صورة من الارشيف
سم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
أدباءنا الكرام؛
سانحة جميلة أن أكون معكم اليوم في هذا الفضاء الوقور؛ مع هذه العقول الكبيرة، ومع هذه المواهب الفياضة.
إن الأدب ظل دائما مقياس وعي الأمم وإنجازهم وطموحهم؛ بل ظل -أكثر من ذلك- أداتهم الأهم لتجسيد تاريخهم، ولتراكم عطائهم.. فعبر "الإلياذة" و"الأوديسة" استطاع الإغريقيون أن يحجزوا مكانا متقدما في التاريخ الحضاري البشري، ولم تكن الملحمتان رواية لحرب أو حصار أو حيلة فحسب؛ بل كانتا تحولا جذريا في الحضارة البشرية؛ ولئن كانت عديد الفرضيات تقول بأن "هوميروس" ليس غير أسطورة؛ فإن تينك "الملحمتين" غيرتا مسار الأمة الإغريقية.
أيها الجمع المحترم؛
تدين حضارتنا العربية للأدب والأدباء بحفظ الهوية وحفظ أنساق وسياقات الحياة؛ فقد أثنى رسول الله صلى الله عليه و سلم على بيانِ قسْ بن ساعدة ولولا عنترة بن شداد العبسي لاندثر الكثير من قيم الفروسية المروءة لدى العرب.
ورغم أن الإسلام جاء حاملا -ذاتيا- أدوات البقاء والاستمرار؛ فإن الأدباء ظلوا يمارسون دورهم؛ يحفظون القيم ويخلقون المعارف ويحلّقون بالأمة عاليا في طابور الحضارة والرقي والتقدم.. فمن خلال نقائض جرير والفرزدق وجدليات الحسن البصري عرفنا وأحببنا تفاصيل حياة حواضر الدولة الأموية، و بأدب ابن قتيبة والمفاضلة بين أبي تمام والبحتري ارتفع وارتقى سقف حضارة بني العباس، وبقصائد أبي الطيب المتنبي كان سيف الدولة أكبر من الدولة الحمدانية.
ولعله من دون ابن زيدون وولّادة بنت المستكفي كانت حضارة العرب في الأندلس ستكون باهتة وباردة.. وكان ابن خلدون بحجم أمة؛ إنه استطاع أن يقف في كفة وتاريخ قرطاج كله في كفة أخرى.. وحين كانت الأمة تغط في نومها العميق؛ كان الأدباء قادة مشعل الإيقاظ والتنوير.. فكان الكواكبي وكان محمد عبده وكان أحمد شوقي وكان حافظ إبراهيم.
و من روايات و دواوين الأدباء الأفارقة Nadine Gordimer,Léopold Sedar Sengor,Syinka عرف العالم حكمة الأفارقة و صبرهم و مصابرتهم و ثباتهم مما ساهم فى تجاوز عقدة الألوان و خطيئة استغلال الإنسان للإنسان.
أيها الأكارم؛
لم تكن هذه الأرض غير امتداد لكل ما سبق؛ فبالأدب ارتقت عاليا بين الأمم، وبالأدباء ذاع صيتها وعُرفت؛ فمن خلال أدباء القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين رُسمت هوية هذه الأرض؛ تلك الهوية التي ترجمها الأدباء والشعراء فى قصائد مشهورة محفوظة عبرت عن فترة ألق و إشعاع مما دفع بأحد صَنَعَةِ الفكر العربي إلى القول بأن حلقة الأدب الموريتاني -المفقودة في المراجع العربية الأدبية- يمكن أن تلغي ما عرف ب"عصر الانحطاط الأدبي".
ولم تكن آدابنا الشعبية، بكل روافدها ولغاتها؛ بمنأى مطلقا عن تلك الإسهامات ولا عن صناعة ذلك الإرث؛ فمن خلال أولئك الأدباء، ومن خلال إبداعاتهم ورؤاهم، أخذت حضارتنا زخرفها وازّينت.. حيث استطاعوا خلق ثقافة منفتحة متسامحة، تألف الجمال وترنو إليه تمجد مكارم الأخلاق و تنفر من خوارم المروءة ؛ إذ مزجوا -في قوالب نادرة- بين الحنين إلى الزمان والمكان والغزل والموعظة الحسنة،...
كان ذلك النسق هو عصارة آدابنا الشعبية (ولفية وبولارية وحسانية وسونكية) وعلى نمطه سار أدباؤنا؛ من هضاب تيرس وحتى أودية الحوضين؛ إلى ضفاف النهر.
حضورنا الكريم؛
يعزى للفيلسوف الصيني كونفوشيوس قوله: إذا أردت أن تعرف مدى تقدم أمة أو حضارتها أو مدى وعيها؛ فاستمع إلى موسيقاها.
والمعروف أن الموسيقى في تلك المرحلة كانت النسق الأدبي الأبرز؛ من هنا يكون المقياس لدى هذا الفيلسوف الحصيف هو الأدب.. لذلك ندعوكم (وواثقون أن الأمر لا يحتاج) إلى أن تكونوا مرآة عاكسة لمستوى راق من التقدم والحضارة والوعي.
أيها الحضورالكريم؛
نلتئم اليوم في هذه القاعة في محطة كبرى من محطات مسار الأدب والأدباء الموريتانيين؛ ذلك المسار المظفر الذي طالما أدى الأمانة، ورفع هامة الأمة.. نلتئم لنبني ولنراجع.. إنها سانحتنا لنعيد التأسيس من جديد؛ فبدون الملاحظة والمراجعة تتراكم الأخطاء؛ ليعسر ويتعذر التصحيح!
