د.محمد ولد عابدين
أستاذ جامعي وكاتب صحفي.
دعوت فى مقالات سابقة إلى تشكيل حكومة جديدة منسجمة ومتماسكة ؛ قادرة على الإنجاز والأداء والعمل بروح الفريق ، رفعا للتحديات ومواكبة للتطلعات وتنفيذا للتعهدات ، وأكدت على ضرورة مؤازرتها بذراع سياسي فعال يكون بحجم المرحلة ومقاسها ، ومشهد إعلامي قوي يعكس قيمها وخطابها ، ويمكننى اليوم القول بأن قاعدة هذا الثالوث قد أنجزت - فى انتظار اكتمال بنائه الهندسي- وذلك بعد تشكيل حكومة جديدة خرجت من رحم خطابات سياسية وخرجات إعلامية لرئيس الجمهورية ، امتازت بمنهج المكاشفة والمصارحة ، وأبانت عن إحساس عميق ومرير بالأخلال البنيوية والمشاكل الجوهرية للبلد.
إن بلدنا يمر بلحظة مفصلية وتواجهه تحديات أمنية وتنموية - إقليمية ودولية ، وتنتظره استحقاقات مصيرية وأجندات سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة ؛ فى مقدمتها تداعيات الجائحة الصحية وانعكاسات الحرب الروسية - الأوكرانية التى ضربت الاقتصادات العالمية ، وعمقت أزمة الغلاء وفاقمت صعوبة الحالة المعيشية ، فضلا عن الرهانات التنموية والأمنية والمخاطر الجيو - ستراتيجية المحدقة الناجمة عن الانفلات الأمني وحالات التوتر فى الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا.
وفى ظل هذه الوضعية الإقليمية والدولية الصعبة ، يتعين الشروع فى إطلاق ورشات تنموية تمهد لعمل مؤسسي جاد ؛ يحدث جملة تحولات عميقة وإصلاحات جذرية وشاملة ، وسأعرض فى هذا المقال لجملة من الأفكار والمقترحات ، أراها فى طليعة رهانات المرحلة وأولوياتها التى يتعين على الحكومة الجديدة أن تشرع فى صياغة مقاربات ناجعة لتحقيقها ، وبلورة سياسات فعالة لتنفيذها :
1- الإشراف على تنظيم تشاور وطني شامل يثمر خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة ؛ مستجيبة لمطالب وتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى خلق إجماع وطني وصياغة " عقد جمهوري " قادر على بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي ؛ فاللحظة تاريخية من أجل تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، وتحتاج فقط إلى نخبة وطنية تقود تحولا مجتمعيا ، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية.
2 - وضع وتنفيذ استراتيجات جادة وفعالة لمحاربة الفقر المدقع ، وتعزيز نهج التكفل بالمعوزين للتخفيف من وطأة الفاقة والبؤس الاجتماعي ؛ ويتعين فى هذا السياق مراجعة برامج وسياسات " تآزر " وتفعيلها وتنويعها لتصبح آلياتها أكثر نجاعة وسرعة فى دعم ومؤازرة الفئات الهشة والمغبونة ، مع التنويه ببعض المكاسب الطيبة المتحققة على مستوى السياسات الاجتماعية ومحاربة الفقر فى النصف الأول من المأمورية.
3 - تعزيز المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية ؛ من أجل مواصلة التصدى الحاسم للجريمة داخليا ، ومواجهة التحدى الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة فى شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية ، فلاشيئ يعدل مكسب الأمن والاستقرار فى منطقة يجتاحها التطرف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية...وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة.
4 - التأسيس لمرحلة جديدة من محاربة الفساد بلا هوادة ، فمهما كانت وتيرة التطوير والبناء وحجم مشاريع الإعمار ؛ فلاتنمية فى ظل غياب قيم الحكامة الرشيدة وحسن التسيير ؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء ، فلامندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية ، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهرالفساد وأشكاله المقنعة ؛ من خلال انتهاج استراتيجية وقائية استباقية في هذا السياق ، تنطلق من تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها ، وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها ، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة فى التعيينات ؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم " مظنة للإصلاح " وإقصاء و إعفاء " أصحاب السوابق " فى سوء التسيير ونهب المال العام.
5 - إطلاق نهج جديد فى الحكامة ؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه فى التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف ؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة ؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة فى جودة الحكامة وحسن التسيير.
