كان آخر مشهد رأيته (عمر) وهو يلعب ضحى بالمنزل، أذكر أنه كان يلبس قميصا أبيض وسروالا قصيرا مخططا... بهذا بدأ "الشيخ ولد صمب" سرد تفاصيل قصته الحزينة مع المرض الذي أفقده حبيبته.
إنه عسكري متقاعد، في الهندسة العسكرية، تشير أوراقه الثبوتية إلى أنه من مواليد 1966 بمقاطعة كرمسين، أب لثمانية أبناء، اختار لهم أسماء جميلة تنم عن إيمان قوي: محمد، عمر، عثمان، الزهرة، أم الفضل .
يقطن "ولد صمبه" في مقاطعة توجنين، في حي شعبي حديث العهد بالتخطيط..يصعب الوصول لمسكنه بسبب وعورة الطريق.
في غرفة صغيرة، نوافذها ضيقة، وطلاؤها باهت، تتكدس في زاوية منها أغطية وملابس مستعملة، يجلس الشيخ مع صغيره (عثمان) ويقول إنه يحتفظ ببقايا صور مشوشة لملامح وجهه المدور..
يُرهف "ولد صمبه" سمعه، لصوت ينبعث من مذياع عتيق، أهداه له أحد جيرانه الطيبين، تتساقط حبات السُبحة بين أصابعه وهو يُناجي ربه بأذكار وأدعية مسائية..
يفرغ من أوراده..فيبدأ الحديث عن رحلته إلى الشمال..حيث رافق بعثة قادمة من "النرويج" تعمل في نزع الألغام، في حديثه حنين جارف لتلك الأيام، وشعور بالزهو: "كنت أفدي الأبرياء، وأزرع الأمل في صحراء قاحلة يتحول هدوءها في بعض الأحيان إلى عاصفة" .
(عَين بنتيلي، حَاسِي لُوبَرْ، اخْنَكْ لَجْوَادْ) أماكن نائية من وطني الحبيب، كان لي الشرف في تطهيرها من الألغام.
تبلغ درجات الحرارة في هذه المنطقة معدلات مرتفعة، وقد تسببت لي في صداع شديد، لم تنفع معه الأقراص المهدئة ولا كؤؤس الشاي المعتق، ولا العلاج التقليدي.
كنت مُضطرا للذهاب إلى العاصمة، فقد جربت أنواعا متعددة من العلاجات، فشلت كلها في القضاء على الصداع العنيد..بعد ماراتون طويل من الفحوصات، كان وقع النتيجة صادما ـ قالها بمرارةـ أخبرني الطبيب أنني مصاب بـ "ضغط العين" وأنه لا أمل في الشفاء بعد أن استفحل المرض.
أصبت بصدمة كبيرة..علمت أنني بعد فترة وجيزة سأنضم لعالم العُميان ..بدأت الرؤية تتناقص بدرجة كبيرة، لم يكن أمامي إلا الرضا بالقدر، وتخيل الواقع بدل الإحساس بالرؤية .
يقضي أغلب وقته في الاستماع للمحاضرات الدينية عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، وتمنى أن يصل صدى معاناته أصحاب القلوب الرحيمة ليعينوه على دهر "قلب له ظهر المجن" فأصبح رهين المحبسين (الفقر والعمى) .
سألناه كيف يتدبر معيشته فرد علينا بقوله: " لولا مساعدة الجيران من المحسنين لعجزت عن توفير الضروريات.
علمنا أن "ولد صمبه" يُعيل أسرة كبيرة العدد ولا دخل له سوى تعويض تقاعدي ضئيل يسدد له كل 3 أشهر .
فجأة تقطع حديثنا زوجته (عائشة) وهي شابة في عقدها الثالث..تَرتسم على وجهها ملامح حزن عميق، تُحدثنا عن المعاناة التي سببها فقد الزوج لعمله وبصره، وتضيف بمرارة تخنقها العبرات: "لقد فرضت على هذه الظروف البحث عن عمل لمساعدة زوجي على تحمل أعباء الأسرة"
عملت صباغة للثياب.. كانت مهنة شاقة تتطلب الخروج باكرا.. ودخول معمعة النقل الحضري في العاصمة من بوابة "الحافلة القديمة" في رحلة طويلة ومعقدة .. تتحمل الصبر على المواد الكيماوية بروائحها الخطيرة.. قالت إنها تسببت لها في نوبات من الربو والحساسية الجلدية .
في المساء تعود أدراجها، بعد يوم شاق ورحلة أكثر تعقيدا، تسبقها معركة البحث عن حافلة وكثيرا ما تضطر للسير راجلة إلى ملتقى " مدريد"
صَبُر عائشة لا ينفد هنا، حيث تدلف مباشرة إلى المطبخ لتحضر العَشاء إيذانا بولوج بوابة الهم الأسري مرورا بغسيل الملابس وترتيب أمور المنزل.
كنت مهموما لحاله؛ بذلت جهودا لظهوره في برامج تلفزيونية تعنى بمثل هذه الحالات الإنسانية..في انتظار فرصة قادمة يبقى مصدر رزقه ما تجود به المحسنون.
ما أقسى الشعور بالموت بعد الحياة ..وأقسى الإحساس بظلمة العمى بعد الإبصار..والأمر من ذلك كله الإحساس بالضياع في وطن كنت تفديه بنفسك وبصرك.
محمد ولد سيدناعمر/ كاتب صحفي