يتألف المجال الثقافي لمدينة آزوكي التاريخية الموريتانية من عدة بنى ثقافية يرتبط وجودها بالوسط الحاضن لها بما يشتمل عليه من منتوج ثقافي وظواهر طبيعية عريقة وأنظمة حياة عجيبة.
وتتفاعل هذه المكونات ضمن تناغم تاريخي وحياتي جميل: بين الواحات التي يرتبط تأسيس آزوكي بها حيث يقف النخيل شامخ الهامات يتحدى قحولة المناخ ويصارع عوامل التعرية في أرض لا تقبل أي نوع من الزراعة عدا غرس وتأبير النخيل.
ومع الزمن تحولت زراعة النخيل إلى نشاط اقتصادي ينتظم داخله ويعيش منه ومن أجله، سكان آزوكي الذين ينسجون حولها الملاحم والأساطير والتي يستلهم الشعراء منها عناقيد شعرهم وأهازيج قصائهم عندما يتغنون كل سنة بموسم التمور أو مهرجان «القيطنة» السنوي.
حاضرة النخيل المقدس
كل هذا يظهر رسوخ النخيل في الذاكرة الجماعية لسكان آزوكي الذين بفضله تمكنوا من البقاء قرونا بهذه المدينة التي تحولت إلى جزء هام من الذاكرة الجماعية وعنصر عريق من التاريخ المشترك.
وتحتضن واحات آزوكي أعرق واحات المنطقة اليوم، على 20 ألف نخلة يجري غرسها وتتواصل رعايتها واستغلالها بالأساليب التقليدية، بما في ذلك حفر قنوات الري.
وعبر الزمن، تحولت تنمية النخيل إلى حرفة تقليدية عريقة لكنها أصبحت اليوم على وشك التلاشي تحت تأثير الوسائل الحديثة التي يتيحها العصر.
أما الجانب الخاص في مدينة آزوكي فهو الجانب الأثري الذي يروي تاريخ المدينة ويحافظ عليه حيا ناطقا.
عاصمة المرابطين
مدينة آزوكي هي أول عاصمة لدولة المرابطين: إنها قلعة شامخة مبنية بالحجارة الصلدة محاطة بسياج تاريخي قوي مؤلف من عدة طبقات وعدة مستويات.
وازدهرت آزوكي عبر الزمن وظل عمرانها يزداد باطراد وهو ما تدل عليه الأبنية المكتشفة حول القلعة على مساحة كبيرة تمتد عدة أميال.
وكان البكري أول من تحدث عن مدينة آزوكي في القرن الحادي عشر الميلادي كما تحدث عنها ابن سعيد القلقشندي وابن خلدون.
على كتف سلسلة جبال آدرار، وعلى بعد 8 كيلومترات شمال مدينة أطار 450 كلم شمال نواكشوط، تنام أطلال مدينة آزوكي، العاصمة الثانية لدولة المرابطين، التي انطلقت منها طلائع جيوشها من صحراء موريتانيا.
بين الصخور والرمال
بين جبلين تقع المدينة الغافية تحت الرمال المتواشجة مع صخور آدرار (التي تعني الجبل) وهي مدينة ما زالت بحاجة إلى تنقيبات كبيرة لكي يحاور تاريخها ويستنطق، ولم تزل بكرا، لم تطمسها مقالع الأركيولوجيين الفضوليين.
تواجهك وأنت تدلف إلى موقع المدينة لوحة علقت على بوابة القلعة التي كانت تصد الأعداء، كتب عليها: بخط نسخ مشرقي متقن، موقع آزوكي الأثري وهذه اللوحة تذكرك بأنك في مكان غير اعتيادي، فهو ليس مهما على المستوى المحلي فقط، وإنما هو إرث لأبناء المغرب العربي بصفة عامة.
وتواصل اللوحة لتقول إن البكري قال إنها كانت تحوي عشرين ألف نخلة، وإن الإدريسي وصفها بأنها أول مراقي الصحراء، قبل أن تلفتنا إلى أن رحالين فرنسيين وأوروبيين زاروها ورسموا خرائط لها.
