بقلم: المختار ولد الشين
ثلاثون عاما مرت على رحيل الزعيم الموريتاني التاريخي سيدي ولد حنن ولد الشيخ ولد سيدي ولد هنون (1913 -1991م)، وما تزال شمعات ضيائه تزداد ارتفاعاً وسموا منيرة درب المجدِ بسيرة عظيم من العظماء جوداً ورفعة وحاتميةً وكبرياءً على التقوى.
ثلاثون عاما.. كل ثانية فيها تزيد الصفاة الحميدة والخصال المجيدة للراحل العزيز انجلاءً وأهمية.
إنه سيدي ولد حنن الرجل الذي صان كل ذرة، وخدم كل نفس في هذا الوطن من حيث علمت أو لم تعلم.
حسناً.. كيف ذلك.
إن الذين عايشوا فارس بني داوود سيدي ولد حنن في حياتهِ من إخوته وأبنائه ومواطنيهِ يعلمون معنى هذا الكلام وجوهريته وحقيقته.
أما الذين لم يعايشوه بشكل مباشر أو غير مباشر فلنا أن نمنحهم نبذة عن الرجلِ الذي ترجل من دون كبوة ذاتَ يوم حزين قبل ثلاثة عقود.
دعونا نبدأ بتسلل مبسط لجهود الرجل وطنيا.
1. عايش الرجل ميلاد الدولة الموريتانية، التي تنازعتها القابلات، من دول الجوارِ، بل نازعت الوليدةِ في وأد ذاتها.. أو هكذا أريد لها.
لقد كانت هناك جهات وقبائل وتيارات اجتماعية وسياسية رفضت "الدولة الوليدة"، رفضت الاستقلال عن جوارها الإقليمي. كانت في الحوضين حركة قوية تسعى لإلحاق الحوضين بدولة مالي المجاورة. إنها جهات رأت أنها غير معنية بحوزة ترابية اسمها موريتانيا، وغير مقتنعة بجذور أخرى سواء اتصلت بالجسد أم لا.
كانَ هذا الأمر ليكون قاصمة ظهر المشروع الدولتي الوليدِ، لولا مبادرة "الولاء لموريتانيا" التي دشنها سيدي ولد حنن، ومن خلالها بيَّــن رفضه القاطع لتبعية غير موريتانية، لا مالية ولا مغربية.
سيدي رأى في رمال نواكشوط علوا أهمَّ من أبراج العالم التي تكتبت الأقاليم دون فطرة.
"لا شيء غير الدولة الموريتانية ولا ولاء لغيرها" وحين تقوم الوحدة العربية أو الإسلامية أو الإفريقية فسنكون في المقدمة. قبل ذلك نحن كيان مجتمعي تجمعه خصائص دولة استقلت قبل الجميع، بل وضعت الأساس لدول الجوار بدء من مراكش وممالك الإسلام في الساحل العربي الإفريقي.
بكل بساطة آثر سيدي ولد حنن اتباع أسلوب "أخي أقرب" فرفض الهجوم أو القطيعة مع معارضة الفصل والضم!.. وربط اتصالاتهِ برجالات المجتمع الموريتاني في الخارج. سوف نكتفي بعبارته البليغة للأمير الخالد ولد عمير. لقد خاطب سيدي ولد حنن ولد عمير قائلا "عدْ لبلدك.. فأن تكون شيخا تحت ظل شجرة أعزّ كرامة من أن تكون خادما تحت ظلّ جبل".
لقد كانت هذه العبارة كافية بالنسبةِ لشخصيات استثنائية كرفاق ولد عمير وغيرهم من الأطر ورجالات المجتمع الذينَ سعى البعض للإبحار بهم نحو هاوية الغرقِ.
2. إن سيدي ولد حنن كان رجل دولة، الدولة بالنسبة له هي "الكل" هي الهدف والوسيلة. هي الحوزة الترابية والحضارية الواجب حمايتها من كل الأطماع الأجنبية، والقلائل الداخليةِ. وكان صريحاً في تناوله لمفهوم الدولة و"قيمة دولة القانون" القائمة على المساواة في الواجبات والحقوقِ.
