بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة "الأقصى"
طالما فرح العلمانيون -منافقوا أمتنا المعاصرون إن لم يكن كلهم فبعضهم-، بسقوط تجربة الإخوان المسلمين في حكم مصر، من خلال الانقلاب على مرسي حفظه الله وفك أسره، واعتبروا ذلك سقوطا وتعثرا كاملا للربيع العربي، الذي أعطى الأمل، بحكم إسلامي تشاركي، تندمج فيه كل القوى الوطنية، بمن فيها العلمانيون أنفسهم، والذين يرفضون ربط الدين بالسياسة، وهو خطأ عقدي صرف جلل، لأن السياسة تدبير، وتدبير الشأن جزء من المنهج القرآني المنزل من فوق سبعة أرقع، لتسيير كل حياة الإنسان، قال تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"
وقال أيضا: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون"
ولكن الإسلاميين رغم فداحة العلمانية، من منظور إسلامي، يقبلون الشراكة السياسية مع كل المقرين بالإسلام دينا، وحتى مع المغايرين عقديا في سياق المفهوم الحقوقي والقانوني لأهل الأقليات الموجودين عند غيرنا من الدول والمجتمعات، بغض النظر عن الخلاف حول طبيعة مبدأ شمولية المنهج الإسلامي، رغم حرج ذلك فيما تقدم.
الإسلاميون للأسف لم ينتبهوا بالشكل الكافي، إلى طبيعة المرحلة، بما فيها من أعداء ومعطيات حرجة تحتاج إلى تفهم وتدرج.
فالواقع في مجمله، داخل وطننا العربي خصوصا، لا يساعد على إقامة حكم إسلامي ديمقراطي دون هبة من العلمانية، والرافضين للحكم الإسلامي عموما، في داخل المؤسسة المدنية بنفسها، قبل المؤسسة العسكرية المسكونة بحب السيطرة والنفوذ، والنفوذ في أغلب مكوناتها - خصوصا في مصر الناصرية لعهد طويل ما بين 1952-1970 -وهو وقت كافي لترك تاريخ وعقلية ذات تأثير سلبي على الإخوان المصريين على الأقل، قبل غيرهم من أبناء الحركات الإسلامية في الدول الأخرى، التي قد لا تقل عن هذا المستوى من الحساسية من الحكم الإسلامي الصريح، دون أن يعمل لذلك مخطط مدروس حكيم، متدرج كما قلت آنفا.
ولعل المصريين الإسلاميين، خصوصا من أبناء تيار الإخوان المبارك تعجلوا، وخصوصا حين ترشحوا للرئاسة، رغم نفوذهم الشعبي وأغلبية برلمانية مريحة، كان من الممكن أن يساهم أصحابها إلى جانب خصومهم في حكومة ائتلافية، دون الضجيج، وبعيدا عن ساحات تصفية الحساب الدموي المؤلم المقلق بحق، إنا لله وإنا إليه راجعون، ويبقى الاختلاف عموما دون منعطف الخلاف، والاختلاف قد لا يفسد -أحيانا -للود قضية.
لكنهم تعجلوا مائدة الحكم والنفوذ قبل الأوان المناسب، فضربهم عدوهم الداخلي عن قوس واحدة، عن طريق متصهين، أمه من أصل مغربي يهودية الدين، وله خال كان إلى وقت قريب وهو مغربي صهيوني، عضوا في البرلمان الإسرائيلي المعروف تقليد،ا بالكنيست، وتضافر العدو الداخلي والخارجي على النبتة المباركة الناشئة، الحكم الإسلامي في مصر، ولولا حكمة الغنوشي ونضج النخبة التونسية، بمن فيها العلمانيين طبعا، إلى جانب حيادية العسكر التونسيين، لانتهى الربيع العربي، وأصبح مجرد قصة تروي، لكنه الآن يتمتع ببصيص أمل، عبر التجربة التونسية بوجه خاص، وصمود المصريين والإسلاميين عموما في ساحات عديدة وعلى رأسها مصر وسوريا وليبيا، ساحات تزخر بالنيران والكيد والعدالة لكل ماهو إسلامي، وتصويره على أنه فاشل "ماسوني"، وغير ذلك من التحامل المكشوف المغشوش، المفبرك، الضعيف السبك والإخراج.
إن الحكم الإسلامي مسألة مفروغ منها، فلا يمكن لأحد أن يرفض الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، وإن رفضها، خصوصا في موريتانيا، فمعنى ذلك واضح من منظور إسلامي موضوعي.
فأين الإسلام والخضوع لله ولدينه الخاتم، إن لم نقبل بحكم الله، ومهما كانت طبيعة الجدل من بعد ذلك، رغم حرجه كما قلت آنفا.
