شهور، «ولكنّه ضحكٌ كالبكا» كما يقول أبو الطّيب.»أبي، يريدون أن يعالجوه!» هؤلاء الذين لا يعرفون أن الشعر كله بدأ بـ»قفا نبكﹺ»، وأن بعض الغناء بكاء كما قال نزار.يريدون أن يعالجوا صديقنا من القلق والأرق والحمى والوحدة والخيبة والقهر فيمسخوه ويمسخوا خارطة شعورنا كلّها. قال لي طبيبي إنّ المتنبي لو لم يكن قتل لكان ربما انتحر. فلينتحر! إذا كانت أجمل الاستعارات وتركيبات اللغة في تاريخ الشعر مرهونة بـ»اكتئابه» فطوبى لكل الاضطرابات النفسية. ربما تحتاج إيما بوفاري إلى وصفة للأدوية المهدّئة والمضادة للاكتئاب كي لا تنتحر،لكني سأحتاج أكثر إلى ديوانه الصغير ولو رأيتُ»الموت شافيا». ما قيمة الصحة من غير الجمال المرهون أبداً بـضدّها؛ بـ»علّة» ما؟ما قيمة أن تكسب البشرية كائناً سعيداً وتخسر آخر كَتب العَجَب حين اكتأب. هذا شاعر، يا طبيبي العزيز، تعرّق بعد حمّى كما باقي البشر، لكنه ما رآه محض عرق: «إذا ما فارقَتني غسّلَتني/ كأنّا عاكفان على حَرام». من أين لكبار العلماء بل والفلاسفة مثل هذا الوصف؟ من أين لنا بـ»لغة» إذا ما عالجتموه؟ من أين لنا بالتجميل المحترف لكل آلامنا الصارخة والتافهة من طريق المتنبي وفلوبير وسواهما؟ الجمال لا يصنعه الأطباء ولا العلماء، بل الفنانون والشعراء، وهو وحده ما يستحق الحياة يا طبيبي العزيز.
حسناً، سأحاول مرونة أكبر. ربما لو زارك المتنبي وأخذ الدواء لكتب، لكن لتغيّرت بعض الاستعارات والصور من غير أن تتغير المعاني بالضرورة.قد تتغير القوافي والبحور حسب تقلبات النبض وكيمياء الدماغ وستتأثر ربّما بالنعاس والغثيان واختلال الغرائز. ربما ستتغير لغته أيضاً حين يشعر بسبب الدواء بأنه «بخير»، لكنه في جسد آخر، بروح أخرى، لكن اللغة ما تزال تشبهه، وتدل وحدها عليه وعلى من هو. هل كان ليقول: «جرحتﹺ مُجرَّحاً لم يبق فيه مكان للسيوف ولا السهام»؟ لا، لم يكن غالباً ليستخدم صيغة المبالغة «مجرَّحاً»، ولن تستخدمها كذلك فيروز للبكاء على «القصص المجرَّحة». فالألم موجود، لكن الإحساس آخر، بلا صيغة مبالغة. تسيل الدماء من الروح بلا خدوش «تجرّحها»، وذاك هو الرعب: أن تعرف أن فيك ورماً من غير عوارض جانبية، من غير تقرّح أو تشوّه أو علامات. سيحضر الألم القديم بإيقاع جديدرغم كل العلاج، فلا خوفربّما على الشعراء وأقرانهم من أن يقتل الأطباء إحساسهم العالي بكل الأشياء.
***
بوفاري تتذكررودولف، وتحنّ وتئنّ.مع ذلك فهي لاتتوجع بالطريقة المعتادة التي تتناسب مع الموقف والتاريخ ومضمون الذاكرة. كأن السكين أصبحت فجأة كاذبة كتلك التي يستخدمها الممثلون والسحرة، كأن الحقيقة غدت مجازاً. دواؤك يا عزيزي الطبيب يخدع كما الشعر، دواؤك يعزّز المجاز. لكن لا بأس، فبعض المجاز الجيد لا يلبث أن يلحق سريعاً بالحقيقة كما علّمنا كبار البلاغييّن والنحاة.
ستقول لي بعد هذا النص إنني،من وجهة نظر الطب النفسيّ، حقاً بخير،وسنخرج من عندك أنا وإيما وأبو الطيب، «نُريكَ الرضا» كما يقول، وأنفسنا ما تزال تخبّئ بحاراً عميقة من الخوف والقلق مصيرها الآدميّ الأبدي أن يحرّكها بل يهيّجها حجر. «ليت الفتى حجرُ»: يقول الشاعر، ويقدّم حلا جماليا يزيدنا هشاشة. «ليس الفتى حجرا»، يقول الطبيب، ويقدم حلاً واقعياً يحاول أن يزيدنا صلابة.وبينهما أحاول أن أتبيّن خيط هذه من تلك، وأعرف أن أيا منهما لن يظهر لي في النهاية إلاحاداً متطرفاً كعادته رغم كل المجاز.
كاتبة من الأردن
خيري منصور