إن وجود آداب ناطقة بعديد اللغات واللهجات هو ثروة ثقافية وطنية لا يليق ولا ينبغي إضاعتها؛ خصوصا في هذا الزمن الذي تطغى فيه الاعتبارات المادية على الاعتبارات المعنوية وتتلاقح الثقافات الإنسانية بغثها وسمينها؛ لتتعقد رسالة الأديب ويتركب دوره الأخلاقي والحضاري.. أشياء تحتم علينا الفحص والتمحيص والوقوف والتساؤل.
إن عملية الفصل بين الأدبين (الفصيح و الملحون) ليست غير استثمار واستغلال لكل الفرص الثقافية المتاحة؛ من هنا علينا وضع الأمور في نصابها وفي سياقاتها؛ ففي كل البلدان الشبيهة ثمة اتحاد للأدب الفصيح، واتحاد للأدب الملحون.
أيها الإخوة الأفاضل؛
إن مكانتنا الأدبية عبر العالم تستلزم منا وجود اتحاد أدبي فصيح خالص؛ تماما مثلما أن ميراثنا الشعبي يحتم علينا أن نخلق له إطارا متمحضا ومتفرغا؛ كي يظل هذا الفن الجميل الراقي؛ الذي ورثناه قرونا وقرونا ملكا لنا.. ذلك لأنه يشكل جزءا وفيرا من إرثنا وتراثنا وفلكلورنا وهويتنا..
جمعنا الموقر؛
انطلاقا من تعهدات فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني المتعلقة بالثقافة عموما، وبالأدب بصورة أخص؛ فإن وزارة الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان تضع كل وسائلها وطاقاتها تحت تصرفكم؛ كي تقوموا بدوركم الثقافي التاريخي المنوط بكم..
إننا على ثقة تامة أنكم مواصلون درب الآباء والجدود في نشر قيم الفضيلة والمحبة والتسامح في أمتكم، وتصديرها صورة لها في عيون الأمم الأخرى؛ في قوالب أدبية محترفة وراقية.. إنكم جديرون بأن تكونوا خير خلف لخير سلف..!
أيها الأدباء المحترمون؛
إن المرحلة مواتية -بكل سياقاتها- كي نخلق حراكا أدبيا؛ يعيد صورتنا النمطية في الأذهان؛ تلك الصورة القائمة على أننا أمة الأدب والأدباء والمعرفة.. إننا ندعوكم لتحريك وتيرتي الإنتاج والنشر وفي كل الأنساق والأجناس المعرفية؛ وخصوصا في مجالي الشعر والسرد؛ حيث يعيشان فتورا وضمورا لا يتناسب بالمطلق ومكانتنا، ولا ينبغي أيضا أن يناسب طموحنا.. إنها فرصتنا كي نقرر أن ترتفع أصواتنا وكتاباتنا في المحافل الإقليمية والدولية..
على المؤلَّف الموريتاني أن يوجد في كل معارض الكتاب وفي كل المكتبات وفي كل الجوائز والمهرجانات.
علينا -كذلك- أن نحول الآداب الشعبية -وبصورة معيارية وعلمية- من جنس أدبي محكيّ (في الغالب) إلى جنس أدبي مكتوب.. علينا ان نتواضع على آلية لكتابتها؛ لنحفظ تلك الكنوز التي تكاد تضيع؛ بفعل غياب الرواة؛ بل وغياب ظاهرة الرواية الشعبية، وكون تلك الآداب لا تعتمد -في الأصل- إلا على الرواية.
أيها الحضور الكريم؛
لا شك أنكم واعون بكل هذا ومستوعبون له؛ لكنني أكرره عليكم -فقط- من باب الذكرى النافعة للمؤمنين.. وأعود مرة ثانية للتأكيد لكم بأن الوزارة تضع أياديها في أياديكم من أجل كل ما من شأنه أن يرفع من الأدب والأدباء، وأننا اليوم نحقق مكسبا جديدا، ونضاعف فرصنا في الرفع من قيمة أدبنا وثقافتنا؛ وذلك بعد أن أصبحنا نملك اتحادين للأدب والكتابة.. أرحب كثيرا بكل الحاضرين المشاركين و المدعوين وأشكر شكرا خاصا أعضاء مكتب الاتحاد السابق وأثمن كل جهودهم التي بذلوا في السابق من أجل تمثيل الأدب والأدباء الموريتانيين، واليوم -أيضا- من أجل وضع قطار الأدب والأدباء الموريتانيين على سكته الأسلم.
واسمحوا لي -أيضا- أن أنوه بتلك الجهود الجبارة، وتلك التضحيات الجسام المقدرة؛ التي قدمها أولئك الأدباء الكبار؛ خلال نقاش فصل المسارات.. لقد برهنوا على أنهم رجال الإجماع ورجال الكلمة السواء.. لقد بذلوا كل البذل طوال المرحلة، وتنازل بعضهم مشكورا مذكورا من أجل ذلك -وطواعية- عن طموحهم المشروع؛ فإليهم مني جزيل الشكر والامتنان.
نخبتنا المقدرة؛
طموحنا أن نستعيد ألق التأسيس تأسيس اتحاد الأدباء و الكتاب تغمد الله بواسع نعمائه من سلف وشفى بشفائه الأتم من سقم، ومتعنا عقودا عديدة بالبقية الباقية من السلف الأدبي الصالح.. وختاما أدعو كافة الروابط والمنابر والهيئات الثقافية إلى السير على درب الجيل المؤسس لاتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، وبناء إجماع قوي عاصم من الخلاف ومن التمييع... وأجدد هنا التأكيد والتشديد على أن الوزارة منحازة لكل إجماع، ومنحازة لكل معيارية، وأنها لن تدعم أي كيان يغشاه الخلاف أو الشقاق، أو يعشش فيه التمييع والتعويم.. أتمنى و أتوقع لأعمالكم كامل التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته