إعداد: إسلمو ولد سيدي أحمد محمّاده.
في مقال سابق، بعنوان: "العمل العربيّ المشترك على المحكّ"، نُشِر سنة 2014م، بمناسبة انعقاد القمة العربية الخامسة والعشرين بالكويت، تحت شعار: "قمة للتضامن من أجل مستقبل أفضل"، قلتُ إنّ مؤسساتِ العمل العربيّ المشترك، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، لم تُوفَّق في التصدي لما تعرضت له بعض البلدان العربية من تهديد للأمن القوميّ العربيّ، ولم يحالفها الحظ في رأب الصدع وتسوية الخلافات العربية قبل استفحالها وخروجها عن السيطرة. من ذلك-على سبيل المثال لا الحصر- ما يأتي:
1-لم تستطع أن تحل الخلافاتِ العراقيةَ الكويتيةَ في مهدها حيث تركتها تزداد حدة وتفاقما إلى أن وصلت إلى احتلال الكويت، ثم تدمير العراق (دولةً ومؤسساتٍ وبنًى تحتيةً)، والزج بمواطنيه في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر ولا أحد يستطيع التنبؤ بنهايتها ولا بتداعياتها على أمن المنطقة، بصفة خاصة، وعلى الأمن العربيّ والدوليّ، بصفة عامة.
2-لم تتمكن هذه المؤسسات من معالجة الأوضاع التي تفجرت في أقطار عربية أخرى أدت تداعيات بعضها (مثل: ما حدث في ليبيا) إلى تدخل جيوش أجنبية، وما ترتب على ذلك من تدمير للبلد وترك مواطنيه يتصارعون على السلطة، مثل ما حدث في العراق، الأمر الذي يدل على أنّنا لم نستفد من الدرس العراقي.
3-لم توفق في إيجاد مخرج من الحرب المدمرة في سورية، على الرغم من خطورة الوضع وانسداد أيّ أفق للحل.
4-إخفاق مؤسسات العمل العربيّ المشترك، ومن بينها اتحاد المغرب العربيّ، في تنقية الأجواء بين الدول الأعضاء في هذا الاتحاد، ولا أدلّ على ذلك من أن الحدود مغلَقة بين عضويْن مهميْن من أعضائه (المغرب والجزائر)، ممّا يحول دون المزيد من التعاون والتكامل والاندماج المغاربيّ.
واليوم ونحن نستعد لعقد قمة عربية بالجزائر، فقد ارتأيتُ أن أعود إلى الحديث مرة أخرى عن العمل العربيّ المشترك؛ مركزا على أهمية المحاور التسعة الآتية:
تنقية الأجواء السياسية. نبذ العنف السياسي. التنمية البشرية. التكامل الاقتصادي. وضع خُطة سياسة لغوية موحّدة. موقف موحّد من القضية الفلسطينية. إحياء التعاون العربي الإفريقي. موقف موحد من أجل الإسهام في تحقيق الأمن العالمي. العمل على بعث روح الأمل في نفس المواطن العربي المحبَط.
أولا: تنقية الأجواء السياسية.
في عهد التكتلات البشرية العالمية، لم يعد مَقبُولا ما نشاهده من تشتُّت وتَمزُّق في الجسم العربيّ، وتباعد في المواقف يصل- في بعض الأحيان- إلى حد التنافُر والتناقض، دون مراعاة للمصالح العليا للأمة العربية. إننا أمام مشهد عربيّ مُعقَّد، تتصارع فيه أطراف متعددة مدفوعة بالبحث-بكل الوسائل المتاحة- عن مصالح داخلية وخارجية. ولعل من الحكمة أن نعدَّ العُدةَ لمواجهة ما يفرضه هذا الوضع الحَرِج من تحديات تكاد تكون غير مسبوقة. ولمّا كانت قوتُنا تكمن في وحدتِنا، فإنّ من أهم ممهِّدات الوصول إلى الوحدة المنشودة، العمل على إزالة كل ما من شأنه أن يُحدِث سوءَ تفاهم بيننا. علمًا أنّ ما يجمعنا أكثر بكثير-لله الحمد-ممّا يفرقنا. مِن ذلك-على سبيل المثال لَا الحصر- وحدة العقيدة، واللغة، والعادات والتقاليد، والماضي المشترك، ووحدة المصير، والتطلع إلى مستقبَل أفضل. إنّ مسؤولية الحكومات والشعوب العربية، تقتضي – كل من موقعه- أن يجدوا الحلول المناسِبة، بالسرعة الممكنة، للقضايا العالقة التي تشكل عقبة في طريق تفعيل العمل العربيّ المشترك؛ يجب أن نشخّصَ-بدقة وموضوعية- القضايا التي تختلف حولها وجهات نظرنا، فالتشخيص نصف العلاج. ثمّ بعد ذلك، تأتي مرحلة تناوُل العلاج الناجع. ولا بُدّ، في هذا المجال، من المكاشَفة والمصارحة ووضع النقاط على الحروف، حتى لا نظل نعلل أنفسنا بالأماني، معتقدين أنّ الزمن كفيل بحل مشكلاتنا. إنّ ذلك يدخل في باب ما يُعرَف بسياسة النعامة، ومقولة: كم من حاجة قضيناها بتركها. إنّ الأمر أخطر من أن يُترَك للزمن. إذا كان الرماد يغطي الجمر، والرياح ساكنة، فلا يجوز أن ننام بجواره لأنّ الرياح قد تهبّ، ونحن نيام، وتنسف الرماد عن الجمر فيشب حريق قد لا نستطيع إطفاءه، لأننا لم نكن حازمين، وعند ذلك ينطبق علينا المثَل العربيّ: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللّبن". لا بدّ من كشف المستور والتعامل بشفافية مع القضايا، لاستئصال جذور الداء.
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بتبديد الغيوم المخيِّمة على العلاقات البينية لبعض الدول العربية. وبذلك يكون البيت العربيّ قادرا على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
ثانيا: نبذ العنف السياسي:
في إطار ما يشهده العالَم من عنف وعنف مضاد يتزايدُ يومًا بعد يومٍ، فقد آن الأوان لتضافُر جهود سكّان هذا الكوكب الذي نعيش على أديمه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فُرَصٍ للتعايُش السلميّ بين بني البشر. علينا أن نُسلِّمَ بأنّ العنف-بجميع أنواعه ومستوياته- ليس دائمًا السبيلَ الأمثلَ لمعالجة المشكلات، وأنّ العنف ما دخل أمرًا إلّا شانَهُ. لقد أصبح العنف يخيّم على معظم تصرفات الإنسان وتعددت أشكاله وتداعياته! من أشكال العنف الذي نتحدث عنه، ظاهرة كثرة الانقلابات العسكرية على الأنظمة السياسية الحاكمة (بصرف النظر عن طريقة وصول هذه الأنظمة إلى الحكم)، واستخدام بعض الفرقاء السياسيين لوسائل عنيفة وغير دستورية بغية الإطاحة بالنظم السياسية القائمة. ومن هنا فإنّ المعارضة السياسية المسلَّحة لا تختلف كثيرا عن الانقلاب العسكريّ، فهما وجهان لعملة واحدة. وربما كانت المعارضة السياسية المسلَّحة أسوأ-في نتائجها وتداعياتها- من الانقلاب العسكريّ. ذلك أنّ الانقلابيين يُمسكون عادة بسرعة بزمام الأمور في البلد في حالة نجاح الانقلاب، ويُقضَى عليهم كذلك بسرعة في حالة فشله، دون الإخلال بالنظام، وتدمير البنية التحتية للبلد. أمّا المعارضة السياسية المسلحة فقد تشكل حربا استنزافية تتحول-مع الزمن-إلى حرب أهلية تنخر جسم البلد وتنهك اقتصاده وقدراته الحيوية وتعيده عشرات السنين إلى الوراء، وقد لا تصل في النهاية إلى الهدف المنشود (الإطاحة بالنظام القائم) لأن القوة غير متكافئة، الأمر الذي يقتضي ترسيخ ثقافة الحوار بين الفرقاء السياسيين-الحاكمين والمحكومين- قبل أن يتفاقم الخلاف بينهم ويصلوا إلى "نقطة اللاعودة"، ويصبح من العسير-بل من المستحيل- أن يجلسوا معًا على طاولة واحدة.
