بقلم: عثمان بن جدو
شكلت خطابات رئيس الجمهورية الأخيرة منعطفا حاسما في تغيير مسار العقليات وضرورة تحيين المفاهيم وإعادة تهذيب التشبع الذهني من خلال ترتيب الألفاظ، اعتمادا وتقبلا للحسن الجامع، ولفظا وابتعادا عن الخشن المفرق؛
فكان خطاب الاستقلال مناسبة للثناء على المقاومة بشقيها وتثمين ذكراها، كما كان فرصة لشحذ همم الشباب، والتأكيد على التوجه الصارم نحو تفعيل الحكامة الرشيدة، بالإضافة إلى متفرقات أخرى حملها ذلك الخطاب الرصين، وكان خطاب ودان مميزا في توقيته ومضمونه، قاطعا شك التنابز بالألفاظ والتفاضل الطيني بيقين المساواة الربانية والتفاضل وفق شرع الله ومنهاجه حسب محدد أوحد؛ تقوى الله عز وجل، واعتماد القيمة الآنية المضافة المتجلية في أن قيمة الإنسان ما يتقنه،
وكان خطاب الشامي إضافة نوعية في ذات السياق؛ تثمينا لجهود نابذي الكسل، المشمرين عن سواعد البذل والعطاء، الباحثين عن لقمة العيش بعرق الجبين واغبرار اليد بتراب الخدمة الشريفة؛ واليد من الرجل أغلى، وفي صحيح البخاري (ما أغبرت قدما عبد في سبيل فتمسه النار) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)، ومما أثر أن الخارج بحثا عن قوت عياله في سبيل الله ..
لم يفوت فخامة رئيس الجمهورية فرصة هذا الخطاب الذي صاغه بإحكام كسابقيه، فأثنى على المواطنين المنقبين بنبذهم للكسل والعمل على استخراج ثروات بلدهم بسواعدهم، فقدموا بذلك يقول فخامة الرئيس نموذجا لخدمة الوطن، وهم في ذات الميدان يقدمون نموذجا للوحدة الوطنية، ويخلقون بسواعدهم قيمة مضافة كان البلد في أمس الحاجة إليها، وذكر فخامة الرئيس أنه تحدث قبل أيام (يعني خطاب ودان) عن خطر التفرقة والكسل على البلدان؛ إذ يحولها من العمار إلى الدمار، وانتم يقول الرئيس نبذتم الكسل وجسدتم لوحة اللحمة الوطنية وهذا يجعلني إلى جانبكم، ويؤكد؛ ستلمسون قربنا منكم، ومساعدتنا إياكم كي تضطلعوا بدوركم على أحسن وجه، ويختم الرئيس هذه الفقرة الفارقة في الخطاب بالقول: فقد نبذتم الكسل ووحدتم الجهود وجسدتم القيم النبيلة بتحقيق كل الأهداف، ستجدوننا إلى جانبكم وسنبقى عونا لكم سواء كنتم منقبين وطنيين أو مستثمرين أجانب، وفي ذلك ختام مسك تأكيدا وتطمينا.