بقايا من بقايا
لم تبق الرمال والصخور التي اشتغلت على مدى تسعة قرون من مدينة المرابطين غير بقايا القلعة، حسب معلومات نشرتها وزارة القافة الموريتانية، التي يعرفها الساكنة المحليون بالقصبة، وهي حسب ما يتراءى للزائر بقايا السور الواقي الذي كان يحيط بالمدينة، وكان يحيط منازل متعددة ودارا للحكم ومكاتب للقضاء إضافة إلى المسجد الذي دفن بجانبه قاضي المدينة والشخصية الأبرز الإمام الحضرمي، لكن ركام الحجارة المتحالف مع الرمال أصر على أن يخفي عن الأنظار حضارة لم ينقب عنها أبناؤها حق التنقيب.
آزوكي أو الفخار المتكسر
المدينة التي يعني اسمها باللغة الصنهاجية في أحد تفسيراته، قطع الفخار المتكسرة، ظلت وفية للاسم، فقطع الفخار الذي كان الأوائل يصنعون منه أوانيهم لا تزال تتناثر في فوضى في المكان.
لكن آزوكي، ومنذ النشأة، ظلت وفية أيضا للتفسير الثاني لاسمها الذي يعني المتابة، أي مكان التوبة، فقد بنيت الدولة المرابطية على التوبة إلى الله، وكان أول محضن لها هو الرباط، حيث صحح الصنهاجيون علاقتهم مع ربهم وانطلقوا يفتحون البلاد باسم الله.
علماء وصلحاء
من بين العلماء الذين أنجبتهم بلاد شنقيط، وهم علماء عظماء أجلاء أبدعوا في ميادين العقيدة الإسلامية واللغة والفقه والرياضيات والمنطق، الإمام أبو بكر المُرادي الحضرمي الشنقيطي، الذي عرف باسم قاضي الصحراء، وهو إمام زمنه في علم المعقول والمنقول.
عاش الإمام الحضرمي في القرن الخامس الهجري وتوفي سنة 489 هـ ودفن بآزوكي في صحراء موريتانيا.
علامة آزوكي
في سنة 1981 ظهرت من كتاب السياسة لأبي بكر المرادي الحضرمي المتوفى سنة 1095م ببلدة آزوكي قرب مدينة أطار الحالية، طبعتان متزامنتان بعناية المحققين سامي النشار، ورضـــوان السيد، فــكــان ذلك بمـــثابة إيذان باستئناف القول حول واحد من أبرز أساطين الفكر في الغرب الإسلامي المرابطي.
ومن الطبيعي أن يجد عمل هذين الباحثين المشرقيين صدى أكبر في موريتانيا، هذا البلد الذي اختار الحضرمي المرادي أرضه وطنا نهائيا له بعد طول تجوال، فعرفته صحراء الملثمين في القرن الخامس الهجري قاضيا مطاعا، ثم اكتشفته في القرن الحادي عشر وليا ملهِما.
ويبدو أن نشر كتاب السياسة سنة 1981 كان مناسبة لاكتشاف ثالث تجلى فيه المرادي معقوليا متكلما وفيلسوفا سياسيا براغماتيا.
تسجيل في التراث
طالب منتخبون وناشطون في مجال الثقافة والتاريخ الموريتاني، بصيانة وترميم قلعة المرابطين الأثرية في لقصيبة في ولاية آدرار، والعمل على تصنيف منطقة آزوكي الأثرية على لائحة اليونسكو للتراث الإنساني العالمي.
وطالب هؤلاء الناشطون بالمزيد من رعاية ضريح الإمام الحضرمي، والمقبرة القديمة التي يوجد فيها منذ زهاء ألف عام، إضافة إلى فتح مكتبة في آزوكي خاصة بتاريخ دولة المرابطين.
وتسعى هيئة آزوكي للثقافة والتراث ـ بحسب القائمين عليها، إلى صيانة الذاكرة الجمعية لمدينة آزوكي، والعناية بالمدينة، وترسيخ مقوماتها الثقافية والسياحية والتنموية.
وكانت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو» قد صنفت مؤخرا، مدينة آزوكي والمعالم الموجودة فيها، وبعض الأماكن الأثرية في موريتانيا كتراث إسلامي.
جوهرة سياحية
ومدينة آزوكي ليست أطلال مدينة عظيمة فقط، بل إن المنطقة بواحات النخيل فيها وبالمناظر الطبيعية الخلابة جبالا وحجارة، سفوحا ومنحدرات، أصبحت محط اهتمام من طرف السياح الأجانب وخصوصا القادمين من أوروبا حيث يحرصون على زيارة آثار المدينة المرابطية القديمة والتجول في المنطقة التي انطلق منها فتح هبت رياحه على بلادهم قبل قرون.