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تعمل على توجيه بوصلة السفينة العربية نحو سياسة حكيمة تُحصِّن الأمة العربية من هذا النوع من العنف المدمِّر الذي أضر بالأمن القومي العربي. لقد أصبح أعداء العرب-ومن يجاريهم في هذا الطرح، ربما من أجل النقد والحث على الاتفاق- يتندَّرون ويتهكمون ويسخرون منّا، قائلين: "لقد اتفق العربُ على ألَّا يتفقوا". نأمل أن تنجح القمة في توحيد المواقف السياسية تجاه القضايا العربية المصيرية، وأن تعمل على معالجتها عن طريق الحوار المفضي إلى التفاهم، كلما كان ذلك ممكنا.
ثالثا: التنمية البشرية:
يُعَدُّ العنصرُ البشريُّ المحرِّكَ الرئيسَ لكل تنمية، ورأسَ مالٍ لا غِنًى عنه. وقد تنبّهت دول عديدة لهذه الحقيقة الثابتة فركَّزت جهودها وبرامجها ومشروعاتها على تنمية الإنسان، وجعلته الوسيلة والهدف في الوقت نفسِه، من أجل تحقيق تنمية شاملة ومستديمة. تقتضي التنمية البشرية، من بين أمور أخرى لا يتسع المقام للتوسع فيها، أن نهتم بالإنسان ونستثمر فيه. نعلمه تعليما نافعا، ننمي لديه مهارات التفكير السليم (الإيجابيّ)، وحُسْن الاختيار، وتحمُّل المسؤولية، والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمع، ونبذ الكسل والاتكالية. ومع ما تتطلبه التنمية البشرية من تخطيط وقرارات وإجراءات مصاحبة نتركها للمتخصصين، فإن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض العوامل المساعدة على تحقيقها. لا بد من تحقيق الديمقراطية وحرية التعبير، والعمل على الرفع من مستوى المعيشة لدى السكان بما في ذلك الرعاية الصحية وتذويب الفوارق الاجتماعية، وتحسين تسيير المؤسسات، وتقريب الإدارة من المواطنين والاسترشاد بآرائهم حول أساليب العمل. ولعلّ بيت القصيد في كل ما ذُكِر، يتجسّد في التعليم الذي يُعَدُّ المحور الأساس لكل تنمية بشرية، سواء أتعلّق الأمر بتنمية الفرد أم بتنمية المجتمع. وقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة في وقت مبكّر فقامت بإعداد الدراسات ووضع البرامج الساعية إلى إصلاح التعليم وتطويره ليستجيب لحاجات ما أصبح يُعرَف بـ:" مجتمع المعرفة ". ومُواكَبةً لهذا التوجُّه الكَونيّ، يأتي القرار رقم (354) الصادر عن القمة العربية التي عُقدت بالخرطوم، في شهر مارس /آذار 2006م، الداعي إلى إعداد خُطَّة لتطوير التعليم في الوطن العربيّ، وتكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتنفيذها، بالتنسيق مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. عُرِضت الخُطَّةُ بعد إعدادها على القمة العربية التي عُقِدت بدمشق، في شهر مارس/ آذار 2008م، حيث أُقِرَّتْ، واتُّفِقَ على أن تقوم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بمتابعة تنفيذها، بالتنسيق مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. وجاء في البند (3) من قرار القمة العربية: "دعوة الدول العربية الأعضاء إلى تنفيذ ما ورد في الخُطَّة، وتوفير التمويل اللازم لإنجازها، على المستوى الوطنيّ (القُطريّ)، وتقديم جميع أنواع الدعم المطلوب لضمان نجاحها حسب الإمكانات المتاحة لكل دولة".
