يميل أهل هذه البلاد إلى أن يخلقوا لأنفسهم أوهاما لا يلبثون أن يرفعوها إلى مصاف المسلمات وفي حالات كثيرة يقعون في غرام نفس هذه الأوهام التي صنعوها بأنفسهم.
عادة اتبعوا فيها سنة من كان قبلهم من أمم الجاهلية. سوى أن أهل الجاهلية كانوا يصنعون صنمهم من التمر حتى إذا جاعوا أكلوه. في موريتانيا يتصرفون على طريقة الهندوس: لو عكرت صفو المقدس سوف يأكل العامة لحمك أنت ويظلون عاكفين على العجل الجسد.
قبل سنوات زعم "عالم" من هنا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام واخبره ان حرب السعودية على اليمن هي "جهاد في سبيل الله" مع ان السعودية نفسها لم تدَّعِ ذلك في أي من بياناتها. بعد سنتين من بداية العدوان اختلفت جماعة ذلك "العالم" مع السعودية بسبب قطر. ذهب الرجل إلى قناة الجزيرة وأعلن أن السعودية هي الباغية على أهل اليمن وعلى المسلمين أن يقاتلوها حتى توقف العدوان. في هذه المرة لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ولكن كانت حجته بيت شعر للحطيئة!
الغريب هنا هو أن العامة صدقوه في الحالتين دون أن يسألوا عن أي دليل من كتاب الله او من حديث نبيه صلى الله عليه وسلم. والأغرب أنهم مع تصديقهم إياه لم يخرج منهم رجل واحد ليجاهد في سبيل الله. لا في المرة الأولى عندما السعودية هي التي تنصر الحق ولا في المرة الاخيرة عندما صارت هي الفئة الباغية التي يجب ان يقاتلها المؤمنون حتى تفيء إلى أمر الله.
قبل أسبوعين تقريبا بدا كما لو أن عاصفة من الحزم في تمحيص الأمور قد ضربت عقول الناس عندنا. ضجت السوشيال ميديا الموريتانية بحديث المستشار عن الوثيقة فلم نسمع صوتا يعلو على صوت "العقل" الذي صحا فجأة وأعلن أنه لن يقبل بأقل من رؤية الوثيقة. الجمهور يريد الوثيقة، على طريقة أفلام هوليوود: يريدونها حية او ميتة.
لم يطل الفرح بهذه العقلانية التي هبطت فجأة على رؤوس الناس مثل قوات المظلات.
تحدث مدير أمن الدولة في عهد معاوية ولد الطايع عن علاقة سجين غوانتاناموبي بأجهزة الأمن في تلك الفترة فلم يكد ينهي حديثه حتى ثارت ثائرة العامة فقلنا: ليته سكت!
من الواضح هنا ان تجربة سجن غوانتاناموبي المريرة جعلت عواطف الناس تتجه نحو السجين. ولكن ذلك ليس التفسير الوحيد. ثمة عنصر الشهرة التي اكتسبها حبيس الجزيرة الكوبية. هذه الشهرة هي التي تعصم صاحبها من النقد عند العامة. وفي التعابير اليومية إذا أردت أن تناقش مقالة لشخص مشهور فإن العامة لا يقبلون تصنيف حديثك في خانة "الرأي" المخالف. بل أنت "تتطاول" عليه. أي أن الموضوع محسوم منذ البداية: أنت الأدنى مرتبة وهو الأعلى شأنا فكيف تتدارك عليه في مسألة فعلها أو مقالة تفوه بها؟
لاحظ هنا أن الرد لا يشير بكلمة واحدة إلى الموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه بل ينصرف إلى مقارنة تنفي الندية بين شخص الكاتب أو المتحدث الناقد وبين الشخص المشهور عند الناس.
لا يريدون أن يقبلوا أن سجن غوانتاناموبي ليس رسالة سماوية والسجين الذي قضى فيه سنوات طويلة وثمينة من شبابه كان يعيش بين الناس قبل دخول المعتقل وكان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
في اليونان يفتش المؤرخون كل يوم في سرير الاسكندر الاكبر ويغمزون في ميوله الى شبان زمانه أكثر من بنات أثينا وفي الهند بدأوا يشيرون إلى اهتمام المهاتما غاندي بأطفال الريف وولعه الزائد باحتضانهم. سعد زغلول باشا لم يسلم من النقد اللاحق على وفاته فكتبوا عن إدمانه القمار وهو الذي قاد حركة تحرير بلاده من الإنجليز.
عندنا يريدون أن تظل صورة البطل بتلك الرومانسية التي صنعوها له في مخيلاتهم ويظلون عاكفين عليها. هل هذا كثير عليهم؟
هذه أمة حرمت من التعليم والصحة ومن الكهرباء والمواصلات ومن أرض تزرع.
لكن كل ذلك لا يهم. الرموز أهم.