من صفاء ذياب تختلف البنيات الثقافية بين مجتمع وآخر، هذا الاختلاف يجعل من المنتج الثقافي مغايراً، فهناك من كان الإبداع منجزاً له على مدى تاريخه الطويل، في حين كان الفكر سمة لبعض الشعوب التي سعت لبناء عقولها بطرائق شتّى.
لكن هناك مجتمعات لا تقف عند طريق واحد، فتغير من مساراته، متنقلة من الإبداعي إلى الفكري، أو العكس في بعض الأحيان. ولهذا التحول أسباب عدة تعود لطبيعة الثقافة التي تنتشر في حينها. ففي العراق؛ على سبيل المثال، كانت عقود الأربعينيات والخمسينيات بلغت النتاج الفكري أوجه من خلال نتاجات علي الوردي وطه باقر وعبد الفتاح إبراهيم وجواد علي ومحمد رضا الشبيبي وغيرهم الكثير. إلا أن الفترة التي تلت تلك العقود كانت محصورة في النتاج الإبداعي بسبب التحولات السياسية والإيديولوجية التي مرَّت على البلد، فما زال منتجنا العراقي محصوراً بين الأدبي والفني، على الرغم من التطور الذي يلاحظ في النظريات الفكرية والأدبية والمفاهيم الفلسفية… التساؤل الذي يدور في ذهن عدد كبير من المثقفين العراقيين الآن: ما الذي يجعل من بيئة تنتج نصوصاً إبداعية وتبتعد عن الفكر والفلسفة والمفاهيم النقدية، في حين هناك بيئات أخرى تصنع هذه المفاهيم؟
نهضة متأخرة
يرى الشاعر والمترجم نصير فليح أن الأعمال الإبداعية الأدبية والفنية أقل احتياجاً إلى تطور فكري مؤسسي وأكثر اعتماداً على ما هو فردي. بينما النشاطات الفكرية الحقة من بحوث ودراسات فكرية وفلسفية ونظرية تحتاج إلى بنية تحتية تراكمت عبر الزمن وشحذت الفكر والرؤية والمصطلح، والحالة الأخيرة لم تحصل في العراق. لم تتطور المؤسسات الثقافية الفكرية بشكل منهجي مستمر ومستقر، بل إنها لم تبنَ على أسس قوية، إضافة إلى تعرض الثقافة العراقية بمجملها إلى عواصف التغييرات السياسية التي قد تقتلعها أو تغير اتجاهها من الأساس. وأضاف فليح: الأنظمة السياسية في العراق لم تفسح حرية تعبير كافية، أو ركزت على الفعاليات الثقافية ذات الطابع الجماهيري أو الشعبوي لأغراض دعائية وما شابه. أما المؤسسات الأكاديمية العراقية من جهة أخرى فتدهورت في العقود الماضية إلى حد بعيد، ولم تعد الألقاب الأكاديمية أو الدرجات «العلمية» فيها تعني شيئاً، والأغلبية الساحقة من أطروحات الدراسات العليا عبارة عن «تجميع» لبعض المعلومات من هنا وهناك ومحاولة إعادة صياغتها أو صبها باتجاه الموضوع المعني، وهو جهد رغم شدته نادراً ما ينتج شيئا ذا قيمة، ونرى الأطروحات تتراكم وتنتهي إلى رفوف النسيان. أما بخصوص الوسط الثقافي العراقي، فيشير فليح إلى أنه؛ إضافة إلى الضمور الداخلي الذي أصابه بسبب الهواء الفاسد للديكتاتورية والحروب وهجرة الكفاءات، فإن انقطاعه الطويل عن الاتصال بالعالم الخارجي بسبب ظروف الحصار أو تقييدات السلطة ورقابتها أضاف مزيداً من الضعف في هيكله الأساسي. حتى حالات الفساد المالي والإداري استطاعت التسلل إلى الوسط الثقافي والتربوي والأكاديمي بقوة في العقود الماضية.
وتبقى مسالة أخرى لدى فليح، وهي أن محاولات الحداثة و»النهضة» وصلت إلى العراق بصورة متأخرة مقارنة ببعض البلدان العربية الأخرى كمصر والشام، وعندما تم إطلاق القول المعروف (مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ) قبل عقود، لم يكن من دون أساس. «أرى أن العراق اليوم في منطقة ما وسط في سلسلة البلدان العربية من الناحية الفكرية، والعمل على الارتقاء به إلى مستوى أعلى في هذا المجال يحتاج إلى دعم كبير، وعمل منهجي تراكمي نشيط لا يتبخر مع انعطافات الأنواء السياسية في البلاد، وما أكثرها!».