هيئة آزوكي
أسس ناشطون ومثقفون من ولاية آدرار مطلع تسعينيات القرن الماضي، منظمة للعناية بمدينة آزوكي تحت مسمى «هيئة آزوكي للثقافة والتراث» يرأسها الوجيه الكبير عينينه أييه ويتولى أمانتها العامة الشاعر الموريتاني سيدي ولد الأمجاد.
وتتولى السهر على صيانة الذاكرة الجمعية لمدينة آزوكي والسهر على الشراكة التي تربطها مع العديد من الهيئات الوطنية والدولية العاملة في مجال الثقافة والتراث.
ومنذ تأسيس الهيئة حتى اليوم جسدت برنامجا طموحا للعناية بمدينة آزوكي وترسيخ مقوماتها الثقافية والسياحية والتنموية بجهود مثمرة من الجميع.
مدينة آزوكي التاريخية واحدة من أقدم المدن الأثرية في موريتانيا، وهي مهد دولة المرابطين في هذه الربوع وحاضرة الإمام الحضرمي محمد بن الحسن المرادي قاضي المرابطين الذي استشهد فيها مجاهدا عام 489 هجري ولا يزال ضريحه فيها حتى اليوم مزارا دينيا مقدسا يؤمه الناس من كل حدب وصوب
تعود نشأة آزوكي التي تقع في ولاية آدرار شمال موريتانيا على بعد 7 كلم فقط من عاصمة الولاية أطار، إلى بداية القرن الخامس الهجري وكانت في هذه الفترة مدينة مزدهرة من الناحية الحضارية والعمرانية وفيها شوارع منظمة وملتقى للقوافل التجارية بين منطقة الغرب الصحراوي وأفريقيا والمغرب العربي، كما يقول الباحث الدكتور محمد يحي ولد باباه في دراسة كتبها عنها قبل سنوات.
وقد ذكر آزوكي المؤرخ العربي الشهير أبو عبيد البكري في كتابه «الممالك والمسالك» وقال إنها كانت في القرن الخامس الهجري تؤوي في جبلها عشرين ألف نخلة مما يعني انها من أقدم مدن الواحات في تاريخ موريتانيا.
في عمق التاريخ
يقول سيدي الأمجاد الأمين العام لهيئة آزوكي للتراث والثقافة لـ «القدس العربي» حول تاريخ المدينة «تأسست آزوكي على يد أمير المرابطين ابو بكر بن عمر في موقع استراتيجي حيث تحف بها الجبال من كل الجهات وفيها آنذاك منفذ واحد يؤدي إليها هو فم شور الممر القديم الذي كانت تسلكه القوافل».
وقد استقدم إليها ابو بكر بن عامر الفقيه الأندلسي القيرواني الإمام الحضرمي، للتعليم والقضاء فيها بعد ان أصبحت عاصمة لدولة المرابطين الأولى في موريتانيا قبل فتح مراكش في المغرب».
كتاب على جلد غزال
يعد كتاب «الإشارة في تدبير الإمارة» الذي ألفه الإمام الحضرمي في شؤون تنظيم الدولة والحكم بطلب من الأمير أبو بكر بن عامر، أول مخطوط عثر عليه في تاريخ الثقافة الموريتانية بحسب باحثين موريتانيين، وكان مكتوبا على جلد الغزال، وهو كتاب في السياسة ونظام الحكامة الرشيدة يماثل في محتواه كتاب «الأحكام السلطانية» للإمام الماوردي وقد تأثر به المفكر الإيطالي ماكفيلي في كتابه «الأمير» كما تؤكد ذلك عدة مصادر عدة.
وحقق كتاب «الإشارة» الدكتور سامي النشار من مصر والمفكر اللبناني وأستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور رضوان السيد الذي عثر عليه نهاية السبعينات في إحدى المكتبات الألمانية وأنجز عنه أطروحته الدكتوراه.
وتوجد النسخة الأصلية من مخطوط الكتاب حاليا في المعهد الموريتاني للبحث العلمي والتكوين في مجال التراث.