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تعمل على تفعيل القرارات المتعلقة بالتنمية البشرية، وفي مقدمتها خُطة إصلاح التعليم.
رابعا: التكامل الاقتصادي:
في سنوات السّتّين (الستينيّات) من القرن الماضي (القرن العشرين)، كنا نقرأ أنّ العالَم العربيّ حَباهُ اللهُ بثلاثة أُمورٍ تجعلُه قادرًا على الاكتفاء الذاتي في مجال الغِذاء بصفة خاصة: اليَد الماهِرة المصرية، والأموال الخليجية، والأراضي الخِصبة السودانية. وبإلقاء نظرة على هذه العناصر الثلاثة، نجد أنها ما زالت قابلة للاستثمار. ثُمّ إنّ الدول العربية الآن (في القرن الحادي والعشرين) أصبحت-لله الحمد-تتوفر على اليَد الماهرة، ولم يعد الأمر مقتصرا على الخبرة المصرية. الأراضي الخِصبة السودانية ما زالت قائمة بل إنها تحسّنت، وقد تعززت بأراضٍ خِصبة (طبيعية أو مستصلحة) في السودان وفي العديد من الأقطار العربية الأخرى. المال الخليجيّ ما زال متوفرًا. وبالإضافة إلى العناصر المذكورة (من نِفط وغاز وأراضٍ خِصبة ويَدٍ ماهرة)، فلابدّ من الإشارة إلى أنّ للعالَم العربيّ إمكاناتٍ هائلةً في هذه المجالات وفي غيرها، لا يتّسِع المقام للتوسُّع فيها؛ لدينا الذهب، والحديد، والنُّحاس، والفوسفات، والقُطن، والصّمغ العربيّ، والسمك، والثروات الحيوانية، وطاقات متجددة (شمسية وريحية وبحرية) قابلة للاستثمار، وموقع جغرافيّ إستراتيجيّ، وقوّة بشرية يُحسَب لها حسابُها. والقائمة طويلة.
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تتّخذ إجراءات عملية من أجل تفعيل التكامل الاقتصاديّ العربيّ.
خامسا: وضع خُطة سياسة لغوية موحّدة:
ليست اللغةُ أداة تَواصُل يُعبِّر بها قومٌ عن أغراضهم فحسْب، وإنما هي كذلك وِعاءُ فِكرهم وحضارتهم وتاريخهم وسِجِلُّ تراثهم. إنّ اللغة العربية-لغة القرآن الكريم-هي أقوى الروابط-بعد عقيدة الإسلام- التي تربط بين الأقطار العربية-من المحيط إلى الخليج-لتتجاوز ما تعانيه من تجزئة وتقسيم وتشتيت جهود. تمتاز العربية بأنها تجمع بين القديم والحديث (بين الأصالة والمعاصرة)، لغة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ وتفتح صدرَها-في الوقت نفسِه-لكل جديد. يجب تطبيق توصيات مؤتمرات التعريب الخاصة بموضوع النهوض باللغة العربية، وبخاصة تلك المطالبة بإصدار قرار سياديّ، يوجه كل الدول العربية بالتعريب الشامل لمؤسسات التعليم، قبل الأساس، والأساس، والثانويّ، والجامعيّ. ومن المفارقات العصية على الفهم، أن هذه المؤتمرات يحضرها وزراء التربية والتعليم في الوطن العربيّ، أو من ينوبون عنهم، وتشارك فيها مجامع اللغة العربية واتحادها، والجامعات واتحادها، وعدد كبير من المؤسسات العربية المتخصصة، والعلماء، والمفكرون، والخبراء، والمثقفون، والكتاب، والصحفيون. ومع ذلك فإن التوصيات الصادرة عن هذه المؤتمرات تظل حبرا على ورق، ولا تجد من يلتفت إليها، بل تبقى حبيسة في الرفوف إلى أن يحين موعد اللقاء في مؤتمر جديد للتعريب لإصدار توصيات جديد، ينتظرها المصير نفسُه. إنّ مشكلتنا، في عالمنا العربي، هي أننا لا نهتم في الغالب بتنفيذ التوصيات التي يُصدِرها أهلُ الاختصاص، ولا بتطبيق القوانين التي تسنها مؤسساتنا التشريعية، ولا نلتزم بمقتضيات الدساتير التي هي نصوص ذات مرجعية سامية!