بنى متخلخلة
الباحث محمد حسين الرفاعي يضع تساؤلنا ضمن حقل الفهم الذي ينتج عدة بنى في المجتمع، منها السياسة.. إذ يسبق تساؤلُ السلطة، في بلداننا العربية، تساؤلَ المعرفة.. «نعني أن شكلاً من أشكال المعرفة يوضع بواسطة السياسيّ بوصفه هو المعرفة. وهذا يشتمل على الآتي: يُحدَّد للمعرفة موضوعها (وموضوعاتها داخل الموضوع الأصلي المحدد سلفاً وقبلياً (في- كل- مرة))، كما يُحدَّد لها منهجها (والمناهج داخل المنهج الأصلي المحدد سلفاً وقبلياً (في- كل- مرة)) بواسطة السياسيّ.. وهذا يشتمل أيضاً على حجب الموضوعات وحجب المناهج التي لا تتوافق مع السياسي. ولكن لماذا؟ لأن في أي استنهاض للتساؤل عن (الموضوع- خارج- موضوع- المعرفة- الذي- يحدده- السياسي) ثمة تهديد صريح للسياسي بعامّة، وثمة فضح للأوهام التي يبثها السياسي في سماء المجتمعيّ، بخاصّة». ومن خلال هذا تنتشر في بلداننا أشكال معرفية من نوع: الشعر، الأدب، الرواية، التصوف، الديانة الفردية، …إلخ. ولكن لو قام تساؤل أصيل بشأن الأشكال المعرفية هذه فسوف يلاحظ المرء في النهاية أنها كلها تقع في موقع العقبة تجاه قيام تساؤل العلم في بلداننا.
البنية الثانية هي الثقافية، فيبين الرفاعي أن ثمة عقبة معرفية في بلداننا يجب أن نعبر عنها بكل جرأة؛ إنها الدين بوصفه عقبة في وجه التفكير بعامَّة، وفي وجه قيام تساؤل العلم بخاصة. هكذا فإن الآمر الناهي داخل بنية الثقافة هو الدين بوصفه آيديولوجيا. كذلك البنية الاقتصادية التي لا تستوعب دورتها الإنتاجية، هذا إن توهمنا وجود دورة إنتاجية في بلداننا، ما ينتمي إلى الفكر والفلسفة والتفكير الحر.. ولا يوجد أي دعم من قبل اقتصاد بلداننا إلى الأبحاث العلمية أو الفكرية الحرة أو الفلسفية. هذا هو الذي يجعل الإنتاج المعرفي همَّاً فردياً.
من خلال هذه البنى يقدم الرفاعي تساؤلاته الجديدة، مستنتجاً أنه لا يمكن إلا أن نبذل كل جهدنا في سبيل تربية جيل من المتخصصين المحايدين (لأن التفكير يقوم على التخصص) الذين يأخذون بموضوعات المعرفة بالإنسان والمجتمع علميَّاً.. وإن بقينا على حالنا، ضمن الفوضى المعرفية التي نحيا ضمنها، والتي ساهمت وسيلة التجهيل الأكثر حداثة (الإعلام) في وجودها، وإن سمحنا أن تحل الأفكار الإعلامية محل الأفكار العلمية فلا سبيل أمامنا إلا الوقوع خارجها من أجل الإنتاج المعرفي فرديَّاً.
ترويج ثقافي
الأكاديمي الدكتور صلاح حسن حاوي يشير إلى أن هذا السؤال يحمل عتباً ولوماً معرفياً على العقلية العراقية، لأنها اكتفت بالفني والأدبي، ولم تعتنِ بالنظريات والمفاهيم، لكننا لا يمكن أن نسهم في تغييب بعض المحاولات المهمة التي عملت ضمن دائرة إنتاج المفاهيم والنظريات، و»أقول: (البعض) لأن بقبولهم التبعيض شاركوا في عملية التغييب بفعل غياب روح المجموعة أو المؤسسات المتبنية لهذه المشاريع، ويبدو أن ارتياد منطقة الفني والأدبي هو أقل عناءً من المناطق المعرفية الأخرى، ولذا أصبحنا نفكر في التوازن الكمي الذي يرجّح ذلك الارتياد؛ حتى صرنا أمام صورة تتسيّدها النصوص الإبداعية والنقدية التي ترفع راية الاجترار لا الإنتاج والصناعة، فضلا عن غياب الإشهار بوجود مشاريع مكتملة أو في طور الاكتمال تنتج المفاهيم وتقترح النظريات».
