امم ولد عبد الله
كانت وُعود فخامة الرئيس مغريةً؛ بصراحتها وبلغتها السلسة؛ وبأساليبها التي لامست هوى في وجدان شعب أنهكته الشعارات الفارغة.
بدا الرجل صادقاً خلال حمتله الانتخابية؛ فغيابه عن المشهد طوال عشرية عزيز؛ جعل الجميع يُكن له احتراماً خاصا؛ نظرا للآمال الكبيرة المعلقة عليه .
صحيح أن ثمة محاولات لتشويه غزواني؛ لكنها لم تلق صدى؛ على الأقل؛ خلال السنة الأو لى من حكمه.
ومع نهاية السنة الثانية؛ تغيرت أمور كثيرة؛ حيث ازدادت حدة التذمر نتيجة لعوامل عديدة؛ أبرزها الارتفاع الصاروخي للأسعار وإصرار الرئيس على التمسك بالأوجه ذاتها؛ التي أصبح مجرد ذكر أسمائها في وسائل الإعلام يُعيد للذاكرة الجمعية ثلاثين سنةً من تكريس الجهوية؛ والقبلية والشرائحية وتبديد المال العام.
لم يعد خافياً على المتابعين تذمر الشارع الموريتاني مما يُسمى بإعادة تدوير المفسدين؛ أو ما أطلقت عليه في مقال سابق إشكالية الدوران في الحلقة ذاتها.
والحق أن إجابة فخامة الرئيس على السؤال المتعلق بالتدوير الذي طرحه أحد الصحفيين؛ أعادت إلى الأذهان وبقوة عقدة الشعارات الفارغة التي يرفعها كل رئيس جديد؛ حين قال مامضمونه إن الذين نصفهم بالمفسدين هم كفاءات والبلد بحاجة لخبراتهم.
هذه المقاربة -تمسك الرؤساء باللو بيات ذاتها- هي التي أدت في السابق لضرورة حدوث حركات اهتزازية لجعل الدولة قابلة للاستمرار. لكن الوضع اليوم يختلف جذرياً عن سياقات تاريخية مشابهة؛ بحكم ما تشهده شبه المنطقة من حراك تتناغم فيه مطالب الشعوب مع إرادة للتغيير في أوساط الفئات الشابة من المؤسسة العسكرية.
تكمُن معظم المخاطر التي تهدد النظام الحالي؛ بحسب مهتمين؛ في استمرار الرئيس في مجاملة طبقة سياسية؛ لم تعد مستعدة لفهم التحديات التي تواجه الشباب العاطل عن العمل وآلاف الموظفين الذين يعيشون بطالة مقنعة؛ ناهيك عن ملايين الفقراء الذين يشاهدون يومياً عشرات الفيديوهات لأبناء نافذين وهم يبددون ثرواتهم ؛ في الوقت الذي يتحدث فيه آباؤهم على وسائل الإعلام الرسمية عن الإنجازات ومحاربة الفساد والمفسدين وعن تمسكهم بتأييد برنامج رئيس الجمهورية..
إن انتصاف المأمورية الأولى بالوتيرة ذاتها؛ بدد الكثير من الآمال المعلقة على ولد الشيخ الغزواني؛ الذي يبدو أن حاشيته تدفعه لتكرير نفس الأخطاء التي ارتكبها من سبقوه؛ غير آبهة بالأضرار المترتبة على مغامرة الإبحار بسفن شراعية في مواسم الأعاصير الجيو سياسية.
المؤسف أن العادة في بلدنا جرت على أن الضحية هو آخر من يعلم؛ فقد كان رؤساء مور يتانيا على مر التا ريخ؛ مجرد ضحايا؛ إما لشيطنة كل من يحاول إظهار جزء يسير من الحقيقة المؤلمة لهم؛ أوعن طريق تزويدهم بمعلومات خاطئة من حاشيتهم القريبة؛ كلها أمور جعلتهم يتمسكون بأشخاص بعينهم؛ سبيلا للتخفيف من المخاطر المحدقة؛ أو الحفاظ على إنجازات وهمية؛ والمفارقة أن المستميتين بالأمس في الدفاع عن الرساء "في الظاهر"؛ هم أول من يتخلى عنهم عند أو منعرج من منعرجات تغيير الواجهة.
هذا الخلل البنيوي في العلاقة بين رأس السلطة ومحيطه المعروف في أدبيات السياسة بالأغلبية " المؤقتة" يدفعنا لطرح السؤال الذي يمس إشكالاً في غاية التعقيد؛ وهو هل مازال هناك وقت للإنصاف؟
مبدئياً لست ضد إعادة تعيين كفاءات استطاعت أن تثبت أمانتها ونزاهتها بعد توليها مناصب سامية؛رغم قلتها؛ لكنني أجد صعوبة -كسائر المتابعين- في فهم ظاهرة اختطاف رؤساء موريتانيا من قبل أفراد يعتمدون على منهج الوهم والتوهيم؛ لإقناع الرئيس والمواطن العادي بأنهم هم وحدهم الورثة الشرعيون لكل موارد الدولة ومنصابها السامية؛ ولعل هذا هو السر في قدراتهم الخارقة على قلب الطاولة على كل أولياء نعمة الأمس.
لقد مرت قُرابة السنتين ونصف على تولي الرئيس غزواني لمقاليد السلطة؛ وأعتقد أنها فترة زمنية كافية لإعادة النظر في الكثير من الأمور الباعثة على التوتر بطبعها (كالإقصاء والتهميش وإعادة تدوير المفسدين...)؛ لكن التحدي الحقيقي يكمن في تصور آليات لإنصاف جاد يُخرج البلد من أزمة باتت تُعيد إنتاج العوامل ذاتها التي كانت السبب في تهيئة الظروف للبيان رقم واحد.
فلا التغيير الجزئي أو الكلي لأعضاء الحكومة؛ الهادف بطبعه لتهدئة الرأي العام؛ يمكنه حل المشكلة؛ في حين أن استمرار وزراء في مناصبهم بعد عامين ونصف رسخ نهج المحسوبية والزبونية؛ وهو ما أثبتته نوعية التعيينات في الإدارات المركزية وحتى في المصالح والأقسام.
مايعني بالضرورة أن معظم الوزراء الذين تم تعيينهم في عهد ولد الشيخ سيديا أصبحوا جزءا من إكراهات مركبة؛ تحتاج تدخل الرئيس وبصورة عاجلة لوضع إستراتيجية فعالة؛ تستجيب للتحديات المطروحة؛ قائمة على إنصاف فقراء هذا البلد وكفاءاته؛ بعيدا عن المعايير الثلاثية لل UPR التي رسخت منطق الشريحة والقبيلة والجهة؛ ولاشك أن الاستمرار في الاتجاه نفسه؛ يعتبر تحريضاً خطيرا على النظام وعلى الدولة الموريتانية؛ التي تحتاج لمن ينصف مواطنيها في هذا الظرف الحرج؛ الذي يبدو من تجارب دول إفريقية؛ أن الخاسر الأول فيه هي الأتظمة بالمعنى العميق للكلمة