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، العمل على تطبيق التوصيات الصادرة في هذا الشأن بالحزم والسرعة المناسبين؛ تلك هي رغبة غالبية الشعوب العربية، ولا يجوز أن تكون الشعوب في وادٍ والقادة في وادٍ آخرَ.
سادسا: موقف موحّد من القضية الفلسطينية:
. إن سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" التي وقع في فخها إخوتُنا في فلسطين الحبيبة، قد أضرت بالقضية الفلسطينية العادلة، وأثّرتْ سَلْبًا في العلاقات البينية لبعض الأقطار العربية (ولو كان ذلك بمستويات متفاوتة). وممّا زاد الطينة بِلة ما يقع في بعض الأحيان من اصطفاف عربيّ مع هذا الفريق أو ذاك، وما يعيشه عالمُنا العربيّ حاليا من أوضاع صعبة لا يتسع المقام للخوض في تفاصيلها. لقد أثبتت التجارِب أنّ تماسك الجبهة الداخلية في أيّ بلد، كفيل بالصمود أمام أيّ خطر خارجيّ. كما أثبتت أنّ توحيد المواقف داخل أيّ مجموعة بشرية يُكسِبها قوة ومَهابة في تعاملها مع المجموعات البشرية الأخرى.
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تعمل على تفعيل المبادرة العربية المتعلقة بالسلام بين العرب وإسرائيل (أو أن تبحث عن البديل المناسب). ويدخل في هذا الإطار، توحيد المواقف العربية تجاه القضية الفلسطينية (قضية العرب الأولى)، وبذل المزيد من الجهود والمساعي الحميدة لدى إخوتنا الفلسطينيين-قياداتٍ وفصائلَ- من أجل إقناعهم بضرورة الحرص على توحيد مواقفهم، منطلقين من أن ما يوحِّدهم أكثر ممّا يفرقهم، ومن أنّ الهدف واحد، وإن تعددت الوسائل والطرائق. نأمل أن تنجح القمة في إقناع إخوتنا الفلسطينيين بضرورة الدخول-دون تأخير- في حوار جادّ وصريح، من أجل الوصول إلى اتفاق تام ونهائيّ حول القضايا الأساسية المتعلقة بالأسلوب الأمثل لتحرير الأرض وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن يمهِّد التفاهم الفلسطيني لتفاهم عربيّ شامل حول أفضل السبل للوصول إلى الهدف المنشود.
سابعا: إحياء التعاون العربي الإفريقي:
جاء في مقال نشرتُه سابقًا، بعنوان: "هل أخفق العالم في تحقيق الأمن والرخاء للشعوب"، ما يأتي: "في القرن الحادي والعشرين، لم يعد في إمكان أيّ دولة أن تحقق الأمن والرخاء لمواطنيها بمعزل عن التعاون مع الدول الأخرى، ممّا يقتضي المزيد من التنسيق بين الدول، بصرف النظر عن الأوضاع الداخلية الخاصة بكل دولة. لقد أصبح العالَم "قرية واحدة"-كما يقال-إن لم نقل "غرفة واحدة". وذلك بسبب ثورة المواصلات، وسرعة تدفّق المعلومات، وتعدد وسائل الاتصال، وسهولة التواصل الاجتماعيّ، وتطلع المجموعات والأفراد إلى المساهمة الفاعلة في صنع القرارات المصيرية التي تضمن التعايش السلميّ بين بني البشر، على أسس عادلة ومُنصِفة. وبالتوازي مع هذا التعاون الدوليّ المطلوب، لا بد من التنسيق والتعاون بصفة خاصة بين المجموعات البشرية التي تربطها علاقات خاصة".