3. صحيح أن سيدي ولد حنن تولى زعامة عامة قبيلة "أولاد داوود"، بحكم النظم الاجتماعية، إلا أنه كان شيخ قبيلة بالمعني الإيجابي للقبيلة هو مدافع عن مقومات القبيلة الإيجابية من: صلة رحم، وتضامن وتآزر، وولاء لعموم المجتمع (الدولة)، وكان من أشدِّ المناوين للقبلية الجاهلية النتنة. وتمثل ذلك في حرصه الشديد على مساواة أبنائه ومواطنيه بغض النظر عن اللون أو الشريحةِ أو المستوى العلمي أو المادي. كانت الخدمة عِلْما أو خدَمِيةً بالنسبة له هي الشرف وهي المجد.
4. لم يكن ولاء الرجل للدولة الموريتانية ولاء مكاسب أو إبراء ذمة من تهم.
لقد بادر إلى تبني مشروع الدولة في شموليتهِ، فأخذ توجهات الدولة تطبيقا على الميدان وتثمينًا نظريا.
فمثلا بادر إلى تجاوز "إشكالية المدرسة" التي طُرحتْ للعديد من القبائل والجهات في البلاد على خلفية "التعليم الأجنبي"، فشجع التمدرس في المنطقة وفتح أول مدرسة في باسكنو حتى قبل الاستقلال (عام 1957)، وكان بحقّ مؤمنا بمشروع المدرسة الحديثة ومقتنعا "أن التعليم هو الحل".
وكان يمنح موظفي الدولة، مهما تدنت رتبهم أو مهامهم، مكانة عظيمة ويضع نفسه تحت تصرفهم في كلّ ما يقيم هيبة الدولة ويصلح شأنها ويعظمها في قلوب المواطنين. كان يولي للسكرتير عناية مماثلة لتلك التي يوليها للحاكم أو الوالي أو الرئيس. كانت الدولة بالنسبة لسيدي ولد حنن "رمزا متكاملا" وجسدا لا تفاضل بين أعضائه.
رجل العدل
كان سيدي ولد حنن يمتلك موهبة تعظيم شأن الناس. كان مدرسة أخلاقية ترى في كل شخص جوهرا إنسانيا يجب أن يعظم وأن يقدر وأن يحظى بالرعاية والتكريم والاحترام.
وعاش على رؤية لم تتغير منذ طفولته وإلى أن رحل إلى دار الخلد. لقد آمن بأن الكرامة الآدمية لا تصان دون عدالة. كانت العدالة بالنسبة له هي أيقونة الحياةِ ولب الحضارةِ. ولقد طبق العدالة باعتبارها هي الحياةِ، حتى عرف بعدالتهِ التي لا أثر فيها لغير الحقِّ.. عدالة ولد حنن تشبه بعدالة أبناء عمومته أمراء الترارزة محمد لحبيب وابنه سيد ولد محمد لحبيب. إنها نتاج المقولة الشائعة "إن في حياة المرء يومين لا ظلم فيهما: يوم يرى خيام أولاد أحمد مندمان ويوم القيامة".
كان سيدي ولد حنن رجلا يقيم العدل، وقد جاء بقاض على نفقته ليفض نزاعات المجتمع، وظلَّ يتحمل تكاليفه وتكاليف تطبيق العدالة بين المواطنين، ولم يتدخل يوما في حكم قضائي، وإن أخذ بعقله وماله دور إصلاح ذات البين وجبر الخواطر وإعانة المحتاجين.. وكانت حكمته وهمته وبذله تعين على تجاوز أعوص الخلافات وتسوى أبشع المظالم.
وكان لديه خط أحمر متعلق بدماء الناس وهو المعروف بعبارته لكل من جاءه قاتلا "سلم نفسك للدولة فلا مجال لغير العدل".
لقد كان سيدي ولد حنن يعلم دور الزعامات التقليدية والوطنية. كان يؤمن أن المجتمع أسرة لكل منها دور. وكان تأطيره ينحو منحى وضع قوة الزعامات الاجتماعية لصالح الدولة والمواطنين لا إفشاء قوتهم في عبثية الصدام. كان قادرا على استنفار حاسة الفطرة السليمة في أهل المكانة والجاهِ.
