بقلم محمدُّ سالم ابن جدُّ
عرفت الاستقلال في العاشرة من عمري، وفي شبابي عرفت الاستغلال وكنت أعجب من توفيق ناطقيه غينا، وكيف جاء الصواب من حيث لا يُنتظر!
كان عام 1973 عامي الأول بالعاصمة، فسمعت بعيد الاستقلال وشهدت الاحتفال به أول مرة في حياتي، ورأيت الأعلام محمولة فسعيت للحصول على أحدها ولما عزني قطعت ورقة من دفتري وانتضيت قلمي الأحمر فرسمت به هلالا ونجما عليها، وألصقتها على قضيب حديدي فصار لي علم كما لهم أعلام وتجولت به رافعا إياه مزهوا بإنجازي، دون أن أرى فرقا بين علمي الأبيض المسطر ذي الهلال والنجم الأحمرين وبين الأعلام الخضراء ذوات الهلال والنجم الأصفرين! وأمضيت وقتا أعاني لبسا بين الاحتفال والاستقلال.
اتخذتُ هياكل السيارات المهملة منابر شدوت عليها:
"يموريتان اعليك ** امبارك الاستقلال"
كما يشدو الحمام على الغصون، وطربت لصوتي ولا أرى الحمائم تطرب لأصواتها.
قبيل بلوغي كر ضباط من الجيش على الحكم ورأوه غنيمة باردة فاختفى عيد الاستقلال أمام أبهة العاشر من يوليو ثم تضاءل هذا أمام 12/12 بل أمام عيد المرأة وعيد الشجرة.. فكاد الناس ينسون عيد استقلالهم فترة من الزمن لحجبه بالغطاءين المموهين.
مع كل ذلك فلم يكن يوم الاثنين الثامن من جمادى الآخرة سنة 1380هـ (28 /11/ 1960م) يوما عاديا، كما لم يكن الآباء المؤسسون أشخاصا عاديين، ولا جهدهم بسيطا، لاعتبارات يصعب أن تنحصر "ولكني على بعضها أقتصر"..
1. جمع شمل سكان أرض مترامية الأطراف تباينت أصولهم البشرية وأهواؤهم وتصوراتهم.. وعَمَّق الشرخَ بينهم اختلاف تاريخي في الانتماءات الإدارية. والأهم أنهم لم يخضعوا لكيان مؤسسي موحد منذ انتهاء الدولة المرابطية.
2. كان فرصة لتسليم المفاتيح إلى أصحاب البيت الأصليين ورحيل المحتل الدخيل؛ وهو رحيل يستحق الثمن الباهظ الذي كلفه، ولا يهونه إدخال المحتل من النافذة منذ نهاية القرن 20م.
3. استفاد منه من لم يصنعه ولم يبذل جهدا في سبيله قبل من ضحى وفكر وناضل في سبيله.
4. أعلن المواطنين الموريتانيين أشخاصا كاملي الأهلية دون ضغط أو مطالبة، لا يريد جزاء ولا شكورا من أحد؛ ممهدا لإنهاء الحالة السابقة التي جعلت بعضهم أشخاصا وبعضهم أشياء!
5. أوجد دولة وسيادة وسمعة طيبة لشعب بدوي عاش كل تاريخه شيعا وقبائل متنازعة في الغالب الأعم.
6. عاش أبطاله كما يعيش البشر ورحلوا فقراء، وتجرعوا الظلم والغدر واللؤم وإنكار جميلهم في حياتهم دون أن يكون الكفر مخبثة لنفوسهم.
7. ظل يوما عظيما حتى باعتراف منكري جميله من حيث لا يشعرون! فما زال صانعوه إلى اليوم معيارا يستخدمه الخصم لتقويم عمله، ويتحامل عليهم المتسلق لإقناع ذاته بذاته. ولا يرضى لنفسه قِرنا آخر؛ حتى وهو يرى نفسه حيا وهم بين يدي ربهم!
8. ظلت معاول الهدم والتخريب الداخلية والخارجية تعمل في هذا الوطن وساكنيه منذ 42 سنة، ومع ذلك ظل هذا اليوم شامخا عصيا على التقزيم والطمس.. ولا عجب؛ فالفئران لا تقوى على قرض القمر.