إنّ الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومخلَّفات الاحتلال الأجنبيّ، والتطلع إلى المستقبل، والمصير المشترك، كلها عوامل تؤكد حتمية التعاون العربيّ الإفريقيّ وتجعل منه مَطلبًا ملحًّا وأداةَ تنمية وازدهارٍ لا غنًى عنها. وللتذكير، فقد عُقدت أول قمة عربية إفريقية بالقاهرة في شهر مارس/ آذار 1977م. وقد تضمَّن "إعلان القاهرة"، من بين أمور أخرى: 1-الإعلان السياسيّ. 2-إعلان برنامج للتعاون العربيّ الإفريقيّ. 3-الإعلان الاقتصاديّ. وكانت الجهود في تلك الفترة منصبة على خلق آليات للتعاون، تمثلت-على سبيل المثال لَا الحصر-في إنشاء: المصرف العربيّ للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، والصندوق العربيّ للمعونة الفنية للدول الإفريقية، والمعهد العربيّ الإفريقيّ للثقافة والدراسات الإستراتيجية، والمعرض التجاريّ العربيّ الإفريقيّ، إلخ. وعُقِدت القمة العربية الإفريقية الثانية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2010م بليبيا. وقد صدرت عن هذه القمة وثيقة مهمّة تتضمّن خُطة عملٍ للتعاون العربيّ الإفريقيّ خلال الفترة من: 2011 إلى 2016م. وحتى لا نطيل الحديث في الماضي، وانطلاقًا ممّا اعْتُمِدَ في القِمتيْن (قمة التأسيس، وقمة التخطيط) من قرارات وتوصيات، فمن الواضح أننا لم نصل بعدُ إلى تحقيق الأهداف المنشودة.
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تعمل على تفعيل مؤسسات العمل العربيّ الإفريقيّ، ومنها: المجلس الوزاريّ العربيّ الإفريقيّ، واللجنة الدائمة للتعاون العربيّ الإفريقيّ، ولجنة تنسيق التعاون العربيّ الإفريقيّ، إلخ. مع التركيز في هذه الفترة الحرجة التي يعيشُها الجانبان (العربيّ والإفريقيّ) على تنسيق المواقف في المحافل الدولية، تجاه القضايا الحيوية المشتركة. بالإضافة إلى استِشراف المستقبَل، بِإعطاءِ نفَسٍ جديد للتعاون العربيّ الإفريقيّ في مختلِف المجالات، ومراجعة الخُطة المذكورة (2011-2016م) وتقويمها، من خلال ما آلت إليه الأمور.
ثامنا: موقف موحّد من أجل الإسهام في تحقيق الأمن العالمي:
إنّ المتتبع لما يجري في العالم من حروب وفِتن ونزاعات وقَلاقِلَ، يُدرك بوضوح أنّ حالة عدم الأمن التي تُخيِّم على الوضع الدوليّ، أصبحت ظاهرة خطيرة تَتَهَدَّدُ السِّلمَ والاستقرارَ الدولييْن وتقضي على كل أمل في التعايش السِّلميّ والتنمية والعيش الكريم. ولا يُشكِّلُ عالَمُنا العربيُّ استثناءً من هذه الظاهرة الكونية. من ذلك-بصفة خاصة-ما يجري في العراق وسورية واليمن وليبيا، وبمستويات متفاوتة الخطورة في بلدان عربية أخرى. لم يعد اليوم أيّ بلد-مهما كانت قوته البشرية، والمادية، والعسكرية، والأمنية-بمنأى عن هذا الكابوسِ الجاثِم بِكَلْكلِه على صُدُور البشر. تعددت أنواعُ القتل وأساليبُه. انتشر الإرهاب والإرهاب المضاد: إرهاب الأفراد وإرهاب الدولة. اختلط مفهوم الإرهاب بمفهوم مقاومة الاحتلال. تعددت أسماء المنظمات الإرهابية. كثرت العصابات المسلحة. تنامت الجريمة المنظمة المحلية والعابرة للحدود والقارات. كثرت الاعتداءات اللفظية والجسدية ذات الطابع العَقَدِيّ أو المذهبيّ أو العرقيّ أو الفئويّ. اختلفت الآراء حول المقاربات والخُطط الأمنية المناسبة والفعّالة للتصدي لهذا الغُول الرهيب. وقد اتفق معظم المحللين على أنّ المُقارَبة الأمنية لم تَعُدْ كافيةً لاجْتِثاث هذا السرطان، بل لا بد من مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار-بالإضافة إلى الجانب الأمنيّ- الجوانب القانونية (سيادة القانون واستقلالية القضاء)، والفكرية والثقافية والإعلامية (من تعليم وتكوين وتوعية وتحسيس). وممّا زاد الأمور تعقيدا، انتشار وباء كوفيد 19 الذي هز أركان العالم بأسره. إضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وما ترتب عليها من ارتفاع في الأسعار وندرة في المواد الاستهلاكية.