وبفضل حكمته، كان له مجلس يومي بحضور القاضي والسلطات الإدارية وكبار الشخصيات يتطرق لكل المواضيع من معالجة حالة مدنية أو اجتماعية، وإعانة محتاج أو مريض أو عابر سبيل، أو معالج إشكالات كثيرة مزمنة.
ومن نتائج ذلك مثلا نجاحه في توصل السلطات الإدارية إلى نظام ضريبي دقيق للسكان، يأخذ في الاعتبار وضعهم كمنمين، ومساعدين على ضبط الحدود وتقوية الأمن في المقاطعة والمنطقة، وبثّ جو الوئام بين المجموعات وبين المواطنين، ومحاربة الجريمة المنظمة والفرديةِ.
كان الرئيس المؤسس المختار ولد داداه رحمة الله عليه يعرف معادن الرجال، فحين طغت نبرة موالاة مالي (اتْمَوْليْ)، دخل باسكنو في ضيافة سيدي ولد حنن شيخ عامة أولاد داود الذي تسلم السلاح من الرئيس مباشرة مع عبارة داداهية خالدة "العرب لا يهدى لهم المال ولكن يهدى لهم السلاح"، ثمَّ قال له "هذه هديتك والحوض أمانة بين يديك".
وعندها نفضت مالي يديها من ملف الحوضين، كما لم يكن حشد "جيش التحرير" المغربي وهو يستقبل زعماء القبائل الموريتانية في مالي، ليحرك شعرة من رأس الزعيم الداوودي سيدي ولد حنن الذي رفض الاستجابة للرسالة التي بعثها له ملك المغرب محمد الخامس يطلب فيها من ولد حنن فتح الطريق لجيش التحرير.
لقد أوفدت نواكشوط وزير دفاعها لنقل التحية لسيدي ولد حنن على هذا الموقف التاريخي. حدث اختصرَ نتيجة حتمية هي أنّ موقف شيخ عامة أولاد داوود حسم موريتانية الحوضينِ وإلى الأبدِ، ومعها حسم هوية البلدِ واستقلاليتهُ وكرامتهُ.
إنه الرجل المبارك، والمشهور بهذه الصفة، لا مكان في قلبه للحقد، ولا سبيل للخوف والتردد إلى حشاشة روحه حين يتعلق الأمر بكرامةِ الوطنِ.. إنهُ الجواد الذي تحننُ بأمجاده المكرماتُ.. وإنه بدر يرحل دون أن ينقص من تراثهِ الضوئي شيئاً.
رحم الله سيدي ولد حنن فقد كان ملكا تاجه محبة الناس وخدمتهم والسعي في حماية الحوزة الترابية للبلاد.. في سبيل موريتانيا رفض منطق الانفصاليين وإغراء الملوك.. ليبقى في ذاكرة الوطنِ أيقونة خالدة إلى الأبدِ.
_______________________________________
المراجع:
1-Rapport d'ensemble sur ma Mission au Soudan français
Xavier Coppolani
#-كبولاني تقرير مفصل عن مهمتي في السودان المالي.
2- الشيخ محمد صالح بن عبد الوهاب، رحمه الله.
" الحسوة البيسانية في الأنساب الحسانية".
" وفيات الأعيان في المنطقة الشرقية”.
3-"كتاب الأخبار في أخبار الموريتانيين ومن جاورهم من النواحي المحيطة بهم/ المؤرخ هارون ولد الشيح سيديا رحمه الله.
4- "موريتانيا على درب التحديات".. مذكرات الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، رحمه الله.
5-Paul Marty. " Les tribus de la Haute Mauritanie". — Paris : Comité de l'Afrique française, 1915.
#-بول مارتي القبائل البيضانية في الحوض والساحل الموريتاني.
6-Paul Marty." L'émirat des Trarzas". (Collection de la Revue du monde musulman.
#-بول مارتي إمارة الترارزة.
7- "الطرفة المليحة في أخبار المنيحة" تأليف العالم المجدد محمد ولد أبي مدين، رحمه الله.