ويقترح حاوي إعادة صياغة السؤال: أيظل منتجنا الفكري والنقدي والفلسفي بعيداً عن التسويق والترويج الثقافي له في ظلِّ تسويق وترويج تجاري وقد يكون ثقافياً يصفه بالمتعمَّد لمناطق لا تصلح أن تكون هي الصورة الأوحد للثقافة العراقية أو العقل العراقي؟ «فقد تتحدّث لبعض المثقفين أو الأكاديميين عن كاتب عراقي انشغل بإنتاج المفاهيم والنظريات على سبيل المثال (يحيى محمد)، سيجيبك حتماً، من يحيى محمد؟ من شاكر شاهين؟ من عبد الرزاق الجبران؟ من من ومن؟ وقد كان التسويق المتأتي من الخارج أنقذ عبد الله إبراهيم من هذا التجاهل أو الجهل بالمنتج والنظريات، أقولها مرة أخرى: نحتاج تسويقاً للأسماء التي تنتج ما نعتب فيه على المنتج العراقي، ونحتاج قراءة جماعية لهذا المنتج كي نفرق بين البقاء أو التطور؛ ومتى نشعر بالسرور حين يفوز كتاب فلسفي أو نظرية معرفية لمفكر عراقي مثلما سررنا بفوز أحمد سعداوي بجائزة البوكر للرواية العربية».
آيديولوجيا السلطة
لكن أستاذ الفلسفة الحديثة في جامعة بغداد، الدكتور علي عبود المحمداوي، يرفض هذه الرؤية التي يعدها فرضية، «إن فرضيتك، هذه، هي مما يشاع حول البيئة الثقافية العراقية، بينما الحقيقة أن هنالك منجزات فلسفيّة كبيرة لرجالها في العراق، منذ تأسيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد وإلى اليوم، ولو حَصَرتُ مقولي في المنجز الآني، والذي يرتبط بما قدمه وأنجزه كثير من جيل الشباب، اليوم، فهنالك نتائج ضخمة على مستوى التأسيس والإنتاج»، ويطرح المحمداوي نموذجاً للباحث العراقي متمثلاً بالرابطة العربيّة الأكاديميّة للفلسفة التي تأسست في عام 2011، كاشفاً أنها اليوم قد أصدرت أكثر من 30 كتاباً جماعياً وفردياً، وذلك دون أي دعم مالي أو معنوي من جهة أو أخرى، فقط اعتمدت على قوة الاتصال والتواصل الافتراضي، والتنسيق مع دور النشر، وتطوع كثير من المثقفين العراقيين والعرب لإنجاح المشروع، «يعني أن المتفلسفة العراقيين لم يسكنوا ولم يستقيلوا فهم عماد هذه الرابطة، وهنالك الكثير من النشاطات والمؤتمرات والندوات، التي ما زالت تعقد بين الحين والآخر، تذكرنا بما تبقى من العقلانية والمشروع النقدي العراقي، والسؤال الأدق سيكون: لماذا لا تتوفر مساحة إعلاميّة، كافية، لتسليط الضوء على هذه المنجزات؟ والجواب الذي يمكن أن يلمس جوهر الأشكال، لعله محصور في آيديولوجيا السلطة القائمة، فالسلطات القائمة ما تزال في العراق تريد حجب صوت وصورة الفلسفة، وأن لم يمكن فتشويهها؛ لأنها المشروع العقلاني الأكبر للإنسانية؛ وذلك ما لا يتيح فرصة لتقبل مروق السلطة على كل طبائع ومكتسبات الإنسان، ولاسيما في العراق». ويحصر المحمداوي مشكلتنا الفكرية في العراق، في أن كل ما نعاني منه هو إيجاد مشروع نقديّ فعليّ يستطيع أن يوازي قوة هذه المؤسسات، في مجتمع ما يزال يعاني من هيمنة قوى متشابكة ومختلفة الأشربة، لكنها تتحد في إقالة المقول الفلسفي. و»أقول إن النص الإبداعي اليوم أخذ نوعاً من الاستقالة في الأثر عبر هضمه من قبل السلطات عبر الجوائز والعروض والاحتفاءات التي قتلت من قوته بوصفه ضداً أو ندّاً لها، وبذلك فقد ابتلع قوته الفنية والأدبية ليكون مشروعاً مقالاً هو الآخر لكن بصورة مختلفة».
