...(1) ...
نهاية الدراسة هي نهاية رحلة جل أبناء مقاطعة مقطع لحجار مع العاصمة ، فعندهم أن الحياة و الاستمتاع بها لا يصح إلا تلك الربوع .
الرحلة إلى مقطع لحجار هذه الأيام من العاصمة محفوفة بالكثير من المخاطر ، فالطريق الرابط بين ألاك و أبي تلميت تحول إلى مغامرة سباق في الحفر و الأحراش و الغبار الشديد ، و رياضة لاختبار قوة السيارات، و أصبح وسيلة لطمس بهائها و ترهيل مفاصلها، و تسريعها إلى عالم الخردوات.
أجريت عملية مقارنة سريعة ، بين الطريق المعتادة و الطريق الجنوبية الذي يمر بروصو و بوكي و ألاك، فقررت اختيار الثانية ، ففيها "الحج و الزيارة" ، لأنها حديثة الإنشاء لا زالت بكرا ، و لأن المناظر هناك استكشاف بالنسبة لي ، فكلما أعرف عنها هي قصص و انطباعات و صور و مواقع على الخريطة .
مخر عباب اترارزة رحلة متعددة الأزمان ، فهناك تاريخ حافل بالملاحم، فمن هنا كان المخاض الذي تشكلت منهم موريتانيا ما بعد المرابطين، و من هنا كان انطلاقة موريتانيا الدولة الحديثة ، و من هنا كانت أغلب الروافد التي روت نهم المتعلمين للغة العربية و الأدب و التاريخ.
و من هنا كانت نشأة و انتشار الشعر الشنقيطي الذي ذاع صيته و ذاع صيت موريتانيا به ، و على هذه الرقعة تزاحم العباد و النساك و العلماء و فرسان مغفر ، و المحاظر و زوايا الصوفية ، كل و ديدنه.
و على أديم هذه الأرض تحولت الكلمات إلى نصال، و أصبحت البلاغة سمة النخبة ، و الوقار صفة الطبقة العالمة..
اعتاد سكان اترارزة أن يصدروا لنا المفاهيم ، و أن يقدموا أنفسهم نموذجا في العلم و الشعر و اللغة و بلاغة القول و عمق التعبير و هدوء الطبع و التعقل ..
لملمت أشيائي بسرعة و أخذت التموينات اللازمة للرحلة ، و انطلقت على طريق روصو ، و لعلها المرة الأولى التي أمر بها على طريق الرياض في وضح النهار .
....(2)....
الطريق إلى روصو موحش جدا ، فلا حركة للناس و لا المواشي ، و أنيسك فيه هو السيارات ، و صور التاريخ التي تتلاحق ، و الإبحار في حضارة المنطقة التي فرضت نفسها نموذجا ، في الكثير من جوانبها ، على الموريتانيين .
لاحظت أن القرى و التجمعات لا تحمل أسماء ، و لعله جزء من الغموض الذي يرمي به الناس سكان المنطقة ، و كنت اعتدت على طريق الأمل، و أن التجمعات و حتى البيوتات تحمل كل واحدة منها اسما على الأقل ، حسب عدد النزاعات على الأرض، و ربما كانت أماكن في الحجاز أو فلسطين أو العراق ، و ربما مسميات موروثة أغلبها أمازيغي، لكن بداية طريق روصو خالية من التسميات رغم تعدد الأماكن .
لاحظت غياب "التطاول في البنيان" و تلك المنازل الفخمة المترامية على جنبات الطرق ، و هي سنة سائدة في العديد من مناطق موريتانيا، لأن صاحبها يريد إثبات وجود و برهان تأثير، و ربما هي تمرد على واقع ، و ربما يفسر غيابها هنا أيضا أن كون أبناء اترارزة من أكثر الموريتانيين إيمانا بالدولة و أقلها فسادا ، فلم ينهبوا موريتانيا عندما حكموها ، و لم يشاركوا بدرجة كبيرة في نهبها عندما أصبحت شاة بفيفاء في العهود الاستثنائية ، رغم مبالغة بعض نخبتهم في إظهار الدعم و الولاء لكافة الأنظمة..
