لا اعرف ما اذا كان الاستئذان ضروريا لإدارة مفتاح آخر في هذا القفل الذي سمل الصدأ ثقبه، إما لِفرط التواطؤ او لأن ما وراء الباب الموصد إذا صرّ ما يزكم الأنوف، فالجهل له رائحة ايضا لا تحجبها الأقنعة تماما كما ان أغلى العطور واشدها كثافة لا يحجب رائحة جيفة! ففي عالم عربي تعاني بعض اقطاره من أميّة أبجدية تصل الى سبعين في المئة، فيما يعاني الثلاثون في المئة الباقون من أميّة معرفية،
يصبح تعريف المثقف مُلتبسا وبحاجة الى فك اشتباك عاجل بين المثقف ومن يشبهه، لأن الشبيه في هذه الحالة هو النقيض، تماما كما ان التجارب السياسية الزائفة والمُستولدة بانبوب اعلامي ومنها الديموقراطية الشكلية هي النقيض الفعلي للديموقراطية وليست الديكتاتوريات، لأن الأشباه تصادر على الاصول وتحول دون معالجتها، ولسنا في هذا المقام بصدد سرد قائمة من تعريفات المثقف، فهي فضفاضة ومنها ما يتسع للأعور الذي يزهو على العميان، خصوصا في مجتمعات تضع الثقافة برمّتها على الرصيف ولا تحتكم اليها، قدر احتكامها الى اعرافها وتقاليدها التي قد تكون في لحظة ما المحتوى الحقيقي للتخلف، ولكي يتضح ما نعنيه في هذا السياق علينا ان نفرّق بدءا بين مثقف تمّ افرازه عضويا من مجتمع لم يحرق مراحل التطور وبين آخر استولدته قابلة الحزب او النظام او الجامعة، فالأول يعبّر بالضرورة عن اشواق فئة او طبقة كما قال غرامشي، بينما لا يعبّر الآخر المصنوع الا عن اشواق صانعيه، فهو رهينة يملى عليه ولا يكتب، ويعيش حالة طلاق بائن بينونة كبرى بين ما يفكر به وما يجب ان يقول، وهذا بحد ذاته نمط فريد من شيزوفرينا تواطؤية، يكون للثنائي جيكل وهايد فيها تجليات اخرى تستحق الرصد عن كثب ما دامت النماذج وفيرة لكنها لا تتنافر بدافع غريزي شأن كل قطعنة، تفرض على العاقل ان يشرب من نهر الجهل لا الجنون هذه المرة كي ينجو، فالتقيّة لم تعد مصطلحا فقهيا فقط لأنها تمددت الى خيوط النسيج كلها، وأصبح على المبصر ان يتعامى كي يتعايش وينجو، وعلى العارف ان يتغابى كي يُقبل طلب انتسابه الى القطيع، الذي يحمل اسماء مُضلّلة شأن كل الظواهر الأخرى التي اصبح لها اقنعة تخفي جوهرها، ما دام الخائن جانحا للسلم والبغي سيدة تدير اعمالا والسمسار رجل علاقات عامة حتى لو كانت سلعته من الدماء والدموع
… … … … …
قد تبدو محاولاتنا لإدارة المفتاح في القفل المغطى بالصدأ حذرة بعض الشيء خِشْية على المفتاح من الكسر شأن المحاولات التي سبقته، او تجَنّبا لما سوف يفضي اليه الباب اذا صرّ، فثقافتنا العربية في هذه الآونة الحرجة تحتاج لمجرد التوصيف تحالفا منهجيا بين الانثربولوجي والسايكولوجي والسوسيولوجي، في مواجهة الايديولوجي الذي لا يرى غير ما يريد ولا يسمع سوى صدى صوته، فالثقافة عندما تكون مهملة بشكل مزدوج من الدولة والمجتمع معا يصبح التسلل اليها متاحا وبلا اية حاجة الى طاقية الاخفاء، فهي الصبي الذي تقاسمت اعضاءه عدة نساء ليست أمه من بينهن، وهي البطل والكومبارس في اللحظة ذاتها، هي البطل في مواسم وكرنفالات اعلامية واعلانية، لكنها الكومبارس في الواقع المُعاش، ومجمل الديناميات التي تستغرقه، فما من ارتطام بين الثقافة وأية جرّة فخار الا وينتهي الى تهميشها وتهشيمها معا لأنها عزلاء ولا تقوى على مقارعة حراكات مدفوعة بالغرائز وخلايا دماغ زواحفية لا تعرف شيئا عما وراء الضرورة والتّلبية الحسيّة لمختلف اشكال الجوع من العلف الى الجنس، ومن ارضاع النرجسية الى توظيف الذكاء او ما توفر منه لصالح الحيلة، او ما يسميه النفسانيون العرب ومنهم الدكتور حامد عمّار والدكتور صادق العظم» الفهلوة بمختلف صيغها وأحابيلها، وما عبر عنه ديزموند موريس في كتابه «القرد العاري»!