آيديولوجيا مهيمنة
أما الأستاذ الدكتور عامر عبد زيد، فيشير إلى أن الرهان الفلسفي بحاجه إلى فضاء تتوفر فيه حرية التعبير، بمعنى أن تكون هناك إمكانيات تقبل النقد، وهذا يتطلب أفقاً صعباً التحقق في بلد يعاني من غياب الإجماع السياسي والديني، فالبلد يعاني من صدع سياسي مبني على أسس طائفية أصبح معه تقديس المقولات الدينية أساساً مما يعني غياب القدرة على المراجعة والنقد. لهذا تجد في فضاء كهذا، هناك انشداد قوي إلى الهوية من أجل تماسك الجماعة. في وقت الفضاء الفلسفي يقوم على التعددية الثقافية والدينية وحرية الحوار بالإضافة إلى وجود مؤسسات حقيقية تحقق إمكانيات التواصل الحر وأفقاً رحباً للحوار الذي يمكّن المثقفين والباحثين في الشأن الفكري الحرية في النقد وتقديم بدائل دون أن يكون هناك نتائج قد تؤدي بوجودهم ذلك الصدع الذي ولّد غياب أفق للتعايش.
مؤكداً أن غياب الحريات والاستقرار السياسي وغياب الإجماع السياسي قاد إلى غياب المؤسسات الثقافية الحرة التعددية، ففي ظل هذه الظروف، من الصعب طرح إمكانيات كشف وتعرية الواقع بشفافية وتجرد من أجل التصويب والاستنارة، لهذا تحوّل البحوث إلى أفق مغلق مغترب يكرر وينتقد تجارب خارجية أكثر رصانة، إلا أنها تنتمي إلى فضاء آخر ليس له علاقة بإشكاليتنا الثقافية والتنموية.
لهذا ينظر إلى أن في ظل هذا الفضاء يصعب على الهويات فتح مجال للنقد، وهو ما جعل الآيديولوجيا هي المهيمنة، بل خلقت انحباساً ثقافياً يرفض الحوار مع الآخر خارج مرجعية التراث، لهذا تجد بعض النقاد من دعاة الهوية في بلدان عاشت تجربة الصراعات الإثنية ترفض أي حوار أو تثاقف مع الآخر.
حضارة أنوية
الأكاديمي والشاعر الدكتور عمار المسعودي يبين أن القصيدة العربية ما زالت تسلك الطرق والسياقات نفسها، فهي لم تزل غنائية تظهر «أنا الشاعر» بوضوح الذي يريد تحقيق الذات من استخدامه للكلمات، وهذا يعود في معظمه إلى هذه البيئة العربية التي لم يتسن لها أن تنتج غير فلسفة مسطحة، غير قادرة على الغوص بعيداً في الكونية، الذات العربية منعتها محددات عديدة عن التأمل العميق، وذلك لوجود المقدس الديني والسياسي والاجتماعي، الأمر الذي يقيد الذات من أن تتفرد أو تنفلت، من أسرها.
المعموري يوضح أن الحضارة العربية حسية تعيش انفصامها وهي تراوح بين مطلقها الصحراوي وحاجتها لتعويض ذلك الامتداد الهائل، للفضاء الخالي، مما استدعى إلى الاحتفاء بالمادة، التي يجتهد كثيراً للوصول إليها، لذا نضجت الحاجات الحسية وصارت جزءاً من معطيات الوجود، مما شغله طويلا عن تأمل العالم، يستثنى من ذلك تجارب الصوفية فقط، التي اجتازت بمهارة عرفانية طرق العربي بتأمله للحياة، وكان من المؤمل أن تغدو هذه التجربة، المتفردة طريقاً خالصاً، تتفرع لإنتاج معطيات تأملية أو فلسفية، مضافا إلى ذلك انهيار المشروع الاعتزالي، على يد السلطة الحسية العربية، وهي تمارس فعلها السلطوي، الذي لا يناسبه الفعل الفلسفي وهو يسلك طرقاً واعية في التأمل المخالف لمتن السلطة، إلى هذه اللحظة نحن نعيش لحظات الحسية، متمثلة بالسلطة الغاشمة، وهي ترسم مساراتها البدوية، خارج المناهج العلمية، والتخطيط المسبق. «لذا فإن مناهجنا، لا تنتج متعلمين، ولكنها تستنسخ سابقين، إذاً الزمن متوقف، لتوقف المنهج، الذي يستطيع أن يخلق متمردين، يكسرون بوعيهم، الصناديق الحديدية، التي تم حبسنا، بها من مقدسات دينية وقبلية واجتماعية». ويضيف: إن ثبات الحسي، وتطابق المنهج، لم يوفر فرصاً لإنتاج إنسان ذي تصور حركي تغييري رافض للتابوات، كل هذه العناصر وغيرها أفقدت العربي رؤاه الفلسفية، وجعلته يردد أنساق ثابتة ومتحجرة.