المطلوب من القمة العربية بالجزائر، أن تخصص وقفة متأنية لدراسة مدى قدرة الدول العربية مجتمعةً على الإسهام في تحقيق الأمن العالمي في مفهومه الشامل؛ فنحن جزء من هذا العالم الذي يوصَف بأنه أصبح قرية واحدة.
تاسعا: العمل على بعث روح الأمل في نفس المواطن العربي المحبَط:
إضافة إلى ما تضمنته المحاور السابقة من حَثٍّ على التعاوُن والتكافُل ورَصِّ الصُّفوفِ وتوحيدِ المَواقِفِ، فإنني أُشدِّدُ على أهمية-بل ضرورة-اعتماد حكامة رشيدة تخدم مصلحة الوطن والمواطن، مع العمل على تيسِيرِ التواصُل بين الأشقاء العرب-من المحيط إلى الخليج-من خلال اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتسهيل حرية تنقُّل الأشخاص والبضائع بين الدول العربية. من ذلك، على سبيل المثال: إلغاء تأشيرة الدخول، وتفعيل السوق العربية المشتركة، وُصُولًا إلى إصدار جواز السفر العربيّ المُوحَّد (والمُوحِّد). يُشارُ، في هذا الإطار، إلى ما أصبح يُعرَف بالحرّيات الخمسِ: حرية التنقُّل، والإقامة، والعمل، والتملُّك، والمشاركة في الانتخابات.
أرجو أن تَتَكَلَّلَ أعمال القمة العربية بالجزائر بالنجاح التامّ، وأن تَصدُرَ عنها قرارات تاريخية تَبْعَثُ الأمل في نفوس المواطنين العرب المثخنين بالجراح، وتُخَفِّف من همومهم وما يُعانُونَهُ من إحباط نفسيٍّ يَصِلُ في بعض الأحيان إلى درجة اليأس؛ وكل ذلك بسبب الأوضاع المؤلمة التي يشهدها العديد من الأقطار العربية الشقيقة.
وأختم بهذا البيت الشعريّ، ولسان حالي يُردِّد مع/ الطّغرائيّ:
اُعَلِّلُ النَّفْسَ بِالْآمَالِ أَرْقُبُهَا * مَا أَضْيَقَ الْعَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الْأَمَلِ!
ملحوظة:
سبق أنْ أبديتُ وجهة نظري في معظم هذه الموضوعات، في سلسلة مقالات نشرتها تحت عناوينَ مختلفةٍ، في أثناء التحضير لعقد القمة العربية بنواكشوط، تحت شعار: "قمة الأمل"، في شهر يوليو/ تموز سنة 2016م. وقد ارتأيتُ أن أطلع المشاركين في القمة العربية بالجزائر على هذه الآراء والأفكار لعل أن يجدوا فيها ما يفيد في معالجة بعض القضايا التي ما زالت عالقة.
والله وليّ التوفيق.