لقد كشفت محاضر التحقيق المسربة أن الوطن تعرض خلال العشرية الماضية لأكبر عملية اختلاس شهدتها البلاد منذ عقود.
إن هذه الوثائق ورغم ما كشفته من فساد وسوء تدبير النخبة الحاكمة خلال العشرية الماضية، إلا أنها أيضا تعتبر جرس إنذار لخطر زوال الدولة، وانهيار لحمتها الاجتماعية، وبنيتها المؤسساتية.
إن المحاضر كشفت أيضا هشاشة الأجهزة الرقابية للدولة : الإدارية والقضائية والتشريعية، فكل هذه المبالغ الكبيرة تمت سرقتها في غفلة أو تغافل من تلك الأجهزة الرقابية؟
أمر آخر لا يقل خطورة عن تدمير الثروة الوطنية وهو تدمير الأخلاق وقيم المجتمع خلال العشرية الماضية. فتعاطي رجال النظام السابق مع الملف يوضح حجم التردي الأخلاقي الذي وصلنا إليه للأسف، فالقوم يتبادلون الاتهامات وكل يلعن الحكم الذي كان ذات يوم أحد ركائزه و المدافعين عنه بشراسة تصل حد الفجور في القول اتجاه الخصوم المعارضين.
اليوم ونحن في لحظة المحاسبة لم نر أيا من أولئك المسؤولين يعلن خطأه ويعتذر للشعب على الأقل عن ما ارتكبه اتجاهه من فساد وتبذير للمال العام.
لا بل نراهم يتسللون الواحد تلو الآخر للعودة من النافذة للواجهة السياسية والإدارية للنظام الحالي، وهو للأسف ما يبدو أن في حاشية الرئيس من يساعد هؤلاء على العبور وكأن هذا الشعب كتب عليه الرضوخ لجلاديه وسارقي ماله العام.
إن غض النظام الطرف عن هؤلاء ممن تحوم حولهم تهم الفساد، والسماح لهم بالعودة لمناصب ما زالت "سرقاتهم" منها محل متابعة وتحقيق، يعتبر مؤشرا سلبيا حول جدية نظام الرئيس ولد الغزواني في محاربة الفساد وسوء التسيير.
ليس من المعقول أن تستنفر الدولة مؤسساتها القضائة والأمنية والإعلامية لمحاسبة نظام وكشف عوراته التسييرية، ثم يتم انتقاء رجال ذلك النظام الواحد بعد الآخر دون اعتبار لرأي عام ولا مصداقية للدعاية الرسمية التي أوضحت للمواطن أنه كان خلال العشرية ضحية فساد وتدمير لم تشهد البلاد له مثيلا.
فهل يمكن أن يكون هذا الفساد كله تم من طرف شخص واحد؟؟ و إذا افترضنا أن الرئيس مفسد فمن المسؤول عن لجم المفسد أيا كان منصبه ورتبته خلال مزاولته لمهامه؟؟
إن المواطن اليوم يقف حائرا فهو أمام نظام اعترف له بفساد العشرية وسوء تسييرها، لكنه في نفس الوقت يرى رجال تلك العشرية يمسكون بأهم الملفات والمشاريع و يتصدرون المشهد السياسي للنظام؟
لعنة. العشرية
إن استمرار النظام الحالي في تقريب رموز العشرية رسالة سلبية اتجاه المواطن وكأن هناك في نظام غزواني من يعمل على نشر الإحباط في نفوس المواطنين ويقتل فيهم الأمل وكأنه يريد أن يدفعهم للخروج للشارع رغم ما يترتب على ذلك من مخاطر انتشار الفوضى ، فالمواطن لم يعد لديه ما يملك ، فحتى الأمل في غد أفضل صادروه منه.
ليس من المنطقي أن يسمع المواطن الفقير يوميا أن ثلة من الأشخاص استحوذت على مئات المليارات من المال العام وهاهي تتباهى بها أمام أعينه وكأن شيئا لم يكن.
من غير المعقول كذلك أن يكون أحدهم قبل سنوات قليلة بالكاد يملك قوت عياله إذا به اليوم يسبح في عشرات المليارت المختلسة من المال العام.
على الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يعلم أن الضغط لا يولد سوى الإنفجار، وأن أكبر ضغط على المواطن هو تمكين المفسدين و منحهم الثقة والضرب صفحا بمشاعر الفقراء.
إنه من غير المبرر انتقاء الملفات لمحاسبة البعض وتبرئة البعض الآخر رغم القرائن. والأدلة المدينة له .
حان الوقت لوضع أسس جديدة للحكم تعتمد الكفاءة والنزاهة وحسن التدبير، كما حان الوقت لوضع حد للسياسة البائدة والتي تعتمد على محاسبة الخصم وتشويهه وتبرئة الصديق رغم تلطخ يداه بالفساد والمحسوبية.
إن هذا البلد لا يعاني من أزمة شرائحية، بقدر ما يعاني من الغبن والتهميش وهما أكبر داء قد يعصف بكينونة واستقرار الأوطان. إن أكبر عبودية في هذا الزمن هو تمكين ثلة قليلة من رقاب المواطنين و خيرات بلدهم ومناصبه يتقاسمونها بينهم.
لقد عانى الموطن في العشرية الماضية من سطوة مسؤولين اقتطع لهم نظام ولد عبد العزيز مقاطعات بل ولايات بأكملها يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، يعزلون من يشاؤون ويدوسون على كرامة المواطن ويحرمون كل مخالف لهم أبسط حقوقه في التوظيف أو الترقية.
إن هذه المسلكيات هي ما يعاني المواطن منها وعلى النظام الحالي إن كان يريد بناء دولة المواطنة و القانون ، أن يبعد عن القرار وزراء عزيز الذين دمر بهم البلاد و أهان بهم العباد، فموريتانيا مليئة بالكوادر الوطنيين من أصحاب النزاهة والكفاءة ويستحقون على النظام أن يمنحهم الفرصة كما منحت لغيرهم في الأنظمة السابقة.
موسى ولد إسلم