حصن المرابطين
كشفت الحفريات الأثرية الأولى من نوعها التي قام بها المعهد الموريتاني للبحث العلمي قبل عقود بدعم من التعاون الفرنسي عن حصن المرابطين الأول في قلعة «لكصيبه» الأثرية لآزوكي؛ حيث لا تزال أطلال القلعة وبعض مكونات السور حولها بارزة حتى الآن مثل دار القضاء والحكم والحصن العسكري، في حين توجد الكثير من منازل المدينة القديمة حتى الآن مطمورة تحت الرمال المتحركة التي زحفت عليها عبر القرون.
كنوز أثرية
كشفت التعقيبات عن كنوز دفينة مثل قطع الفخار والأواني ومعدات كانت مستخدمة في تلك الفترة كما تم العثور أيضا على قطع من الدينار المرابطي الذي كان أول عملة نقدية تستخدم في موريتانيا، وتوجد كل هذه المقتنيات النادرة الخاصة بمدينة آزوكي حاليا في المتحف الوطني بنواكشوط.
نقص التمويل
توقفت التنقيبات الأثرية في آزوكي مطلع عام 1981 بسبب نقص التمويل وعانت المدينة من الإهمال والنسيان ولا تزال بحاجة ماسة إلى من ينفض عنها غبار التاريخ خاصة بعد تصنيفها مؤخرا من طرف منظمة الاسيسكو على لائحة التراث الإسلامي؛ وهي قبل ذلك مصنفة على لائحة التراث الوطني الموريتاني منذ أزيد من عقد ونصف وعلى اللائحة التمثيلية لمنظمة اليونسكو مرشحة كتراث عالمي للإنسانية وكموقع طبيعي وتاريخي هام.
الحكومة والشركاء
في ايلول/سبتمبر الماضي 2020 زار وزير الثقافة الموريتاني الحالي لمرابط ولد بناهي مدينة آزوكي، حسب تأكيدات الأمين العام لهيئة آزوكي، وتعهد بإعطائها اهتماما خاصا وأولويا كمهد لدولة المرابطين. «وستعمل وزارة الثقافة الموريتانية، يضيف سيدي الأمجاد، على صيانة وحفظ موقع حصن لكصيبة الأثري فيها، وعلى الاهتمام بمتحف التراث الموجود فيها وبضريح ومقام أشهر رجالاتها الإمام الحضرمي، وفق خطة عملية بدأ الإعداد لها والتنسيق في إطارها مع هيئة آزوكي للثقافة والتراث المهتمة بالذاكرة المشتركة لعاصمة المرابطين الأولى والتي يرأسها السيد عينين ولد أييه».
هيئة آزوكي
تأسست هذه الهيئة مطلع التسعينيات وتضم نخبة من مثقفي وأطر هذه المدينة التاريخية، وهي تنشط في مجالات النهوض الثقافي والتنموي بآزوكي والحفاظ على تراثها العريق وآثارها التاريخية.
وقد نظمت الهيئة العديد من الأنشطة ونفذت مشاريع تنموية لصالح السكان، ولها شراكات دولية وعربية مختلفة في هذا المجال.
وفي المجال العلمي، يقول الأمين العام، نظمت الهيئة عام 1995 في العاصمة نواكشوط، ولأن آزوكي تشكل قنطرة تواصل ثقافي وحضاري مع الأندلس من خلال المرابطين، فقد اهتمت هيئة آزوكي للثقافة والتراث بالتعاون مع السفارة الإسبانية في موريتانيا ومركز أمجاد للثقافة والإعلام ندوة فكرية بعنوان «المرابطون تاريخ مشترك بين موريتانيا وإسبانيا» شارك فيها باحث وخبير إسباني من جامعة غرناطة، كما استقبلت الهيئة بعد ذلك رئيس مؤسسة البيت العربي في مدريد مع وفد ثقافي إسباني مرافق له في إطار تعزيز الشراكة بين الجانبين.
مدينة أثرية تستغيث
تحتاج مدينة آزوكي الآن، رغم ما بذله الخيرون، أكثر من أي وقت مضى إلى العناية بآثارها، ولترميم قصبتها الآيلة للسقوط بفعل عوادي الزمن، كما تحتاج بصفة ملحة إلى عمليات تنقيب منهجية عن منازلها المطمورة تحت الرمال، لتتم استعادة جزء من الذاكرة المرابطية والموريتانية المطمورة تحت الأرض، فهل تجد آزوكي أو آثارها على الأصح صدى لاستغاثتها التي تطلقها آثارها ويرددها تاريخها؟
عبد الله مولود
نواكشوط-»القدس العربي»