عرفت مدينة "تكنت" من وصفها ، و قد أصبحت ذات طابع حضاري يضاهي العديد من مناطق العاصمة ، و بها حركية تجارية و سياحية لا بأس بها ، و كلمة "تكنت" هي تسمية حرف أحرف التهجي، تقال للهمزة على السطر ، و هي تسميات اختفت عند مدرسي المحاظر الجدد ، و منها (هذوت: ه) و (التذوت: ة)و (اللم بركبة) ، و (اللم بواكراع) ، و (اللم أعرك) ، و غيرها ، و كان الهدف منها هو وصف جميع حالات كتابة الحروف ..
تتفرع عن الطرق عند "تكند" طريق متوجهة إلى المذرذرة و اركيز ، و لست أعرف المنطقة إلى سماعا ، و ملء الاسماع، أعلم أن حضارة أكيدي و لعكل تمتد من تلك المنطقة باتجاه أبي تلميت .
...(3)....
مررت بتضاريس مختلفة ، فهي تارة تحاكي كثبان أبي تلميت ، و تارة سهول ألاك ، و تارة سهول آفطوط ، و تارة تخلط بين هذا و ذاك .
وحدها "امبلل" تعلن عن نفسها ، و تأخذك على حين غرة لتحيلك إلى ملحمة تاريخية مفعمة بالعطاء و البطولات، فيمكنك هنا زيارة جزيرة "تيدرة" ، و المغرب الأقصى و الأندلس و تخوم إفريقيا الوسطى ، و القرن الإفريقي ، و يمكنك أن تسافر على ظهور العيس، كما على ظهور الجياد ، و لن تجد كبير عناء في الملاءمة بين الزناد و القلم، و التمتع ب "عراي اسروزي" و "التبتل" في آخر السحر، فالناس هنا يحملون هم كل هذه الأرض، فهم من أسس الرباط، و هم نشروا المحجة البيضاء ، و هم من غرس الشهامة و الإباء و عزة النفس في هذه الربوع ...
ما كانت جزيرة "تيدرة" لتباع لأمير و لا ملك ، و ما كان من سيعمرها سيهنأ بالعيش فيها لأنها تاريخ أمة ..
على الطريق ، و بعد أن بدأت غمامات الغموض تخف ، و أصبحنا نتنفس رائحة توابل السنغال ، هناك أسماء عرفتها في الشعر الحساني منها: "انولكي" ، حين يقول الشاعر :
طرحت تيكماطين
و طرحت سيد أحمد زين
موسم فالبال أمـــــــتين
وأنـْوَلـْكي واعلابو
شتـَّي فيهم مســــــكين
ذا البال اعلى بابو
اوغرسو فيه اللــيعات
او زهزاوه فاترابو
هاذو هوما طرحـــات
مولانا واعلابـــــو
و منها (فم العايدي) ، حين يقول الشاعر :
ال ماهو فم العايدي
ماني لوعيدو ساعي
ما عيني في و لا ايدي
فيه و لا فيه اكراعي
ظاهرة أسفت لها على هذا الخط و هي انتشار أشجار الكهبل(لمحاده) ، و هي إحدى الرسائل غير الودية التي قدم لنا الرجل الأبيض كهدية ، فهي رغم جمال خضرتها، آفة على الشجر و النبات و المياه . فالأحزمة الخضراء التي نغتر بها وباء على أشجارنا الطبيعية و أرضنا الخصبة ..
لكن النخلة حاضرة ، و لعلها رسالة تواصل مع آدرار و ذكرى قرية (تنيكي)، و لعصابة حيث تعانق النخل في سمائها مع همم أبنائها الشم الضياغم ..
...(4) ....
قبل روصو هناك طريق متفرعة إلى كرمسين ، أو(مسين) كما يحلو للبعض تسميتها ، و صورة (مسين) في الاذهان هي صورة (بيجل) و ما تحمله من عنفوان و رجولة و صدق و وفاء ، فبيجل هو الرجل الأسمر الذي يحترمه كل الموريتانيين، و هو الذي كسر الحواجز الاجتماعية و تموقع بخصاله و قوته على الكرسي الذي يريده ، و ما يعجبني في الرجل إيمانه بوحدة البلد و عدم استعداده للحديث عن لحراطين كقومية أو هوية حضارية، فكل المتكلمين بالحسانية بالنسبة له هم مكون واحد ، و كل فرد منهم يدعي أو يثبت النسب الذي يريد ، لكنها نفس اللغة و نفس الدين و نفس المأكل و المشرب و نفس الأذواق في الطبخ و الفن و البحث عن الرفاهية ، و نفس التقاليد و القيم ، بل إن الألوان لا تميز بينهم ، خاصة في (الخالفة الكحلة) ...