فالأولى للجميع الدخول في دين الله عمليا، منهجا شاملا للحكم في سائر جوانب حياتنا، وإن أصر بعضنا على التبرئ من الجانب السياسي، بأي دعوى أو مبرر، فهو لابد أن يقبل المرتكزات والمبادئ الجامعة للإسلام، وإن كان في هذا تسليم ببقية المفهوم، والمصطلح مشاحته وجدله، قد لا يكون في حد ذاته مقصدا عند الإسلاميين أنفسهم، ما وجدت صغة تضمن التسليم لدين الله، وأنه المرجع في القيادة والسلوك والتشريع، وليكن بعد ذلك ما يكون، من خلافات فرعية، أغلبها مجرد مشاحة في الاصطلاح كما أشرت سابقا، وإن جاهر أحد فرد أو جماعة، بما سوى هذا، فالموضوع وقتها لا يخلو من حرج عقدي حقيقي، يصعب التغاضي ربما عن سلامة منهجه وربما مقصد صاحبه!!!.
سموه حكما إسلاميا أو مدنيا، ولكن بهذا المنحى من الإقرار لدين الله الخاتم، الإسلام عقيدة ومنهجا، فهذا ما يجمعنا إن شاء الله، وهو ربما مقدمة ولوجنا إلى ساحة الحكم والشراكة، المحققة للتعايش السياسي السلمي، الفاتح لطريق واسع طويل إيجابي، ولو متدرج طبعا، نحو التنمية المستديمة والحرية ورغد العيش وفرض إشكالاتنا ومعاناتنا، سواء كانت في الاجتماع أو التربية أو التعليم أو السياسة والأمن بالداخل أو الخارج، ويدخل في هذا طبعا، إقامة الحق والعدل وتحرير الوطن والعرض ولم الشمل.
إن الله سبحانه وتعالى أعلم من عباده بخلقه، وإن المنهج الإسلامي الخاتم الذي نزله لحكم عباده في سائر شؤون الحياة الدنيوية، مقدمة لسعادة أخروية أبدية في جنات الخلد هو أرحم –أي هذا المنهج- بعباد الله وخلقه، من سائر المناهج والنظم الوضعية ، المصاغة من طرف الإنسان القاصر العاجز، وما تخبطات بعضنا للقول بأن تفكيرهم أفضل والعياذ بالله من الوحي، إلا عمى وضلالة وغواية والعياذ بالله.
وإن أصر بعض أدعياء الانفتاح على الشراكة، رغم مجاهرتهم بالتسليم للجانب العقدي فحسب، فهذا لا يخلو من خلل عميق في التصور والاعتقاد نفسه، ولا أحسب كثيرا منهم بمتنازل بسهولة -ظلما وعدوانا على نفسه وغيره- عن ذلك المنحى الفاسد القاصر أيضا، الواضح العواري والخطأ.
والله يلهم بعضنا الوقوف على الحق، وإن أصر، فخير لنا أن نفكر مهما كان هذا النقص في التصور في صغة حكم جامع، يفضي إلى الاستقرار والتنمية والانشغال بالأهم، بدل الهام، فلاشك أن وحدة المسلمين المقرين بالشهادتين، رغم بعض الاختلاف، ولو كان خطيرا وحساسا، هي أغلى من تصفية وتصحيح كل خلل في الرؤية أو السلوك، والطريق إلى ذلك، هو الشراكة والتفاهم، والبحث عن سبيل يجمعنا، بدل الخوض الزائد في الخلافات المدرسية والأيديولوجية العقيمة أحيانا.
فهل تقبل نخبنا الحوار للوصول لتفاهم نسبي، مقدمة للخروج التدريجي من نفق أنظمة الاستبداد والاستحواذ الذي مازلنا نعيش في أتون واقعها المؤذي المقرف.
فمن أجل غدنا الأفضل الموريتاني السعيد المنشود بإلحاح، والعربي الإسلامي الإنساني عموما، والذي نصبو إليه أيضا، لابد أن نصحح البداية للوصول إلى نهاية مقبولة، إن لم تكن سعيدة تلقائيا، لأن تلك السعادة أو حتى الاستقرار النسبي، لابد له من بحث عن نقاط الالتقاء والتعايش الفكري، والنظري قبل العملي.
وهذا الطرح مجرد تنبيه لضرورة تفاهم النخب، قبل أن تسير الدولة كلا أو جزءا، ومستوى الخلاف السياسي الراهن، العميق العقيم في أغلبه، لا يبشر بنجاح كبير ذي بال، حتى إن سقط النظام الحالي دون مقدمات، وإن كانت كل المؤشرات مبشرات، تدل على قرب الخلاص الوشيك بإذن الله من نظام الفرد المستبد، إلى حكم جامع لرؤى متنوعة متقاربة منسجمة، تهدف وتتبنى التعايش والتقارب الفعلي، رغم تنوع واسع، قد لا يمنع التناغم والانسجام والتعاون الواسع الجاد، إن توفر المقصد الحسن والإصرار على ما يجمع لا يفرق.