بيئات ثقافية
لكن الحديث عن هوية المنتج الثقافي العراقي يرتبط بالحديث عن البيئات الثقافية والاجتماعية والتعليمية والدينية، حسب ما يقول الناقد علي حسن الفواز، إذ كثيراً ما تتحول هذه البيئات إلى موجهات حاكمة تفرض شروطها ورقابتها على منتجات الثقافة بدءاً من تداوليتها في السوق وانتهاء بحساسية دخولها وتداولها في الأنساق التربوية والتعليمية. و»أحسب أن ارتباط (الإنتاجية) الثقافية بأشكال أدبية معينة يعكس خضوعها إلى ما يسمى بـ(الاستبدادات الشعرية والسردية) تلك التي لعبت دوراً ضاغطاً على إمكانية تداول أشكال معرفية أخرى للثقافة، مثل الفكر والفلسفة والنقد والعمران ومجالات العلوم السوسيولوجية والأنثربولوجية، ونظريات البحث العلمي وغيرها، وتأصيل مفاهيمها في إعادة قراءة الكثير من الأشكال القارّة في ثقافتنا وفي تاريخنا الثقافي».
ولا يحسب الفواز أن هذا المعطى يتطلب مقارنة مع بيئات أخرى قابلة لأن تصنع مثل هذه الأشكال الثقافية، إذ إن مثل هذه المقارنة ترتبط بطبيعة تلك البيئات ومدى استجابتها للمتغيرات الثقافية، وتعاطيها مع الإشكالات المفهومية للحداثة وما بعدها، وأن أية عملية فحص ومراجعة ستعني إضاءة لمجاورات ثقافية مثل التعالق اللغوي، والتعالق الجغرافي، وطبيعة الاستهلاك الثقافي، والسياسة الاقتصادية التي تحكم نظرة السلطة للسوق الثقافية، وطبيعة القوانين التي تحمي الصناعة الثقافية، فضلا عن طبيعة المهيمنات الحاكمة للتداول الثقافي مثل مهيمنة الديني والاجتماعي والآيديولوجي، لكن تبقى البيئة الأكاديمية للتعليم الجامعي والبحث العلمي هي العامل الأكثر تأثيراً في مجال تعرية الاستبدادات القديمة للشعري والحكائي والتاريخي، مقابل إيجاد حساسية جديدة لتقبّل المتغير، والتفاعل معه، وربما يتيح له مجالات فاعلة للتداول والشيوع، والتعاطي مع استحقاقاته المعرفية على مستوى التقبّل والاستهلاك والتسويق، وعلى مستوى تنمية فعاليته بوصفها جزءاً من استحقاقات التنمية المستدامة، وجزءاً من قيم التحولات الكبرى في المجالات العلمية والمعرفية، وكذلك جزءاً من(الرأي العام) الثقافي الذي يمكنه أن يتحول إلى قوة ضاغطة للتغيير والتواصل والتأسيس، والقبول بها، وبما يضمن تأثيرها في إيجاد أفق ثقافي أكثر استعداداً، وأكثر تحرراً لاستيلاد مفاهيم وأفكار وأطر تتقبل الثقافي ومعطياته وأسئلته، وتدخل في مجاله القاموسي والاستعمالي بعيداً عن أية حساسية للتابوات الدينية أو السياسية والآيديولوجية، لاسيما وأن الجهاز الثقافي الغربي تحت ضغط منظومة الثورة التواصلية ومنظومات التواصل الاجتماعي بات أكثر تأثيراً على المناطق الثقافية الرخوة التي تنتمي للأسف إلى أراضيها المنخفضة…
القدس العربي