تشكل روصو و كرمسين وحدة حضارية متشابهة من حيث نمط العيش و اللغة، و من حيث التعاطي و التفاهم مع الآخر ، و تختلف جذريا عن حضارة (إكيدي) من حيث التعبير و نمط التعامل ..
روصو مدينة كبيرة و عامرة ، و هي المعبر نحو السنغال، و هي مركز تجاري ضخم، و عالم ممتزج يعطي صورة مصغرة عن الوطن من حيث تعدد المعطيات الثقافية و اللغوية ، و تنقسم إلى قسمين، قسم شمالي يعبر عن شمال البلاد و شرقها بسحنته و لغته و نمط عيشه ، و قسم جنوبي يعبر عن الضفة بكل تجلياتها..
قبل روصو ب 12 كيلومتر تبدأ مظاهر (شمامة) بسهولها الخضراء الشاسعة ، و اشجارها، و سواقيها، و هي نفس المظاهرة المبهرة التي تمتد شرقا في اتجاه بوكي ، فعندما تحاوزنا المدينة مشرفين، وجدنا كم أن شمامة مبهرة بالأشجار الضخمة و الجسور و الأبقار البيضاء و الطيور و روافد النهر المترعة بالمياه ، و المساحات الخضراء التي تمتد إلى الأفق ...
...(5).....
على الطريق الرابط بين روصو بوكي شعرت بمزيج من الغبطة و الألم. الغبطة لأن ضفاف النهر بهذه الشساعة و السحر ، و الجمال الأخاذ، و الألم لأن هذه المساحات الشاسعة و الخصبة ، و هذه الروافد المتدفقة كانت لتغنينا عن الصدقات و الديون، و كانت لتوقف رحلات الشخذ و الاستلطاف، و عن شروط النقد الدولي و بنكه، و عن شاحنات المغرب و السنغال و مالي المحملة بالخضروات و الفواكه ، لو تم استغلالها بطريقة عصرية ..
في هذا المساحات الخضراء المرضعة للأبقار البيضاء و الطيور ، و العربات و الخيول ، و الرجل الفلاني المتمسك بأصالته و قيمه و ثوابته ، و وفائه و صدقه . هنا حيث تمتزج حضارة الفوتا و مغفر و صنهاجة، و تختلط المفاهيم و تذوب الخصوصيات أمام اللحمة و إرادة الانصهار..
طريق بوكي جميل جدا و ساحر جدا ، و باستطاعته توفير كل الحاجات الغذائية للبلد ، لكن (الملثم) لا زال لكسله و حبه لذاته ، و غياب مفهوم الأمة و الدولة يفضل المراوغة و الاحتيال ، و يسعى للكسب بأقصى الطرق و لو كانت توجب قطع الأيمان، و الرجل الفلاني هو الأكثر وطنية و الأكثر ارتباطا بالارض و الأكثر مدنية و مهنية و الأقل فسادا ، وحده الرجل الادمن يخرب كل الخطط و البرامج بنهمه و شغفه للفوضى.
المراعي التي مررت بها تكفي لأي صيف قادم ، لو تمت المحافظة عليها ، و تم تسييرها بعقلانية . و الأراضي التي عبرت تحتاج لعصرنة الزراعية و حماية المنتوج و تسويقه بطريقة ترضي المنتجين ..
لم تتح لي فرصة اختراق بوكي لأن التوجه لألاك شمال مدخلها، و طريق الاك - بوكي أصبحت مأهولة و بها مدن و قرى كبيرة، فقد أصبحت متنفس العاصمة في الخريف، لجمالها و توفر أعداد كبيرة من الأبقار و الإبل ، و كذا المناظر الخلابة و المنتزهات الجميلة ..
على الطريق أسماء معروفة ، مثل الطنطان و علب أجمل و بواحديدة ، و بيوتات متناثرة تحكي فوضى الرجل الأدخن، و عدم قدرته على التخطيط و الاستشراف .
عن كرفور ألاك تشعر و كأنك عدت من الغربة ، و يعود ذهنك للروتين الذي عرفت به الطريق حتى المقاطعة ..
استغرقت الرحلة سبع ساعات ، لكنها كانت ممتعة و مريحة ، إضافة إلى أن اليابانية لم تتعرض لأذى، و لم تجبر على الالعاب البهلوانية بين بوتلميت و ألاك...