6 - ضخ دماء جديدة فى الجهاز الحكومي والإداري تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية ، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذى يضمن فعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي ، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة ؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
7 - وضع رؤية شاملة لتطوير الإدارة وتحديثها ورقمننها ؛ وتقريب خدماتها من المواطنين والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري والرشوة والزبونية ، وتجذير قيم المواطنة وتحرير الموظف العمومي من ربقة الانتماءات الضيقة السياسية و الحزبية والاجتماعية والجهوية والعرقية والقبلية ، وتكريس ولائه المطلق لمصلحة الوطن وخدمة المواطن.
8 - تكثيف ومضاعفة الجهود الحكومية المبذولة ؛ من أجل مواكبة ودعم المواطنين من المحتاجين والفئات الهشة ومحدودى الدخل باستحداث جملة من البرامج والمشاريع وخلق الفرص المدرة للدخل ، وتفعيل سياسات التشغيل لضمان تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي ، والعمل على الحد من إشكالية ارتفاع الأسعار ؛ عن طريق تسريع وتفعيل صلاحيات الآلية الوطنية المستحدثة لهذا الغرض والتنسيق مع الموردين ورجال الاعمال وتفعيل آليات رقابة السوق.
9 - العمل على خلق بيئة مستقطبة وجالبة للاستثمارات الخارجية ؛ من خلال تفعيل قواعد وآليات الحكامة وإشاعة قيم ومبادئ الشفافية فى الحياة العامة ، وتطوير وتحسين المدونة القانونية والترسانة التشريعية والمؤسسية المنظمة لحقل الاستثمار ، نظرا لدوره المحوري فى النهوض الاقتصادي وإطلاق قاطرة التنمية.
10- التركيز على الاستثمار فى قطاعات الثروة المتجددة ؛ بوصفها قطاعات حيوية ذات قيمة مضافة عالية مثل : الزراعة والتنمية الحيوانية والصيد ، تأسيسا على دورها المحوري فى تفعيل الاقتصاد المحلي ، وتحقيق الأمن الغذائي ، وتوفير الاكتفاء الذاتي ، وخلق فرص التشغيل ، عبر إحداث تناغم بين القطاعين العام والخاص ، يتجسد فى نسج شراكات عميقة ومثمرة وبناءة.
11 - ضرورة إصلاح قطاع الصحافة والتأسيس لخطاب إعلامي جامع ؛ قادر على التعبير عن نبض المجتمع ، مساهم فى صناعة وتشكيل الوعي ، منسجم مع أهداف وأولويات التنمية البشرية ، مستجيب للرهانات المهنية والمؤسسية ؛ من خلال تنفيذ رؤية إصلاحية جديدة للحقل ؛ تسهم فى التمهين والتمكين لقيم العمل الصحفي الناضج ، وترسيخ وتجذير خيار الحرية والتعددية المقترن برهانات الوعي والمهنية والمسؤولية.
12 - العمل على تنفيذ حزمة مشاريع هيكلية ذات أبعاد ورهانات استراتيجية مستقبلية ، تسهم في جلب استثمارات معتبرة وإقامة مشاريع عملاقة وخلق فرص تشغيل مباشرة ؛ عبر قطاعات ديناميكية متعددة وآفاق اقتصادية واعدة ، تراعى الحاجات التنموية والخصوصيات المحلية للاقتصاد الريفي ، وتسعى فى الوقت ذاته إلى تطوير وعصرنة البنى التحتية وتعزيز وتوسعة المنشآت الخدمية الضرورية فى مجالات التعليم والصحة والمياه والطاقة ، مع ضرورة تعميق الاستفادة من قطاع الثروة الحيوانية ؛ العمود الفقري للاقتصاد الريفي.
وعموما فإن الحكومة الجديدة تواجهها رهانات محلية وإقليمية ودولية كبيرة ، وهي مطالبة بالارتقاء بمستوى أدائها والإسراع فى وتيرة إنجازها ، مع قوة الاستشراف ودقة التخطيط وعمق التفكير فى برامجها ومقارباتها وسياساتها التنموية ، وهي تراعى فى كل ذلك مسارين متوازيين ؛ مسار ظرفي آني استعجالي غرضه التخفيف من وطأة الفاقة وشح الموارد وحدة الأزمات ، ومسار استراتيجي مستقبلي استشرافي غايته النهوض والإقلاع بالبلد ، وجعله فضاء للإنجاز وبوابة للتنمية.