وفي بسط ما تقدم من اختصار عن خطابي ودان وخطاب الاستقلال؛ نجدها تميزت بالرصانة والقوة في تناغم للدلالة اللفظية وتلاق تام للجملة التركيبية بحيث تجد كل كلمة في مكانها الذي لا يمكن أن تحل محلها فيه غيرها؛ غالبا، في دلالة غاية في البشر والتطمين.. وتأملوا معي إن شئتم هذه الفقرة ( إن مما يحز في نفسي كثيرا ما تعرضت له هذه الفئات في مجتمعنا تاريخيا من ظلم ونظرة سلبية مع أنها في ميزان القياس السليم ينبغي أن تكون على رأس الهرم الاجتماعي، فهي في طليعة بناة الحضارة والعمران وهي عماد المدنية والابتكار والإنتاج ولقد آن الأوان أن نطهر موروثنا الثقافي من رواسب ذلك الظلم الشنيع وأن نتخلص نهائيا من تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تناقض الحقيقة وتصادم قواعد الشرع والقانون وتضعف اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية وتعيق تطور العقليات وفق ما تقتضيه مفاهيم الدولة والقانون والمواطنة)
ثم أكد فخامته على المضي قدما في تصحيح هذا المسار من خلال الأمر المباشر في هذا الخطاب لكافة المواطنين إلى أن يتجاوزوا رواسب هذا الظلم في موروثنا الثقافي وإلى تطهير الخطاب والمسلكيات من تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية الزائفة، كما دعى المواطنين جميعا إلى الوقوف في وجه النفس القبلي المتصاعد هذه الأيام والمنافي لمنطق الدولة الحديثة ولما يقتضيه الحرص على الوحدة الوطنية، وكذلك لمصلحة الأفراد أنفسهم، فليس ثمة ما هو أقدر على حماية الفرد وصون كرامته وحقوقه من وحدة وطنية راسخة في ظل كنف دولة قانون حديثة، وجدد الرئيس التأكيد أن الدولة ستظل حامية للوحدة الوطنية والكرامة، وحرية ومساواة جميع المواطنين بقوة القانون وأيا تكن التكلفة، وشدد على أنها لن ترتب حقا أو واجب على أي انتماء إلا الانتماء الوطني.
وفي خطاب الاستقلال ذكر فخامة الرئيس أنه حدث فاصل في تاريخنا غرس جذوره أبطال مقاومتنا الزكية وسقوها بمداد اليراع؛ في إشارة إلى الرفقة الميمونة للسيف والقلم في هذه الربوع؛ استجاشة ضد المستعمر ومواجهة له بالصفائح البيضاء والصحائف السوداء معا؛ استجلاء لشك البقاء والريبة في التبعية، وقطعه بأن أرض المرابطين ستظل حصنا منيعا للمنارة والرباط؛ وخدرا للقيم والمثل لايهتك ستره، ولا يتحول مسخا أوتدنيسا؛
أحيا الرئيس الأمل في الشباب حين خاطبهم بأنه يعول بعد الله سبحان وتعالى على تضحياتهم من أجل بناء دولة مزدهرة، مذكرا لهم بأنهم هم قلب الأمة النابض وعماد حاضرها وعدة مستقبلها، مشيرا إلى أن قناعته الراسخة في نهضة البلاد مرهونة بتوفير تعليم جيد وتكوين ناجح لهم، وتمكين الشباب من الولوج إلى سوق العمل والوصول إلى مراكز صنع القرار؛
وشدد فخامة الرئيس كذلك على أن الحكامة الرشيدة ومحاربة كل أشكال الفساد أمر لا مناص منه، فالفساد بطبيعته مقوض لدعائم التنمية بهدره لموارد الدولة وتعطيله المشاريع عن تحقيق أهدافها وإخلاله بالعدالة التوزيعية للثروة وهتكه قواعد دولة القانون بما يضعف ثقة الأفراد فيها ويصيب النسيج الاجتماعي في الصميم؛
وأكد فخامة الرئيس أن محاربة الفساد لن تكون شعارا؛ فتتحول هي نفسها إلى فساد؛ بالانتقائية وتصفية الحسابات، والوقيعة في أعراض الناس دون قرينة أو دليل؛ بل عملا مؤسسيا فعالا تصان به موارد الدولة وينال به المفسدون جزاءهم طبقا للنصوص السارية المفعول؛
وفي الأخير نرجو أن توفق قيادتنا في ترجمة كل هذه النقاط المضيئة الواردة في هذه الخطابات التي شكلت ثورة في المفاهيم وفي طبيعة خطابات القمة إلى القاعدة؛ ترجمة تليق بحجم الخطاب ومكانة الخطيب؛ تعكس الحقيقة في أبهى وأصدق تجلياتها، ونرجو لهم العون بكل معين أمين والخلاص من كل المفسدين المتلونين.