… … … … …
هناك واقعة لا استطيع تجاوزها الان، هي زيارة جان بول سارتر لمصر عام 1967 ولقاؤه بنخب سياسية واكاديمية، وحين اراد احد المضيفين تقديم سارتر حشد ستة القاب للرجل، بدءا من الفيلسوف حتى الروائي مرورا بعالم النفس والمسرحي والمفكر السياسي والناقد لحظتها أحسّ سارتر أن جسده ينوء بهذه الألقاب فطلب من احد اصدقائه ان يساعده على حمل بعضها، واكتفى بوصف نفسه بأنه مجرد قارىء يسعى الى ان يكون مثقفا، وللوهلة الاولى وتبعا لتقاليد رسّختها النسب المتعاظمة من الأميّة يبدو ما قاله سارتر تواضعا والحقيقة غير ذلك، لأن تعريف المثقف لديه مغاير ان لم يكن مضادا لما نتداوله من تعريفات مجازية، فرضها العُور في بلاد العميان.
وما اعنيه بهذا ابعد من مجرد خيال علمي كما في قصة ويلز الشهيرة، كما انه ايضا يتخطى الشائع عن غربة زرقاء اليمامة بين قومها الذين غطى القذى عيونهم، فالاعور في مجتمعات اكثر من نصفها اميون يتنامى لديه بمرور الوقت وهم الاستبصار الذي يتجاوز معنى البصر والبصيرة معا، وبالتالي يتفاقم لديه الوهم أنه الأعلم ثم يتناسى ان هذه النسبية مشروطة بالبيئة التي يعيش فيها وان اي تغير لها سوف يفسد المعيار الذي احتكم اليه، لهذا لا نستغرب من فرار الأعور اذا التفت حوله ورأى الناس مبصرين، وهذا اقرب مثال حسّي للتعبير عمّا اسميه هروب شبه المثقف من المثقف تماما كما يهرب من اقتنى صورة فوتوغرافية لإحدى لوحات سلفادور دالي اذا فوجىء بمن يحمل اللوحة الأصل، هذا الفرار يتجه الى عميان آخرين مما يجزم ان شبه المثقف مدين لارتفاع نسبة الامية في بلاده، فهي مجاله الحيوي للتفوق والتحقيق الزائف للذات.
… … … … …
هكذا يصبح ما قاله هربرت ريد عن التحالف بين كاتب رديء وقارىء ساذج احد طرفي المعادلة، فالطرف الآخر هو تحالف ميتا استراتيجي وليس استراتيجيا فقط بين الكاتب الحقيقي والقارىء الشريك المهجوس بالقلق ذاته.
وستبقى ثقافتنا عرضة لكل هذا الاستيطان من افرازات التخلف الى ان يكفّ العور عن الزهو على ذويهم من العميان!
كاتب اردني
خيري منصور